هاجس الموت عند مقبولة عبد الحليم (( تراتيل النهاية أنموذجا )) .

هاجس الموت




عند الشاعرة الفلسطينية مقبوله عبد الحليم




قصيدة : (( تراتيل النهاية )) أنموذجا



دراسة بقلم الناقد والأديب الأريب الكبير المغربي




الأستاذ عبد الرحمن الخرشي



1 ) تقديم :

البحث في معاجم اللغة (1) حول دلالة مانقصده من كلمة (( هاجس )) يحيلنا على أنه لهذه الكلمة جذرا واحدا هو (هـ . ج . س ) .. هذا الجذر تولدت عنه كلمةٌ واحدة ( هجس ) .. يقال هَجَس الشَّيءُ في النَّفْس : وَقَعَ (2) . والهاجس : الخاطر . أي مايخطر بالبال .. ولاشك أن مدلول الكلمة قد يكون علامة عن الإصابة بمرض نفسي ، إنساني ؛ هوالقلق ، والتوتر ، بدرجات مختلفة . يترتب عنه خوف المرء من قاصمة حياته : (( الموت )) .. وقد فرق علماء النفس بين هذا الخوف ، وبين قلق الموت ؛ من جهة العموم ، والخصوص ، فخصصوا قلق الموت بخشية الإنسان من موته هو ، ومن شعوره بالخطيئة من الذنوب ، والمعاصي .. ولكون رب العزة ربط الإنسان بالموت بشكل حتمي : (( قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم )) ، فإننا نرى الشاعرة الفلسطينية ، العصامية ، المعاصرة ، المؤمنة ، الصابرة ، المحتسبة ، الشاهدة على جرائم بني صهيون ، في أرض الرباط ؛ مقبوله عبد الحليم ، لاتتهيب الموتَ أوالمَوَتانَ (3) في هذا النص . ولكنها تستحضره - في نفسها - هاجسا لامحالة سيأتي على حياتها يوما ما . لذا فهي ستستقبله بهذه التراتيل - قبل أن تسلم الروح وربما أسلمتها - بحثا منها على تجاوز ما اقترفت من الذنوب .. فالموت عندها - وعند كل مسلم مؤمن - فراق مؤقت يتبعه لقاء يوم القيامة ، يتبعه حساب !! . فماذا أعدت ليوم الحساب ؟ .. كان هذا كل مايؤرق الشاعرة ، وما يحفزها على عزف لحن / قصيدة (( تراتيل النهاية )) ؛ نهايتها ، أو موتها ، وهي المهووسة بكل ماهو ترتيل ..

مما لاجدال فيه أن هاجس الموت قد ارتبط عند الشاعرة في هذا النص بلحظة أخرى ؛ هي تلك التي اختلت فيها إلى نفسها ، وخطر لها كل ما انتثر من أبيات قصيدتها (( تراتيل النهاية )) معززة بذلك مقولة ( سرفانتيس ) : (( الموت حاصد لايعرف القيلولة )) .. لذلك فهي تحكي عن هم إنساني ، بأبعاد دينية ، إيمانية ، بنفحة إسلامية ، صوفية ، جوانية ، من خلال استحضارها - في الخاطر ومنه إلى الورق - لحظة عز أن يلتفت إليها شعريا من شاعر لاتهدده الموت ؛ سواء بتذكر ، أو بمرض .. والشاعرة بذلك تجعل نفسها في موقف المذكـِّر ، والداعية ، من خلال قراءتها هنا لما هو هاجس اللحظة في ذاتها ، لذاتها ، وللآخر .. سالكة نهج العلماء ، المخلصين ، الربانيين ، والشعراء الزهاد ، ورجالات التصوف النقي . مستلهمة الشعرية العربية ، وكذا نصوص القرآن الكريم ، وبعض علوم الدين ، وصفاء ونقاء لغة يعرب بن قحطان ، استجابة لصفاء عقيدتها في الموت ، وماسيترتب عنها . واستجابة لقناعتها الشخصية ، وذائقتها الفنية في الشعر ، وذلك من خلال قصيدتها : (( تراتيل النهاية )) المنشورة(4) في (( منتديات الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب )) ..

