عندما يؤرخ الشاعر للحزن


قراءة في ديوان الشاعر بشير المثردي «إلى النص ...ر أبحر»


بقلم أحمد مكاوي



يصر بشير المثردي على أن يعطي القصيدة روحها القديمة في متانة اللفظ وجزالة المعنى وقوة السبك وإحكام النسج ..
هو لا يتعامل معها على أنها نزوة من نزواته .. ولكنها غزوة من أشد ما يتحمله فارس ..لذا ليس عجبا أن يسمي ديوانه : « إلى النص.. ر أبحر .»
والذي يستوقفك في قصيدة بشير هو النفس الشعري الطويل فبعض قصائده تجاوزت الخمسين بيتا وهي قدرة تحسب للشاعر – كما فعل عنترة صاحب المقطعات في معلقته بعد اتهامه بعدم القدرة على التطويل-وإن كانت المحاذير كثيرة حتى لا يقع في مطب الإملال أو التراوح بين القوة والضعف.. هو الذي اختار أن يبحر في متاهات الحياة.. ومجاهل الوجود .. وأغوار النفس .. يمتح من معين لا ينضب حتى وأن عاكسته الريح .. واستبدت به الهزيمة !!
بشير في تقديمه يعترف بالحزن رغم محاولة فلسفته فيقول :« أرخت للحزن أكثر من الفرح , ذلك أن التألم في أحداقه الفرح... وعلى عجل يصطفينا الشجن كأوراق الخريف المتعبة فنغزل فرح الربيع ...» (ص ب) .
ومع هذا التبرير لكن الحزن الطافح فيه أكبر بكثير وله ما يبرره في الواقع أكثر من هذه الكلمات فالمآسي أكبر من أن تحتمل أقلها غربة الشاعر في مجتمعه وعدم قدرته على ممارسة النبوة التي نذر نفسه لها !!
يمضي الديوان بنا على ظهر أحدى وعشرين حرفا (قصيدة) أغلبها بالشكل العامودي وفي حجم متوسط و بـأربع وثمانين صفحة يحملنا وزر الحزن معه ويحملنا على الحلم بتجاوزه ..
في كل الديوان يبحث بشير عن شيء مفقود .. شيء أضاعه أو أضاعه غيره .. شيء عزيز عليه لذلك اختار السير على درب التوجع والفجيعة و التغرب والأسى .. وحاول جاهدا فتح منافذ الأمل والحلم لكنه كلما أوسعه ضاق .. وكلما أرسل فجره هجم ليل الواقع عليه محاولا خنقه !!يقول في قصيدة«من دموع دلال .. ومني» :
إني عهدت لأحزاني أشاهدها
أن أطعم الشعر من دمعي .. ومن قلقي (ص 6)
وفيها يقول :
من ألف ليلة كم مليون قافية
تبكي على الفرح المكسور في الحدق (ص 4)
و : الحرف أمسى أسير الحزن مكتئبا
والليل يسري وكم في الأمر من أرق (ص5)
وهو في تعريفه للشعر في الغلاف الأخير يصر على الحزن ويعرف الشعر بأنه رفرفة الأحزان يقول :
الشعر ما حفلت بالورد آنية
وما يزف من الأعراس صناع
الشعر رفرفة الأحزان ليس كما
نأسى نغني .. نغني ثم نلتاع
وفي صورة رائعة يحملنا الشاعر على التوقف أمامها للتمتع يأبى ألا أن يكون الحزن سماء لها يقول في قصيدة«البحر والوردة البيضاء» :
إن المشاعر حين الشوق يأسرها
لهي القصائد حين الحرف يحترق
بأي بعد ترى قد سافرت بدمي
بأي حق ترى .. يا درب نفترق ؟ (ص22)
أو في قصيدة «كم ملهم أن نلحق الثوار» حين يقول :
فإلى متى أصحوا الضنى متغربا
متوجسا أن أفهم الأسرارا
ومن الحدائق أستفز توهجي
ومن الرذاذ أعانق الإعصارا (ص 27)
وهي من الصور التي تستفزك استفزازا وتترك في النفس وقعا كبيرا كما تفعل هذه الصورة في نفس القصيدة حين يقول :
عزف الشجي على ضفاف قلوبنا
