الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم القيامة ، أما بعد :
إن كل من تدبر موارد التقوى في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام علم أنها سبب كل خير في الدنيا والآخرة بل سبب دخولك الجنة ، ولشدة الحاجة إلى التقوى ولعظم شأنها ، ولكون كل واحد منا بل كل واحد من المسلمين في أشد الحاجة إلى التقوى والاستقامة عليها ، فهذه كلمة موجزة عسى الله أن ينفع بها أخوتي أهل العلم والمعرفة والمسلمين أجمعين .
إنها كلمة شديدة الأهمية لكثرة ورودها في القرآن وضرورة الالتزام بها وفهمها جيداً، فكلمة (تقوى) من الفعل (وقى) الذي من معانيه الستر والصون والحذر والوقاية ، وحقيقة التقوى أداء ما أوجبه الله على العبد من الطاعة ، واجتناب ما حرم عليه من المعصية . وأصلها وأساسها شهادة أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وليس المراد مجرد لفظ الشهادة وإنما المراد معناها علمًا وعملا ، فيخلص العبد عباداته لله وحده مؤمنا بأن الله ربه لا إله غيره ولا رب سواه ، ويتبرأ من عبادة غير الله ويكفر بها ، ويعتقد بطلانها ويؤمن بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي صلى الله عليه وسلم هو عبد الله ورسوله حقا أرسله الله إلى جميع الثقلين ، فمن أطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار . يا أخي المسلم يا عبد الله ، حين تقرأ كتاب ربك من أوله إلى آخره ، تجد التقوى مفتاح كل خير ، وسببه في الدنيا والآخرة ، فالتقوى سبب السعادة والنجاة وتفريج الكروب والعز والنصر في الدارين الدنيا والآخرة ، ولنذكر في هذا آيات من كتاب الله ، ترشد إلى ما ذكرنا ، من ذلك قوله جل وعلا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } (الطلاق 2 – 3) فمن اتقى الله جعل له مخرجًا من ضيق الدنيا وضيق الآخرة ، والإنسان في أشد الحاجة ، بل في أشد الضرورة إلى الأسباب التي تخلصه من الضيق في الدنيا والآخرة ، ولكنه في الآخرة أشد حاجة وأعظم ضرورة ، فمن اتقى الله في هذه الدار فرج الله عنه كربات يوم القيامة ، وفاز بالسعادة والنجاة في ذلك اليوم العظيم العصيب ، فلا تأت هذه الكلمة إلا والجنة جزاء كل متق ، بل أكثر من ذلك فالمتقون هم الناجون من النار يقول الله جل وعلا :{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا . ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }(مريم 71 -72 ) فمن وقع في كربة فعليه أن يتقي الله في جميع الأمور ، حتى يفوز بالفرج والتيسير ، فالتقوى باب لتفريج كربة العسر وكربة الفقر وكربة الظلم وكربة الجهل وكربة السيئات والمعاصي وكربة الشرك والكفر إلى غير ذلك ، فدواء هذه الأمور وغيرها أن يتقي الله بترك الأمور التي حرمها الله ورسوله ، وبالتعلم والتفقه في الدين حتى يسلم من داء الجهل ، وبالإخلاص في عمله وإتقانه، وبالحذر من المعاصي والسيئات حتى يسلم من عواقبها في الدنيا والآخرة ، فيُعطى كتابه بيمينه إذا استقام على التقوى ، وبشماله إذا انحرف عن التقوى ، ويدعى إلى الجنة إذا استقام على التقوى ، ويساق إلى النار إذا ضيع التقوى ، وخالف التقوى ولا حول ولا قوة إلا بالله ... وبذلك يتوجب على المسلم أن يتمسك بشريعة الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدم طاعته على هوى نفسه، وعلى طاعة كل أحد ، ومتى آثر هوى نفسه على طاعة الله ورسوله كان ذلك ضعفا في إيمانه ، ونقصا في شهادته أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله . وفي قوله عز وجل سبحانه : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } (الحج 1 )تذكير بالآخرة وتحريض على الاستعداد لها ، وتحذير من أهوالها وشدائدها . جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث من كن فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين .
إن التقوى وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ } (النساء131) فالتقوى أصلح للعبد وأجمع للخير، وأعظم للأجر، وهي الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، الكافية لجميع المهمات. والتقوى وصية السلف الصالح رضوان الله عليهم، كان أبو بكر ـ رضي الله ـ عنه يقول في خطبته: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، ولما حضرته الوفاة، وعهد إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ دعاه فوصاه بوصيته قائلا : اتق الله يا عمر، وحين كتب عمر رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله : أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، واجعل التقوى نصب عينيك وجلاء قلبك . وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل ،وقال رجل لرجل أوصني، قال: أوصيك بتقوى الله، والإحسان، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وكتب رجل إلى أخيه أوصيك بتقوى الله فإنها من أكرم ما أسررت وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت. ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: ،اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن .والتقوى هي أجمل لباس يتزين به العبد: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } (الأعراف ـ 26). وكما قال الشاعر :
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعـة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
والتقوى هي أفضل زاد يتزود به العبد، قال تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْر الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ} (البقرة-197) ...