في الغيبة والعيوب (2)
د: عثمان قدري مكانسي
قال ابن قتيبة في " عيون الأخبار " بتصرّف :
- إن أسماء بنت يزيد أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبرُكم بشراركم؟ " قالوا : بلى . قال : " مِن شراركم المشّاءون ، بالنميمة المفسدون بين الأحبة ، الباغونَ البُرآءَ العنَتَ " فمن نمّ وأفسدَ وأرجف بين الناس من أشر ما خلق اللهُ تعالى .
- وقال النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر : يا أيها الناس خذوا على أيدي سفهائكم ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن قوماً ركبوا البحر في سفينة ، واقتسموها ، فأصاب كلَّ واحد منهم مكانٌ (1) ، فأخذ رجل منهم الفأس فنقر مكانه ، فقالوا : ما تصنع؟! فقال : مكاني أصنع به ما شئت ، فإن أخذوا على يديه نجا ونجَوا ، وإن تركوه غرقوا وغرق.
(1) هكذا ضُبِطَتْ والأولى : ( فأصاب كلُّ واحد منهم مكاناً ).
- وقال أبو الدرداء رضي الله عنه (يستبعد أن ينجو يوماً من ألسنة الناس ) : ليس من يوم أصبح فيه لا يرميني الناس بداهية إلا كان نعمةً من الله عليّ . وقال حسان رضي الله عنه بهذا المعنى :
وإنّ امرأً أمسى وأصبح سالماً من الناس إلا ما جنى لسعيدٌ
- قال مسعِرٌ : ما نصحتُ أحداً قطّ إلا وجدْتُه يفتش عن عيوبي ( وكأن الناس لا يحبون الناصحين ) .
- قال بعضُهم : من عاب سَفِلةً فقد رفعه ، ومن عاب شريفاً فقد وضع نفسَه .
- وقال الفاروق عمر رضي الله عنه : ( أحبُّ الناس إليّ من أهدى إليّ عيوبي ) أقول : ومن يرقى مرقاك يا أمير المؤمنين ؟! .
- وقال الفضيل بن عياض : حسناتُك من عدوّك أكثر منها من صديقك ، لأن عدوّك إذا ذُكرْتَ عنده يغتابك ، وإنما يدفع المسكينُ إليك حسناتِه . أقول : ومن ينجو من ذلك إلا من رحم ربك؟!
- ومرّ ابن سيرين بقوم ، فقام إليه رجل فقال : يا أبا بكر إنا قد نِلنا منك فحَللنا . فقال : إني لا أُحِل لك ما حرّم الله عليك ، فأمّا ما كان لي فهو لك . أقول : جواب لطيف وفهم للحلال والحرام دقيق .
- وجاء رجل إلى ابن سيرين ، فقال : بلغَني أنك نلتَ منّي .فقال ابن سيرين : نفسي أعزّ عليّ من ذلك . رحم الله ابن سيرين ما أكرمه!
- وقال بلال بن سعد : أخٌ لك كلما لقِيَك أخبرك بعيب فيك خيرٌ لك من أخ لك كلما لقيك وضع في كفك ديناراً . أقول : هذه هي الأخوّة الحقة .
- قال سيد التابعين الحسن البصري رحمه الله تعالى " لا غِيبة إلا لثلاثة ؛ فاسقٍ مجاهر بالفِسق ، وذي بدعة ، وإمام جائر ..... وكان يُقال : من اغتاب خَرَقَ ، ومن استغفر رتَقَ .
- وفي بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا عاب أحدُكم أخاه فلْيستغفرالله " نقول : نستغفر الله دائماً وأبداً .
- قال محمد بن كعب : إذا أراد الله خيراً بعبد زهّدَه في الدنيا ، وفقّهه في الدين ، وبصّرَه بعيوبه . فقال الفضيل بع عياض حين وصلته هذه الحكمة : وربما قال الرجل : لا إله إلا الله أو سبحان الله ، فأخشى عليه النارَ ، قيل : وكيف ذاك ؟! قال : يُغتابُ بين يديه ، ويُعجبه ذلك ، فيقول : لا إله إلا الله . وليس هذا موضعَه ، إنما موضع هذا أن ينصح له في نفسه ويقول له : اتّقِ الله . أقول : هذا هو الفقه في الدين .
- وفي الحديث المرفوع أن امرأتين صامتا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعلتا تغتابان الناس ، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : " صامتا عمّا أُحل لهما ، وأفطَرَتا على ما حُرِّم عليهما " وقال حمّادُ بن سلمة : ما كنتَ تقوله للرجل وهو حاضر فقلتـَه من خلفه فليس بغِيبة
- عاب رجل رجُلاً عند بعض الأشراف ، فقال له : قد استَدْللْتُ على كثرة عيوبك بما تُكثر من عيب الناس لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدْ ر ما فيه منها . وقال بعض الشعراء في هذا المعنى :
وأجْرَأ مَن رأيتُ بظهر غَيبٍ = على عيب الرجال ذوو العيوب
وأنشد ابن الأعرابي يؤكد هذا المعنى :
اسكتْ ، ولا تنطقْ فأنتَ خيّاب = كلُّك ذو عيب وأنت عيّابْ
- وكان أحدهم يغتاب الناس ولا يصبر ، ثم ترك الغيبة ، فقيل له : أتركتَها ؟ قال : نعم ، على أني أحب أن أسمعها . فهو حقيقة لم يترك الغيبة لأنه يود أن يسمعها ، وإنما الأعمال بالنيات .
- وذكر الغزّالي في إحيائه حديثاً " إن الغِيبة أشدّ من الزنا " قيل : كيف ذلك ؟! قال : " لأن الرجل يزني فيتوب ، فيتوب الله عليه ، وصاحب الغيبة لا يُغفَر له حتى يَغفِر له صاحبها " .
- مرّ رجل بجارين له ومعه رِيبة ، فقال أحدُهما : أفَهمْتَ ما معه من الريبة ؟ فقال الآخَر : غلامي حرّ لوجه الله شكراً له إذ لم يُعَرّفني من الشرّ ما عَرّفَكَ . وهذا من روائع التقوى .
- دار بين سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما كلام ، فذهب رجل ليقع في خالد عند سعد ، فقال له سعد : مَهْ ؛ إنّ ما بيننا لم يبلُغْ دينَنا ، ولهذه التقوى استحق أن يكون من العشرة المبشرين بالجنّة .
قيل لِبُزُرجَمِهْرَه : هل مِن أحد ليس فيه عيبٌ؟ قال : لا ؛ إن الذي لا عيب فيه ينبغي أن لا يموت . أقول صدق الحكيم والله فالله سبحانه الكامل وحده كمالاً مطلقاً . وفي هذا قال الشاعر :
لـيس فيمـا بدا لنـا منـك عيبٌ = عابه الناس غيرَ أنّك فانٍ
أنت خير المتاع لو كنت تبقى = غيرَ أنْ لا بقاء للإنسـانِ
- وأوصى رجل على فراش الموت زوجته أن تنكح بعده رجلاً شريفاً لا صاحب غيبة وفساد ، فقال :
وإمـا هلكـْتُ فـلا تنكـِحـي = ظَلومَ العشيرة حَسّادَها
يرى مجدَه ثلبَ أعراضها = لديه ويُبغض مَن سادَها