2 ) مقاربة نصية : ( في مضمون النص )

من العنوان أبدأ (( تراتيل النهاية )) ؛ هذا العنوان يتشكل من مكونين لغويين دالين هما :

1 -- كلمة : (( تراتيل )) . الكلمة من فعل (( رتل )) أوردته الشاعرة في مستهل العنوان بصيغة الجمع ، نكرة ، جذره اللغوي ( ر ت ل ) . ففي ( لسان العرب ) فصَّـله ابن منظور قائلا : (( رَتَّلَ الكلامَ : أَحسن تأْليفه وأَبانَه وتمَهَّلَ فيه .. والترتيلُ في القراءة : التَّرَسُّلُ فيها والتبيين من غير بَغْيٍ .. وفي التنزيل العزيز : ورَتِّل القرآن ترتيلاً ؛ قال أَبو العباس : ما أَعلم الترتيل إِلاَّ التحقيق ، والتبيين ، والتمكين .. وقال مجاهد : الترتيل : ((الترسل )) و (( ترتيلُ القراءة : التأَني فيها والتّمهُّلُ وتبيين الحروف والحركات )) .. وفي معاجم اللغة مايدل على أن لفظ النهاية المعرف بـ ( أل ) هو : (( غاية كل شيء وآخره )) .

فإذا اقتضت الكلمة الأولى في العنوان (( تراتيل )) مضمرا يرتل - وهو لامحالة صوت الشاعرة مقبوله عبد الحليم في النص ؛ المنسوج بموهبتها الشعرية ، التواقة لتجديد الشعر ، والمتمتعة بالصدق النفسي ، والشعوري - باعتبارها - في هذا النص - سلكت / تسلك دربا من دروب (( التجلي )) المحيل على ( الوجدان ) ، وعلى مايميز الشعر ؛ شعر الشاعرة (( مقبوله عبد الحليم )) من فورة عاطفية مفعمة بالحزن ؛ صبغها بها الواقع ، ومن استغراق في الحب الإلهي ؛ الحب الحق المشفوع بتوجيه الدين ، والمقترن بالألم الناجم عن استيقاظ المخزونات الوجدانية للشاعرة في لحظة من لحظات الحياة المؤشرة للنهاية الحتمية !!! . بوحا بها وبما يتبعها على المستويات النفسية ، والعاطفية ، والوجدانية ؛ لاللتأثير فقط ، وإنما للتأثر؛ تقول الشاعرة مقبوله في ذيباجة قدمت بها النص : (( ... أمامي لحظات النهاية ، فنزفتها ، وعزفتها ؛ تذكرة لي ، ولكل من يود التذكر )) .

2 -- كلمة : (( النهاية )) . الكلمة أوردتها الشاعرة تالية . وقد اقتضت هذه الكلمة مضمرا هو البداية ؛ بداية الشاعرة مع الحياة ، وفي الحياة . والتي هي بداية كل إنسان في الحياة ؛ حينما يُستـَقبل بالفرح اللامحدود .. أما هذه النهاية فقد جاءت مشفوعة بكلام / شعر أحسنت الشاعرة مقبوله عبد الحليم تأليفه ، وأبانت عن معانيها فيه ، وتمهلت في إلقائه - مترسلة - لجعل المتلقي يعيش لحظة النهاية المحتومة وهو يغادر الفانية إلى حيث دار القرار بتراتيل إيمانية !!!.

وبناء عليه فالعنوان وكذاالجملة المؤطرة للنص يحيلان على / ويشيران إلى أن التراتيل / ( النص ) أساسا ترتبط بنهاية الإنسان .. أو لنجمل : موته . فقد تم - بلاشك - إبداع هذه التراتيل بكل تجلياتها ، في لحظة خاصة عاشتها الشاعرة ، هي لحظة انكشاف إيمانية ، صوفية لبست الشاعرة ، وتماهت فيها ، وفق ما انكشف لقلبها من أنوار الغيوب ؛ فكان تعبيرها عن هذه الحالة نزفا بالذي هد ذاتها الشاعرة جراء مافي الحياة من شرور وآثام ... وعزفا للحن منساب مع خلجات النفس الرقيقة - نفس الشاعرة - إلى النفس الأخرى - نفس المتلقي - ولم يكن هذا العزف غير تنغيم خاص ، سخرت له الشاعرة مقبوله آليات فنية مؤثرة في النفس ، والعقل . والغاية من كل ذلك قما قالت : (( تذكرة لي ولكل من يود التذكر )) (5) تذكرة ترغب فيها الشاعرة ، تخفيفا وتنفيسا على نفسها ، واختيارا من المتلقي في سياق ماتقتضيه العبرة ! .

