بعد يوم واحد من اغتيال المروحيات الإسرائيلية قائد سرايا القدس التابعة لمنظمة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في غزة، وتنفيذ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عملية استشهادية في تل أبيب أدّت إلى مقتل أربعة جنود إسرائيليين، كانت إحدى الإذاعات الألمانية الرئيسية (Deutschlandfunk) تتحدّث في نشرة أخبار الواحدة ظهرا عن القرارات الإسرائيلية الجديدة لاجتياح نابلس وفرض مزيد من الحصار على الفلسطينين. وكالمعتاد تكرّرت الإشارة في الأخبار أنّ هذا يأتي كردّ فعل إسرائيلي على عملية تل أبيب، أمّا حدث الاغتيال الذي وقع في الوقت نفسه، فبقي غائبا عن الأسماع، وبالمقابل سواء في نشرة الأخبار أو في البرنامج التحليلي التالي لها، لم يذكر شيء عن أنّ القتلى الإسرائيليين كانوا من الجنود.
الانحياز في الغرب
هذه صورة يومية متكرّرة عن أسلوب الإعلام الغربي، حتى في نشرات الأخبار، بعرض الرأي.. دون الرأي الآخر، وهو ما نعرفه في الحديث العربي المتكرّر عن الانحياز بلا حدود في الإعلام الأمريكي لصالح الإسرائيليين، وعن الصورة المشوّهة في الأفلام الأمريكية عن العرب والمسلمين، وعن التزوير التاريخي حيثما ورد ذكرهم في الكتب المدرسية، وحتّى عند استضافة من يراد إبراز اسمه العربي أو المسلم للتعليق على حدث ما، يقع الاختيار على من لا يحمل في جعبته للعرب والمسلمين إلاّ مثيل ما يحمله "الخبراء الإعلاميون" الغربيون –إلا القليل المنصف منهم- وعند اختيار "المبدعين" من العرب والمسلمين لمنح جوائز ثقافية أو فكرية، لا يقع الاختيار أيضا إلاّ على من تنبذهم الغالبية الكبرى من العرب والمسلمين، بسبب مواقفهم المزيّفة أو المعادية للإسلام، مثل سلمان رشدي أو نصر أبو زيد وأقرانهما.
وفي إطار الحملة الأمريكية الضارية للمطالبة بتعديل مناهج التعليم في البلادن العربية والإسلامية، لا نجد بالمقابل صوتا جادّا يطالب الدولة الأمريكية بتعديل ما يوجد في مناهجها التعليمية، وفي أفلامها السينمائية والتليفزيونية، وفي مختلف وسائلها الفكرية والأدبية والفنية والإعلامية، من تشويهات لا تُعدّ ولا تحصى على حساب العرب والمسلمين وتاريخهم وواقعهم الراهن وقضاياهم المصيرية على السواء.
أين هو الرأي الآخر في إعلام الغرب عن بلادنا العربية والإسلامية، وعن قضايا المصيرية، وعن إسلامنا وتاريخنا وواقعنا المعاصر؟..
قد نجد بعض الأصوات المنصفة التي تستحقّ كل التقدير، لإنصافها أوّلا، ثمّ لحقيقة أنّها تتحرّك ضدّ التيّار، وهو ما يُعتبر شهادة إضافية على حجم الانحياز الراهن، ولكن ليس هذا هو موضوع الحديث هنا.. إنّما الدافع إلى هذه المقدّمة الطويلة هو التساؤل عمّن يرفع في وسائل إعلامنا شعار "الرأي والرأي الآخر"، وهو ما بات مميّزا لفضائية الجزيرة –بغض النظر عن محاسنها أو مساوئها- وقد اتخذ هذا الشعار في بداية ظهورها صيغة تطبيقية أوحت أنّها تستهدف منه عرض الرأي العربي والإسلامي الآخر، والذي بقي مكبوتا أو مهمّشا لزمن طويل عبر سياسات إعلامية تخشى من حريّة الكلمة، ولكن ما لبث الشعار أن تحوّل على أرض الواقع ليكون بوابة مفتوحة أمام الرأي الرسمي، الأمريكي والإسرائيلي في الدرجة الأولى، ليس من باب "معرفة العدوّ" وإنّما من باب فتح المجال أمامه ليحاول إقناع جمهور المشاهدين داخل بيوتنا بما لديه.. وهو ما درجت عليه في هذه الأثناء فضائيات عربية أخرى كما هنو معروف.
