من جميل ما قرأت وأنا أبحث عن بيتي حسان بن ثابت رضي الله عنه لمطارحة مع أخي محمود حول جواز قول أميمة: ( دمائي قانيات)
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى... وأسيافنا يقطرن من نجـدةٍ دمـا
ولدنا بني العنقاء وابنـي محرق..... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابن ما
أنقل ما يلي:
وقف النابغة الذبياني في قبته الحمراء ليحكم بين الشعراء ، فأنشدته الخنساء ، فقدّمها ، وأعجب بشعرها . ثمّ جاءه الأعشى فامتدحه ، وكاد أن يُقدِّمه . أمَّا حسان ابن ثابت ، فيبدو أن حظه كان سيئاً هذه المرة ، وأنّ أداته الفنيّة قد خانته في المجتمع الأدبي ، فقد أنشد حسّان النابغة قصيدته المشهورة التي فخر فيها الشاعر بنفسه وقومه ، وهي قصيدة طنّانة ، قال عنها الدكتور شوقي ضيف : (( ومن رائع شعره ميميته التي يملؤها ضجيجاً وعجيجاً بمفاخر قومه ))(22) ، والتي يقول فيها :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دمـا
ولـدنا بني العنقاء وابني محـرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابن ما
أمَّا النابغة الذبياني ، فتذكر الروايات أنه قد هاجم هذه القصيدة .
ويبدو أن الظلمَ يُطارد حسان حتى في عصرنا الحديث ، وأذكر أنني حاولتُ ذات مرة أن أُبيِّن الحقيقة ، وأن أنقل وجهة نظرٍ قرأتُها حول هذين البيتين ، ولكنّ محاولتي ذهبت عبثاً أمام إصرار أستاذ النقد الأدبي-في الجامعة التي يفترض فيها حرية الرأي- ، إذ لم يدع لي أستاذي أن أنقل للطلاب ردّ قدامة بن جعفر على رأي النابغة ، وكأنّ رأيه عقيدة لا تقبل الجدل .
وحسان بن ثابت شاعر لا يُبارى،بل هو أشعر أهل اليمن قاطبة، قال عنه الذهبي(23) : "سيِّد الشعراء المؤمنين، المؤيّد بروح القدس". ونقل ابن عبد البر عن الأصمعي قوله: (( حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء . فقال أبو حاتم: تأتي له أبيات ضعيفة. فقال الأصمعي: تأتي له أبيات لا تصحّ عنه))(24) .
وصدق الأصمعي ، فقد دسّ عليه كثيرٌ من الشعر المنحول لأسباب متعدّدة منها : معاداة حسان للقرشيِّين ، الذين آذوا النبيّ ، ومنها انضمامه للعثمانيِّين في خلافة علي، واشتداد المنافسة بين الأنصار وأهل مكة في صدر الدولة الأموية ؛ فقد أُدخل في شعره كثيرٌ مما ليس منه ، فكان القرشيّون ينسبون إليه ضعيف الشعر لإيذائه .
ونخلص مما سبق إلى أنّ حسَّان شاعر فحل ، ولا يضيره ما دسّ عليه من ضعيف الشعر ، ولو كان في شاعريته خلل فنِّي ، لما اختاره الرسول وأصحابه ، وفيهم الناقد المجيد ، كعمر وعائشة ، وهم عرب فصحاء يعرفون قيمة الكلمة ، وأسرار البيان .
أعود بعد هذه الخرجة التي لا تبعد كثيراً عن صلب موضوعنا ؛ وهو إنصاف هذا الشاعر الصحابي ، أعود لنقد النابغة لبيتَي حسّان سالفي الذكر :
تناقلت الروايات أنّ حسَّان قد ارفض وجهه عرقاً حينما انتقده النابغة ، وقال: أنا أشعر منك ومن أبيك. فردّ عليه النابغة –وكأنّه انتصار لنفسه، ومنافسة واضحة لحسّان، ونقد بعيد عن الموضوعيَّة- ، قائلاً : أتستطيع أن تقول :
فإنَّك كالليل الذي هـو مـدركي وإن خلتُ أنّ المنتأى عنك واسع
وتصمت الروايات عند هذا الحدّ .
ويبدو أنّ الحديث قد طال بينهما ؛ فصمتُ حسّان دليلٌ على تفوّق النابغة . والنابغة شاعر لا جدال في ذلك ، ولكنّ حسّان لا يقلّ عنه شاعريّة .