قصيدة (( تراتيل النهاية )) للشاعرة الفلسطينية مقبوله عبد الحليم بصمة شعرية متميزة ؛ من حيث مضمونها العام .. كتبتها الشاعرة وهي تنأى بكتابتها لها عن ترسم خطوات القصيدة القديمة ؛ سواء من حيث تعدد أغراضها ، أو المحافظة على وحدة البيت فيها ، أوالالتزام الصارم بكل قواعد العروض ... بل إن الشاعرة تبدو مترسمة لخطوات الشعر الحديث ؛ خاصة شعر شعراء المهجر الشمالي المتحرر من كل ما يضيق على الشاعر من التزامات فنية .. ولعل عوامل الارتباط بقضايا الهوية بحدودها العامة ؛ عقيدة ، واختيارات . وكذا الظلم الممارس على الذات الفلسطينية ، وماتفرزه الأحداث من ارتدادات ، وانكسارات وجدانية عند الشاعرالملتزم بهموم الوطن ، و ...

كانت كل هذه العوامل جد مؤثرت في نفس الشاعرة مقبوله ، لذلك انعكست على كتابتها التي تحررت في مضمونها ، انسجاما مع ذاتها ، وبالتالي مع انكسارات هذه الذات . . وما أحوج الذات في هذه الحالة إلى البوح !!! . كغيرها من الشعراء لم تجد حينها من تبوح له غير (( قلبها )) .. فالشاعرة وهي المعتزة بما غمرها به هذا القلب من عاطفة الحب الخالص ، تتوجه - مؤنسنة له - إليه لأن ينبض فيها بالحب ، ثم تخاطبه بما تخاطب به جليسا لها تجله ، ثم تدعوه لأن يصيخ إليها ، ويزيد في قوة السمع ؛ بل وتدعوه لأن يأتمر بأمرها الملح مستمعا لجلال معانيها الخالدة .

ليستمع - وليكن حصيفا في تقليب الدلالة حسب ما يقتضيه المقام - لما دل عليه هذا المعني الفقهي ( الوصية ) / وصيتها ، وما تقتضيه من رؤية ثلاثية الأبعاد : الموصِـي ( الشاعرة ) الموصَـى إليه ( القلب ) الوصية ( رسالة غير مشفرة ) ؛ إنها : دعوة تلزم قلبها بأن يقصد قبرها - متى ما غادرت هذه الفانية - و يجزل لها العطاء ليس بالمال ، والجاه كما يـُظـَن ْ، وإنما ذاك الذي هي أحوج ماستكون إليه . أجمل به من عطاء هذا العطاء !!! .

الشاعرة المؤمنة ، المستسلمة لقضاء الله وقدره بالموت ، توصي قلبها المطاوع لتنفيد نصحها - لرقة ورهافة فيه - أن يمدها بقراءة القرآن الكريم - ترتيلا - قراءة فيها ترسل ، وتبيين ، وتمهل ، وتحقيق ، وتمكين ، وخشوع ، وإيقاعات نفسها المؤمنة .. قراءة لسورة وهي كل ماتحتاج إليه اليوم ؛ قراءة تجدد بها العهد مع الله ، وهي من هي في (( النهاية )) .. وبتعبير حاسم في تدقيق المفهوم ، إنها في : دار البقاء ، ولن يفطر حوباءها غير سورة فاطر لكونها حوت قضايا العقيدة الكبرى من : (( دعوة إلى توحيد الله ، وإقامة البراهين على وجوده ، وهدم قواعد الشرك ، وإلحاح على تطهير القلوب من الرذائل ، والتحلي بمكارم الأخلاق )) .

وحينما تتأكد الشاعرة من مغادرة الفانية ، وتستقر في دار القرار ، أليس من حقها أن تطلب السكينة تحفها ، خاصة عندما ترتفع الأصوات بالدعاء ، والعيون تدمع ، والقلب يصفو ، والأماني تزداد . موقف رهيب هذا !! .. ومن كانت هذه حاله المؤكدة لضعفه في الفانية ، ومايجري حوله ، أليس حريا به أن يعض على البنان ؟ ثم أليس حريا به أن يتحسر على مافات ؟ أليس الأحرى به أن يطلب الزيادة في عمل الخير بعده ، ولو من قلب مطيع ؟ !! .. لكن أنى له ذلك اليوم وقد غرته نفس ذليلة حقيرة .. ورطته في الجرم والآثام .. كانت تلك الخلاصة والاستنتاج !!! .