لحن الصباح معتقا فتوارى
أغري الورود ولا اطال رحيقها
والكف تحمل عشقها أسفارا (ص29)
وفيها :
كم من فداء في دفاتر شاعر
هد السطور وضمها تذكارا
ما زال يبحث في الهواجر عن يد
مغلولة , ويفتش الأغوارا
ذابت خيوط الفجر خر حنينها
لغد تضمخ بالفداء فغارا
واغرورقت لغة الكلام وها دم
أضحى لمهر دموعها فوارا(ص31)
أن مثل هذه الصور التي أبدعها خيال محلق وشاعرية تتجاوز حدود الشكل التقليدي رغم تمسكها به , لتحطم مقولة الشكل الذي يقيد , الشكل طوع يد الشاعر والفنان لا يعجزه الشكل لرسم الصور التي يريدها القضية هي في المقدرة وهي ما يمتلكها بشير باقتدار.
ومن الصور الرائعة التي أحكم بشير نسجها قوله في قصيدة«سفر الأمنيات »:
والنجم غانية تلهو بغانية
والشمس راقصة باتت وطبالا (ص63)
وفيها أيضا:
إني صغرت على روح مجنحة
إذ بات صبري على الأحلام جوالا
يطوي شراع النوى شمسا ولؤلؤة
يطوي شراع النوى فجرا وآمالا
حريتي قمري المسروق يا بلدي
عشقي إليك بكل الصب ..ر مختالا (ص65)
وفيها :
هم قلدوا شرفات الليل أنجمها
وزوجوا لبنات القول أفعالا (ص 67)
ولعل الواجب علينا أن نقف طويلا أمام القصيدة التي عنون بها الشاعر دوانه بها وهي :«إلى النص ...ر أبحر » لأن الذي يظهر من القراءة المتأنية لهذه القصيدة , إنها حوار طويل مع الشكل .. فالانتصار هنا على الشكل .. والابحارإلى النص .. الانتصار هنا على الشكل الذي اعتدى على القصيدة .. المعركة هنا في ذات الشاعر حيث الإبحار إلى النص والانتصار في التموقغ داخل الشكل الذي هو الأقرب إليه (الشكل العمودي ) رغم أن الديوان يحفل بخمس قصائد من الشكل الحر ..
هذا الحوار أداره بطرح أحدى عشر سؤالا في النص الذي لم يتعدى انين وثلاثين بيتا مما يدعونا إلى التعامل مع الإسئلة على أنها تشكيك في غير الشكل العامودي رغم أنه لم يفصل هذا الأمر لكننا يمكن أن نستنتج الجواب من معدل القصائد الحرة بالمقارنة بالعامودية, فهناك : خمس قصائد مقابل ست عشرة بالشكل العامودي أي بقيمة الربع فقط للشكل الحر تقريبا ,انظر معي إلى قوله:
لازلت محتارا بشكل قصيدتي
هل سوف ترمق يا ترى هل تنفع ؟
أبيتها .. أشكالها .. ألوانها
وهل السطور قصيدة أم مقطع ؟
هل فجرت فينا الشعور وهل ترى
من قد تفوز ومن تراها الأروع ؟
في هذا المقطع يتضح جليا الصراع بين الشكلين , دون تحديد المنتصر !! ثم يوجه التهمة في القصور إلى القصيدة ككل دون تحديد الشكل في الظاهر !
هل غازلت أنفاسنا ،هل كبلت
أعداءنا ، هل تنزل أم هل ترفع؟
وقصورها ناحت ترى من ذا الذي
هد الحصون ...ومن ترى قد يقرع ؟
وسوادها من سؤددي هل تنجل
وبياضها في عتمتي هل ينصع ؟
هل تستقيم على الندى أحجية
أم للنوائب والرحى قد تخضع ؟
هل مهدها نبتت به أعراسنا
أم تستفيض على سماها الأدمع ؟ (ص77-78)
بالطبع هو الغضب الذي يدفع للتشكيك في القصيدة ودورها ، وإلا ما الداعي لاعتمادها سلاحا من الشاعر , والديوان ينضح بذلك .. خاصة أن بشير لا يعتبر الشعر ترفا فكريا , ولا سياحة فنية .. فهو شاعر رسولي بامتياز والذي تعرف على بشير يدرك ما الذي يمثلع الشعر له لذلك نجده يعود إليها ليحملها فكره :