صحيح أنّنا لا نخشى من ظهور هؤلاء على شاشات محطات البث من داخل بلادنا، فقد بات في أقوالهم ما يكشف أمرهم أكثر فأكثر أمام العامّة والخاصّة، وقد بلغ مستوى الوعي الشعبي عموما ما يمكن أن يمثّل سدّا منيعا أمام وسائل التزييف والتزوير المكشوفة، ولكنّ هذه الحجّة التي يوردها المدافعون عن طرح الرأي والرأي الآخر بالأسلوب المشار إليه لم تعد قابلة للإقناع ولتفسير أغراضهم، لا سيّما وأنّ حملات الغزو الفكري والإعلامي الأجنبية، وبالذات الأمريكية، تحوّلت في هذه الأثناء من سلوك طريق قنوات التغريب المفتوحة على مصراعيها، إلى حملة هجومية منظّمة ترصد لها عشرات الملايين من الدولارات، بدعوى نشر الديمقراطية والحقوق والحريات الإنسانية، وترافقها الحملات والضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية على أوسع نطاق.
الرأي الآخر.. أم الرأي المعادي؟..
إنّ سياسة الرأي والرأي الآخر في الإعلام لا تحقّق أغراضا قويمة، ما لم تكن قائمة على مبدأ التعامل بالمثل، وهذا ما نجده موضع التطبيق بدرجات متفاوتة في وسائل الإعلام الغربي ولكنّه تطبيق محصور في نطاق العلاقات ما بين الدول الغربية فقط، فيمكن لقضية خلافية بين ألمانيا وفرنسا مثلا أن تجد طريقها إلى المعالجة الإعلامية من خلال طرح آراء الجانبين، بعيدا عن الأسلوب الانتقائي للطرف الآخر بحيث يكرّر ما يريده الطرف الأوّل، بينما لا نجد شبيه ذلك في أي قضية تتعلّق بالبلدان العربية والإسلامية، بل نكاد لا نجد في الفضائيات العربية أيضا إلا نادرا عرض الرأي والرأي الآخر بصورة متوازنة، عندما يدور الموضوع حول قضية خلافية بين دولتين من الدول العربية والإسلامية، فكأنّما أصبح المقصود بالشعار جانبا واحدا فقط، هو فتح طريق باتجاه واحد أمام ما يريد الأمريكيون والإسرائيليون على وجه التخصيص تبليغه للعرب والمسلمين.. عبر وسائل الإعلام في قلب بلادهم.
يضاف إلى ذلك أنّ فضائيات عديدة درجت في الآونة الأخيرة على استيراد أفلام وبرامج تليفزيونية مدبلجة لعرض أحداث تاريخية أو معاصرة، وفق تصوّرات منتجيها ومخرجيها وكتّاب الحوار فيها من الغربيين، ولكن بلسان عربي، ممّا يوسع دائرة الاختراق لبيوتنا عبر وسائل إعلامنا، ولعقول الناشئة من شبابنا وفتياتنا، بإعلام يقوم على قسط من ثرواتنا، وكان من المفروض أن يلتزم بما يحقق مصالحنا أولا وأخيرا، أمّا عندما يصدر احتجاج أمريكي-صهيوني جائر، ضدّ مسلسل تليفزيوني من إنتاج بلد عربي، فيمتنع معظم تلك الفضائيات عن شرائه وبثّه.. فكأنّما بات التوجيه لإعلامنا بأيدي أعدائنا على المستوى الإعلامي وغير الإعلامي.