اعترض النابغة على قول حسّان في ميميته المشهورة :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى........ وأسيافنا يقطرن من نجـدةٍ دمـا
ولدنا بني العنقاء وابنـي محرق......... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابن ما
يُشير قدامة بن جعفر إلى نقطة هامَّة، وهي اضطراب آراء النقّاد من قديم، وتقديمهم عمل على عمل ، لا لجودة هذا العمل ، بقدر ما هو نظر بالدرجة الأولى إلى اسم من وقّع على هذا العمل؛ يقول قدامة: ((وأكثر الفريقين لا يعرف من أصله ما يُرجع إليه ويتمسك به ، ولا من اعتقاد خصمه ما يدفعه ويكون أبداً مضاد له . لكنهم يخبطون في ظلماء ، يعمد أحد الفريقين إلى ما كان من جنس قول خصمه فيعتقده، ومرة يعمد إلى ما جانس قوله في نفسه ، فيدفعه ويعتقد نقضه ))(25) .
أخذ النابغة على حسّان قوله في البيت الأول "الجفنات الغر" ، وكان الأولى –كما يرى- أن يقول : لنا الجفان البيض ؛ لأنّ الغرة بياضٌ قليلٌ في لونٍ كثيرٍ ، والجفنات جمع قلة . ثمّ قال : "يلمعن بالضحى" ، ولو قال بالدجى لكان أحسن ؛ إذ كلّ شيء يلمع بالضحى. ثمّ قال : "وأسيافنا يقطرن" ، ولو قال يجرين لكان أكثر وأحسن . ثمّ إنّه في بيته الثاني –كما يروي الناقد- فخر بمن ولد ، ولم يفخر بمن ولده .
هذه مآخذ النابغة على حسان ، وهي تبدو للناظر محقة ، ولكنّ حسّان لم يرض بهذا الحكم ، وأحسّ أنه قد ظلم به ؛ فهو ممَّن يحرص على المساواة والصدق في تناوله الشعري ، وهو شيء كان يُنادي به .-وحِرصُ الشاعر على الجودة الفنيّة أفضل من المبالغة والغلوّ والتكلّف- .
وحكم النابغة –كما يظهر من الرواية- كان سريعاً؛ إذ لم يستمع إلى وجهة نظرالشاعر، بل خرج بالحوار من القضية إلى الحمية، وأخذ ينتصر لنفسه وشاعريته. وكـم كنّا نتمنّى أن يُمهل حسّان ليُفصح عن وجهة نظره، ويُبيِّن سبب ثورته على نقد النابغة اللاذع لشاعريته أمام الملأ في ملتقى عكاظ الثقافي .
وأعتقد –كما قلتُ سابقاً- أنّ الحوار قد طال ، ويبدو أنّه مبتور ، كما بُتر شعر كثير من الشعر الجاهلي الذي لم يصلنا إلا أقلّه .
ولكنّ النقاد –بعد النابغة- بيّنوا وجهة نظر حسّان –التي أراد بيانها حول نقد النابغة- ، وانتصروا لشاعريته ؛ فقدامة بن جعفر وقف موقفاً مغايراً لمن سبقه ، ونظر نظرة عميقة ، فيها مقارنة للشعر بالشاعرية التي تحرف النص عن مساره العادي إلى وظيفته الجماليّة ، والتي وصفها ياكوبسون بأنّها انتهاك لسنن اللغة العادية(26) .
لقد كانت نظرة قدامة نظرة عميقة لماهية الشعر الذي تفسده المبالغة المتكلّفة ، حين قال(27) : (( فإنّ النابغة –كما حُكي عنه- لم يرد من حسّان إلا الإفراط والغلوّ بتعبيره ، فكان كلّ معنى وضعه ما هو فوقه وزائد عليه . ومن أمعن النظر علم أنّ هذا الردّ من حسّان –من النابغة كان ، أو من غيره- خطأ بيِّن ، وأن حسان مصيب ؛ إذ كانت مطابقة المعنى بالحق في يده ، والرد عليه عادلاً عن الصواب إلى غيره )) .
وللقارئ الكريم أن يُشاركني في هذه المناقشة الفنية ، وله أيضاً أن يتجرّد من ذاتية الأسماء وصولاً للحقيقة-وقد عرضت سابقاً لرأي النابغة فلا داعي لإعادته مرة أخرى- . يقول قدامة رادّاً على النابغة : (( فمن ذلك أنّ حسّان لم يرد بقوله "الغر" أن يجعل الجفان بيضاً ، وإنّما أراد بالغرّ : المشهورات ؛ كما تقول : يوم أغرّ ، ويد غرّاء ، وليس يُراد البياض في شيء من ذلك ، بل هو الشهرة والنباهة ))(28) .
وأمّا قوله إنّ الجفنات جمع قلّة ، فلم يكن مصيباً ؛ إذ إنّ الجفنات والجفان كلاهما يُفيد الكثرة ؛ يقول ابن عقيل -شارحاً قول ابن مالك :
أفعلـة ، أفعـل ، ثمّ فعلـة ثمـة أفعال جمـوع قلــة- :
((هذه أمثلة جمع القلة، وما عدا هذه الأربعة من جموع التكسير، فجموع كثرة))(29).
