المبارك وابن عياض
الدكتور عثمان قري مكانسي
موقعٌ في النت من أكثر المواقع نفعاً ، لا أشبع منه ولا أرى غيرهُ – من قبيله – خيراً منه – بزعمي – فما من يوم إلا وأستعين بهذا الموقع في تفسير آية كريمة أو معنى جليل ، أو التعرف إلى قصة وموقف تربوي أو فكري وأدبي أو تاريخيّ . " quran . muslim " فيه تفسير ابن كثير والجلالين والطبري والقرطبي رحمهم الله إلى جانب كل آية من آيات القرآن الكريم . فتعرّج على معنى الآيات في جمع هذه التفاسير الجليلة بسهولة ويسر، وتدرس ما فيها وتقارن مقارنة قاطف الورد وناسم الرّوح لا مقارنة التفضيل والتقديم ، فما يحق لي أن أكون إلا تلميذاً صغيراً من تلاميذ تلامذتهم وأقل من ذلك بكثير . نسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله تحت لواء سيد البشر وخاتم النبيين .
كنت أقرأ تفسير قوله تعالى آخر سورة آل عمران " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) " فمررت في تفسير ابن كثير بقصة العالمين الجليلين " عبد الله بن المبارك " و" الفضيل بن عياض " رحمهما الله تعالى . وكلاهما عالم جليل وإمام في الدين . فقد كان ابن المبارك في أحد الثغور الإسلامية ،يجاهد في سبيل الله تعالى ، وكان الفضيل بن عياض في الحرم المكي معتكفاً لا يكاد يخرج منه إلا لزيارة المصطفى عليه الصلاة والسلام في المدينته المشرفة ، ففي قصتهما عبرة وعظة ، وأدب وأخلاق .
رَوَى الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بْن أَبِي سُكَيْنَة قَالَ : أَملَى عَلَيَّ عَبْد اللَّه بن الْمُبَارَك هَذِهِ الأبيات بِطَرَسُوس ( على حدود الروم ) وَوَدَّعْته لِلْخُرُوجِ وَأَنْشَدَهَا مَعِي إِلَى الْفُضَيْل بْن عِيَاض فِي سَنَة سَبْعِينَ ومئة وَفِي رِوَايَة سَنَة سَبْع وَسَبْعِينَ وَمِئَة.
يَا عَابِد الْحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتنَا = لَعَلِمْت أَنَّك فِي الْعِبَادَة تَلْعَبُ
مَنْ كَانَ يَخْضِبُ خَدّه بِدُمُوعِهِ = فَنُحُـورنَـا بِدِمَائِنَـا تَتَخَضَّـبُ
أَوْ كَانَ يُتعِب خَيلَهُ فِي بَاطِـل = فَخُيُولنَا يَوْم الصَّبِيحَة تَتْعَبُ
رِيح العَبِير لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرنَا = رَهْج السَّنَابِك وَالغبارالأطيبُ
وَلَقَدْ أَتَـانَـا مِنْ مَقـال نَبِيّنَـا = قَوْل صَحِيح صَادِق لايكذبُ
لا تسْتَوِي أغُبَار خَيْل اللَّه فِي = أَنْف اِمْرِئٍ وَدُخَانُ نَار تَلْهَبُ
هَذَا كِتـاب اللَّـه يَنْطِق بَينـنَـا = لَيْسَ الشَّـهِيـد بِمَيّتٍ لا يكذَبُ
قَالَ فَلَقِيت الْفُضَيْل بْن عِيَاض بِكِتَابِهِ فِي الْمَسْجد الْحَرَام فَلَمَّا قَرَأَهُ ذَرَفَتْ عَينَاهُ وَقَالَ : صَدَقَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن وَنَصَحَنِي ، ثُمَّ قَالَ : أَنتَ مِمَّنْ يكتُب الحَدِيث ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ : فَاكْتُبْ هَذَا الحَدِيث كِرَاء ( أجرة ) حَمْلك كِتَاب أَبِي عَبْد الرَّحْمَن إِلَيْنَا . وَأَمْلَى عَلَيّ الْفُضَيل بْن عِيَاض :
حَدَّثَنَا مَنْصُور بْن الْمُعْتَمِر عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة : أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُول اللَّه عَلِّمْنِي عملاً أَنَال بِهِ ثَوَاب الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّه فَقَالَ " هَلْ تَسْتَطِيع أَنْ تُصَلِّي فلا تَفـْتُر وَتَصُوم فَلا تُفـْطِر ؟ " فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه أَنَا أَضْعَف مِنْ أَنْ أَسْتَطِيع ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ طُوِّقْت ذَلِكَ مَا بَلَغْت الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيل اللَّه أَوَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَرَس الْمُجَاهِد لَيَسْتَنّ فِي طِوَلِه فَيُكْتَب لَهُ بِذَلِكَ الْحَسَنَات " .
فأقر الفُضيل رحمه الله تعالى بفضل المجاهد على العابد .. والأحاديث الواردة بهذا الخصوص كثيرة وصحيحة . وما أعظم أن يكون المسلم صواماً قوّاماً ومجاهداً مقاتلاً في سبيل الله فينال الأجرين معاً ، وهؤلاء قليل ندرة الأحجار الكريمة في أرض مليئة بالصخور والأحجار . فطوبى للمشمّرين .