الحدّ الأدنى المطلوب من الفضائيات
إنّ الفضائيات المعنية، مطالبة بإعادة النظر في هذا الشعار وأسلوب وتطبيقه، والحدّ الأدنى من ذلك:
1- الحدّ من ذلك الكمّ الكبير لنقل المواقف ووجهات النظر المعادية وحتى المؤتمرات الصحفية الصغيرة والكبيرة نقلا حيّا، إلاّ بما تستدعيه الضرورة الإعلامية المهنية الصرفة، وما يقترن بالتعليق والتحليل الذي يضعه في موضعه من الصورة العامّة كما يجب أن نعرضها بمنظورنا.. وليس بمنظور أعدائنا، فليس بين حريّة الإعلام والمنظور الذاتي تناقض، ولم يفهم الغربيون حريّة إعلامهم قطّ أنّ يكون إعلامهم منبرا إعلاميا لمن يعتبرونهم أعداء وخصوما، بل حتّى لمن يعتبرونهم "أصدقاء" ولكن يخالفونهم الرأي.
2- اعتبار مبدأ المعاملة بالمثل شرطا يُطرح علنا على الأطراف الأخرى، التي تغيّب المنظور العربي والإسلامي للحدث تغييبا كاملا، وتهمل في كثير من الأحيان إهمالا فاضحا الأحداث الكبيرة والصغيرة، على المستويات الرسمية وعلى المستويات الشعبية ما لم تكن من قبيل ما يرتبط بمنظورها هي للأحداث، وما يدعم وجهة نظرها هي لما تسعى لتعميمه على الرأي العام الغربي
3- الامتناع عن استيراد الإنتاج الأجنبي الذي يتضمّن أشكالا لا تُحصى من تشويه قيمنا، وغزو أفكارنا، ليس في الأفلام والمسلسلات التليفزيونية فحسب، بل وفي كثير من البرامج التي توصف زورا بالوثائقية، أو هي "وثائقية" بمنظور غربي منحاز يهمل الرأي الآخر ومنظوره ويتجاهله باستمرار.
4- اعتبار شعار الرأي والرأي الآخر فيما عدا ذلك مقتصرا على تمكين مختلف التيارات داخل بلادنا العربية والإسلامية من طرح ما لديها، طرحا موضوعيا متوازنا، بعيدا عن أسلوب الهيجان والشتائم والصراخ، ممّا لا يفقد الإعلام رصانته فحسب، بل يساهم في نشر تلك الصورة المزيّفة التي كثيرا ما تتردّد على ألسنة بعض الإعلاميين بأسلوب الشتيمة ونشر التيئييس أنّ "العرب لا يعرفون إلاّ الصراخ".. والواقع أنّ هؤلاء الإعلاميين حريصون على ما يبدو على اخيتار من يتقنون الصراخ دون سواهم.
إنّ ما يقال أحيانا عن حاجتنا إلى جهود كبيرة من أجل "تغيير صورة العربي والمسلم" في أذهان الغربيين، لا يمكن أن يتحقّق ما دام الأسلوب الإعلامي المتبع أسلوب قائم على التبعية في التصوّر والإنتاج والإخراج، فمن يتطلّع إلى فرض وجوده وبيان مواقفه في عالمنا المعاصر، لا يمكن أن يصنع ذلك من خلال الاستجابة لما يطالب به الآخرون، لا سيّما من الأعداء والخصوم، والامتناع في الوقت ذاته عن المطالبة بالمقابل بالحصول على ما يريد منهم.. ولن يتبدّل الانحياز في وسائل الفكر والإعلام الغربية، إلاّ بمقدار ما ننجح في ضبط وسائل إعلامنا لنفسها، سواء في ذلك الرسمية أو الخاصة، بحيث لا تكون هي أداة لنشر ذلك الانحياز داخل بلادنا والوصول به إلى أعماق بيوتنا.