وقد تماهت الشاعرة في هذه المعاني وكأنها هي صاحبة هذا المصير .. فصار من المسوغ والمبرر عندها - هجسا - أن تلبس لبوس البوح بما يؤرق ذاتها / نفسها ، في حياة فانية فاستدعت - من لغتها الراقية - اسم فعل الأمر ؛ بدلالته على الزجر بمعنى حَسْبُكَ (( إيهٍ )) . ثم استدعت بعده نداء فاجعا (( أيا )) ، وأداة دالة على التمني (( ليت )) ((إيـهٍ أيـا النفـس الذليلـة ليتنـي )) وكأنها تستبعد ماصار من قبيل المستحيل ، لكنها تستدرك مافات ، وتتحسر ، وتلوم ، وتزجر نفسها المغرِّرة بها حتى فرطت ، وانشغلت بمتع الحياة ، وانشغالها باللهو ؛ في الحياة الدنيا فقامت واعتصرت من قيثارتها هذا الترتيل الحزين :

إيـهٍ أيـا النفـس الذليلـة ليتنـي ---------- قدمت بالأعمـال أجزلـتُ العطـــــــــاء
قدمـت زادي مخلـصـا متفانـيـا ----------- يا حزن قلبي كيف آثـرت الرخــــــاء ؟

إن الشاعرة مقبولة لم تقف عند هذا الحد ، بل كانت قاسية على نفسها . خاصة وقد دعت عليها بالخسران والهلاك لا جلدا للذات ، وإنما عضا على الأصابع من الندم . ومسوغ هذاكما نرى شيء واحد : هو طلبها الجنة - جنة عدن - رجاء ورقة ، وتعطفا ، وعفوا ، ورضاء ، ورحمة ؛ لارحمة بها هي فقط ، وإنما رحمة بجميع المسلمين المذنبين كما تلمح لذلك .

وزيادة في الاعتراف والشكوى ، والندم عن الذنب ، وتمسكا بالدعاء محوا له . الشاعرة - في انكسار - تلتمس من خالقها وخالق العباد رداءا من العطف ، والشفقة على الروح / الأرواح ، والجسم / الجسوم .. وزيادة في العض على الأصابع من الندم لم تسلم أماني الشاعرة مقبوله عبد الحليم من هذه الأمنية العدمية العامة (( فليتنـا كنـا هبـاء !!! )) .. وتأثرا من شعراء الرومانسية ، حينما تسود أمامهم كل دروب الحياة ، استدعت الشاعرة بالنداء عمرها ( ياعمري ) ؛ استدعته طائرا ، أم إنسانا ، فقدمت له ( محبتها ) هدية ، راجية منه بسلطة تتوهمها لنفسها عليه - وهي في دار الخلود - أن ينثر حبها على دارة القمر نقاء في بياض ضوئه حتى يعم الكون . ويصب لا الماءَ والدَّمْعَ من أجلها ، وإنما بُكاء شديدا حُزْنا و شَّوْقا في مرابع الصحاب ( ما أوفى الإنسان / الشاعرة وهو / وهي في ذلك الموقف يتذكر / تتذكر الصحاب !!! ) . بل دعته لأن يكتب على قبرها - حسب العادة المتوارثة من شعراء نعوا ذواتهم ؛ وهم لازالوا على قيد الحياة . أذكر منهم : الشاعر محمد أكمل ، والشاعرة عائشة التيمورية . فعل الشعراء هذا في فترة تاريخية عمت فيها هذه الظاهرة - ما يجعل زائر قبرها - حسب ماتعتقد - يخلص لها في الدعاء ، وفاء ، ويقرأ حينها سورا من القرآن الكريم . وكأنها توصي بما أوصت به عائشة التيمورية أن يكتب على شاهد قبرها في ذلك الحين :

أصبحت ممـن زار لحـدي راجـيا ----------- خـيـر الـدعــا وتــلاوة الــقـــــــــــرآن

بينما الشاعرة مقبولة تقول مالم تراه يكتب بل هو وصية :

واكتب علـى قبـري لكـل أحبتـــــــــي ------------- اجزوه خيرا طامعـا هـو بالدعـاء
وبسورة ( الياسيـن ) اختـم سيرتـي ----------- قد كنت يوما ضيفهـا دنيـا العنــاء

3 ) مقاربة فنية للنص :