ومعلوم أن جمع المؤنث السالم لا تفريق فيه بين قلة أو كثرة؛ فبناؤه ثابتٌ، ودلالته على الجمع مطلقة الكثرة والعموم .
وأمَّا قول النابغة "يلمعن بالضحى"، فلو قال "بالدجى" لكان أحسن منه؛ إذ كلّ شيء يكاد يلمع بالنهار من الأشياء ، ومما له أدنى نور وأيسر بصيص يلمع فيه؛ فمن ذلك الكواكب –وهي بارزة لنا ، مقابلة لأبصارنا- دائماً تلمع في الليل ، ويقلّ لمعانها بالنهار حتى تخفى ، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار . والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها .
وأمّا قول النابغة، أو من قال إن قوله في السيوف "يجرين" خيرٌ من قوله "يقطرن" ؛ لأنّ الجري أكثر : فلم يُرد حسّان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به النَّاس ويتعاودونه من وصف الشجاع الباسـل، والبطل الفاتك، بأن يقولوا: سيفه يقطر دماً. ولعله لو قال "يجري" لعدل عن المألوف في وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر به عادة العرب(30) .
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
أمّا ما قيل عنه من أنه فخر بمن ولد ، ولم يفخر بمن ولده ، فلا أرى لهذا الطعن وجهاً ؛ فقد فخر بهما في بيته الثاني جميعاً ؛ فخر بأنّهم ولدوا بني العنقاء ، وابني محرق ، وافتخر في شطر البيت الثاني بأنّ من ولدوهم أفضل منهم ضرورة ، ولذلك ترك مدحهم والفخر بهم مفتوحاً ؛ فهم أبناء ما يعجز الشعر عن وصفهم "وأكرم بنا ابن ما" . ولا شكّ أن التعمية في غالب الأحيان تكون في صالح الممدوح .
ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابن ما
وبعـد : فلعلّ فيما سبق كشفٌ لحقيقة هذه الفرية على فنّ حسّان الشـعري –إن ثبتت صحتها(31)- ، ولكنّها على العموم مشهورة ؛ إذ قلّما يتناول متناول النقد في العصر الجاهلي إلا جعلها من نماذج نقده .
وقليلٌ هم الذين يستقصون أبعاد الحقيقة، ويصنعون كصنيع قدامة بن جعفر ، الذي رفع ظلم الحكم الموقَع على هذين البيتين .
والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا يُحجم النقاد عند ذكرهم لرأي النابغـة هـذا –والذي يُسيء فيه إلى حسَّان- عن ذكر الرأي الآخر بهامشه، ويدعوا الحكم للقارئ ؟!
بيد أني أعتقد أنّ حسَّان ممَّن ظُلم في تاريخنا الذي اعتراه بعض التشويه، والذي حرص بعض كتبته –ما هُيِّئت لهم الفرصة- على الإساءة لأعلامه ؛ سيما شاعر رسول الله حسَّان الذي قدَّم للإسلام بشعره خدمات مشهودة.
http://www.tcabha.info/portal/pages/holeeah/h1/p14.htm
------------
وقد خطر لي بعد أن فرغت من هذه المطالعة أن أستعرض القولين على أساس م/ع
فالموقف موقف قوة يناسبه الأعلى من قيمتي المؤشر م/ع للقولين قول حسان وتعديل النابغة، فلنر أي القولين أعلى قيمة
فقول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى........ وأسيافنا يقطرن من نجـدةٍ دمـا
3* 1 3 2* 2* 3* 2* 3* 3 ......................3* 2 3 2* 2* 3* 2* 3* 3
م/ع ........للصدر= 6/2=3.0...........للعجز=6/3=2.0........للبيت=12/5=2.4
وعلى ما في القول ( لنا الجفان البيض يلمعن في الدجي = 3 3 2 2 3 2 3 3 من كسر للوزن أتجاوزه
فقول النابغة
لنا الجفان البيض يلمعن بالدجى ...............وأسيافنا يجرين من نجدة دما
3* 3 2* 2 3* 2* 3* 3...................3* 2 3 2* 2 3* 2* 3* 3
م/ع .........للصدر= 5/3=1.7.........للعجز=5/4=1.3......للبيت=10/7=1.4
ومع عدم إهمال أي بعد في النصين فمن وجهة النظر الجزئيةِ لدلالة المؤشر (م/ع) نرى أن هذا المؤشر ينحاز لوجهة نظر الكاتب المؤيدة لقول حسان بن ثابت في ارتفاع مؤشرات الصدر والعجز والبيت عن مثيلاتها في النص الذي يراه النابغة، وهذا مناسب لموقف القوة الذي يعبر عنه البيت.
لعل هذه إحدى بدايات تطبيق مؤشر م/ع على نصوص التراث وإدخاله رحاب التذوق والنقد الأدبي.