جاري اشترى سيارة
بعد عشرين سنة سكنتها في المدينة ضاقت بي الحياة المعاصرة ومستجداتها، وماتت أو كادت تموت أحاسيسي بضجيج السيارات وهدير الحافلات وصيحات الباعة المتجولين ... أحسست أني لم أعد قادرا على العيش في المدينة .ماي2007
أردت التعرف على جاري لكنه أطرق بابه في وجهي ، محتجا أنه يريد أن يرتاح من تعب العمل و إذا أردت لقاءه فعلي انتظاره مساء الأحد في "مقهى الأحباب".
زوجتي ضاقت ذرعا من البيت، وإذ أخرجتها ضاقت من ازدحام الشوارع بالناس والكلاب، وأصرت علي أن أغض بصري لأنها لا تصدق كل هذا العري الذي صار في شوارعنا .فما تلبث أن تشعر بحزن عميق وهي ترى حال المتسولين والمتشردين، ثم تصر علي بالعودة إلى البيت لأن اليوم ليس مناسبا للتجوال ولأن الجو بارد أو حار أو...
ابني يريد أن يلعب الكرة في الزقاق لكني منعته لأن ابن جارنا صدمته سيارة في الزقاق نفسه وقضى نحبه وهو يضم الكرة إلى صدره . ابنتي تزين كل يوم دميتها وتجعلها عروسا لكنها لا تجد فتيات في مثل سنها ليقمن حفل الزفاف .
في هذه المدينة شعرت أن الناس آلات لا شيء يوحي إلي بأن هناك إحساسا إنسانيا يجري في عروقهم...
زرت المستشفى فوجدت الكثير من المرضى في حالات يرثى لها، والأطباء يجدون وقتا للضحك وغمز الممرضات، ثم يقدمون ذا على حساب ذاك لأنه... أحسست أن قلبي قد علاه الصدأ فقررت زيارة المقبرة لعلي أتذكر الموت فيرق قلبي، وعلى بابها وجدت من ينتظر جنازة ليقرأ آيات مقابل أجر ... إذا شغلت جهاز التلفاز لا أجد شيئا يسر مسلما : حروب ، انفجارات ، قتلى ،جرحى.. وفي أراضي قتلى بلا حرب ، حادثة سير هنا وأخرى هناك ، وحصيلة مروعة والسبب كما يقول التلفاز دائما: السرعة وعدم احترام قانون السير ... أين أتجه ؟
***
قررت اقتناء أرض في قرية صغيرة بعيدا عن ضوضاء المدينة. بنيت منزلا صغيرا وباقي الأرض جعلته بستانا أزاول فيه نشاطا فلاحيا .
في هذه القرية عادت إلي لذة العيش ومتعة الحياة ، أصبحت أقرأ كتابا، وأقرض شعرا وأكتب قصة ، وأحكي حكايات لأولادي ، وأغرس شجرة، وأقطف زهرة ، وأجني ثمرة...
وزوجتي تمارس هوايات يدوية إلى جانب حكاياتها مع الجارات، واشتراكها في الأعمال الجماعية التي تقوم بها نساء القرية عادة . ابني أصبح يلعب الكرة مع أقرانه دون خوف من سيارة ، بل إنه لم يعد يخاف الحيوانات فصار يمسك جديا ويركب حمارا، إنه فلاح صغير .
ابنتي استطاعت أخيرا أن تقيم حفل زفاف لعروسها حاكت وخاطت ثيابها وزينت عروسها ، كل ذلك بمعية بنات الجيران .
أستيقظ كل صباح باكرا ، أقوم بجولة في حقول القرية مستنشقا هواء نقيا ،مشنفا أذني بتغاريد الطيور ، ونقيد الضفادع.
***
ذات صباح استيقظت على هدير سيارة ..ظننت نفسي في كابوس ...حككت عيني للتأكد من يقظتي ، فتحت الباب فإذا أمامي سيارة كبيرة مهترئة كرئة مدخن ... شق دخانها أنفي واخترق صدري، تقدمت تجاهها ووقفت على جاري "با عروب" استقبلني بابتسامته المعتادة " صباح الخير "سي نجيب" ، لقد اشتريت هذه"المبروكة"، هلا باركت لي" .اقشعر بدني وارتعد جسمي لا لبرد الصباح ..وقلت متلعثما " مبروك سيدي" .
عدت إلى مضجعي لا لأنام ولكن لأستعيد أسطوانة الماضي القادم ... ابني لن يلعب الكرة لأن جاري يملك سيارة.. وقد تصدمه، وإن لم تصدمه أصاب زجاجها بالكرة.. ابنتي الصغيرة عليها أن تظل قابعة في البيت خوفا عليها من السيارة .. والسيارة حرة في الدخول و الخروج، وستنقل كل ما في المدينة إلى قريتنا الهادئة : التلفاز.. الدراجة .. المأكولات المعلبة ...وستترك النساء مجلسهن لمتابعة مسلسل تلفزيوني ، وسيقبل الأبناء على مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة ، وسيضيق الفضاء على زوجتي وسترغمني على البقاء في البيت أو اقتناء تلفاز، وسأسمع المسؤولين يتحدثون عن فك العزلة عن العالم القروي وتزويده بالكهرباء، وسينشغل الناس مع الآلات الإلكترونية، وسيدخل كل شخص إلى بيته ويوصد بابه.. ثم لا أطفال يلعبون ولا نساء ينسجن ولا شباب يتسامرون ولا... ولا ...
هل يا ترى خطر كل هذا ببال جارنا عندما اشترى سيارة !؟