إني لأهدأ في منامي حتما
أهوي إلى ذهل القصيدة أفزع؟
حلما إذا .. أين القصيدة عريها
متسلطا في عرشها يتربع ؟
أين القصيدة أم سباني فقدها
هل سوف أنقذ ما بقي أو أجمع؟
هات الصحيفة واليراع فما الذي
من غير فكر يا صديقي نصنع؟
واهزم معي كل الشتات وكن كمن
يهفو لفجر أو شموس تطلع (ص80)
ورغم كل هذا الليل الذي يحوم حول قصيدته وحول نصه إلا أنه يأبى إلا أن يفتح باب الأمل واسعا وكبيرا , ورغم أنه يصر على أن القصيدة عمياء !! لأنها لم تعد تقود وتفتح دروب النصر .. أو تقاوم العواصف الهوجاء في بحر العروبة !! يقول :
فبرغم ليل أوحشته شدائدي
بي في السرايا والشتاء المصقع
والأمنيات الساحرات وقد ذوت
حمراء ... خضبها الخريف المفجع
سأعود – صبرا – والربيع بحلتي
أشدوك إني من خيالي الأسرع
هي ذي القصيدة لا ترى لكنني
إن سافرت ... بعيونها سأوقع ! (ص80)
إن بشير هنا في هذه القصيدة يفتح النقاش من جديد حول :
- الشكل المناسب للقصيدة
- قدرة القصيدة على التحول إلى قائد يفتح الطريق للنصر
- رؤية القصيدة التي راح الشاعر يوقع في عيونها رؤياه !
ويأبى بشير في آخر قصيدة إلا الوفاء لبداية مجموعته , حيث يختم ديوانه بقصيدة رائعة تحمل عنوان : «على مرمى فرح » , فحتى عندما يريد الخروج من الحزن لا يدخل للفرح , بل يبقى على مرمى منه يقول في القصيدة :
فلما وصلنا أريج الجنان
تمادت تغني : تمهل , حدود!
فإن طال حلمك سحر الليالي
فمن أي ناي ومن أي عود ؟
ومن أي صبر سيطلع فجري
أيا شعر من أي وأد القيود؟
فحطم تفاصيل حزني قليلا
ودمعا تورق بين الخدود
إن الأسئلة التي لا تجد أي جواب سوى جواب مضمر يقول :هذا هو قدر الشاعر الذي ارتضى أن يؤرخ للحزن , وحتى عندما يريد تحطيم الحزن , فهو يحطم تفاصيل فقط وقليلا منها فوق ذلك , لأن الدموع تورق بين الخدود!!
ورغم أن نهاية القصيدة تنتهي بالتفاؤل , إلا أنهالا يمكن أن تخرجنا من جو الحزن الذي هو الثيمة الطاغية على الديوان , يقول :
نسيج باق الوئام زهورا
وننثر بالأغنيات الـ ...ورود (ص82)
بشير المثردي وفي لما بدأ به , فقد ارتقى مرتقى صعبا وكان كما قال :
هكذا تأتي القصيدة
صعبة أو لا تكون (ص 2)
وقصيدته صعبة , وقد كانت على إيقاع زادته مسحة الحزن , وزاده حروف الروي التي اختارها للقصائد تأكيدا على معنى الحزن , فالقاف والعين والراء على اختلاف حركاتهاأحرف تمتح اصواتها من واقع قلق في نفس الشاعر .. كما أنه اختار البسيط والكامل بصفة خاصة ليبحر بهما في أغلب القصائد .. والمعروف أن الأول بحر الشجن والحزن بامتياز .. والثاني رغم قدرته على التلون لتعدد أعاريضه وأضربه , إلا أنه عندما يكون في حضرة الحزن يتوهج بطريقة لافتة مما يدل على قدرة بديعة لدى بشير في العزف والتصوير ..
فهنيئا لنا أولا ولبشير ثانيا هذا الديوان في رحلة الشعر بمدينتنا...

سيدي عون : 29/06/2009



*- إلى النص ... أبحر : بشير المثردي نشر بمساهمة دار الثقافة بالوادي ومجموعة من الجمعيات الثقافية المحلية بالمدينة 2009