من البداهة أن الشاعرة مقبولة عبد الحليم وإن بدت من حيث مضمون هذا النص متأرجحة بين القديم والحديث . وبين استثمار ماهوأصيل يمتح من التراث الشعري القديم ، ومنفتح على آليات جديدة هبت عليها من رياح شعراء الرومانسية ، ومن رصدها لنصوص الرثاء في الشعر العربي .. أما على مستوى الشكل فقد زكت هذا الانطباع ؛ ذلك أنها استدعت آليات فنية بدءا من المعجم المستمد من التراث الشعري القديم ، ومن عالم الذات - أحاسيس وعواطف - ( الحب ، الخشوع ، السكينة ، الأماني ، النفس ، الذل ، الإخلاص ، الحزن ، الرجاء ، الرضى ، الحنين ، الأنين ) ومن الطبيعة ميتة / صامتة خاصة ( الهواء ، رائحـة ، السماء ، قطـوف ، مرابع ... ) . ومما يمكن إدخاله في إحياء ( أجواء الرثاء ) في القصيدة القديمة (( قبـري ، جنات عـدن ، تغشـى العيـون بمقلتيهـا دمعـة ، رحماك ، الفنـاء ، اكتب علـى قبـري ... )).. وفي هذا الإطار تبدو هيمنة المعجم الديني في النص انسجاما مع عمق هذا المقوم في نفس الشاعرة : (( القـرآن ، سـورة فاطـر ، واخشع ، بالدُعـاء ، بالأعمـال ، العطـاء ، رحماك رب الكون ، نحـن العبيـد ، الذنـوب ، وبآية القرآن ... )) .

كما اعتمدت اعتمدت وزنا موحدا من الأوزان الخليلية الصافية التي أرى أن الشاعرة تميل إليه كثيرا في أغلب ماقرأت لها من شعر باذخ ، وجميل ؛ وهو بحر ( الكامل ) .. استدعته لتكامل حركاته ، وهي ثلاثون حركة لاتوجد في غيره من البحور الشعرية . ولكونه ينسجم مع اهتزازات نفسها المؤمنة بقدر الموت ؛ وما تأتي به لحظة معانقة الإنسان لها من تجل مشفوع بإيقاعات النفس المؤمنة ، المستسلمة للقضاء والقدر . . وقد استعملت الشاعرة هذا الوزن بتغيير استـُعمل في مجزوئه فقط ؛ حيث العروض مـُذال ، وزنه (( متفاعلان )) وعلى ذلك فوزن النص جاء على النحو التالي :

(( متفاعلن متفاعلن متفاعلن ******* متفاعلن متفاعلن متفاعلان ))

استعملت الشاعرة هذا البحر - بتغييراته المعروفة ( ... ) - انسجاما مع حالتها النفسية وأجواء استبطان الذات ، والتذكر ، و ... ولكون هذا البحر يساعد على التعبير على مثل هذه المضامين المشفوعة بالبوح ، وأجواء الحزن .. أما القافية فهي قافية موحدة أيضا ؛ التزمتها الشاعرة حسب ضوابط الخليل بن أحمد الفراهدي (( طاء - واء - ماء - عاء ... )) وبناء عليه فهي قافية مقيدة ، مردوفة بحرف مد ولين ( الألف ) التزمته الشاعرة في جميع أبيات النص ؛ وفقا لما نصت عليه قواعد العروض . وقد جاء هذا الحرف تابعا لحركة لفتحة التي حافظت عليها الشاعرة في جميع الأبيات قبل الردف ( الحذو ) :

أوصيـك يـا قلبـا رَوانـي حُبــــه -------------- يمم على قبـريَ وأَغـدق بالعطـاء
أوصيـك يـا قلبـا روانـي حُبـبهو -------------- يممم على قبـري وأغـدق بالعطـاءْ
/0/0/ /0 /0/0 //0/0 /0//0 -------------- /0/0 //0 /0/0 //0/0 /0//00
متفاعــــلـن متفاعــلن متفاعــلن -------------- متفـاعـلن متفاعلـــن متفاعــــــلان

فالقافية كما يبدو تنتهي في جميع الأبيات بساكنين على هذا النحو :

. طاء ( /00 ) - واء ( /00 ) ماء ( /00 ) ...

ومما يلاحظ على توظيف الشاعرة للقافية في هذا النص أنها استساغت - استجابة لما تتطلبه الدلالة - تكرار كلمتي : العطاء ( في البيت الأول والبيت السادس ) ، والدعاء ( في البيت الرابع والبيت الرابع عشر ) وهو مايطلق عليه عند علماء العروض (( الإيطاء )) باعتباره عيبا من عيوب القافية .. وبالنسبة للروي فقد وظفت الشاعرة حرف ( الهمزة ) وهو صوت / حرف مخرجه الحنجرة ، شديد ، لامجهور ولا مهموس استعملته انسجاما مع دلالة الموت التي يُقطـَع ُفيها النفس ، وباعتبارها مستلهم الشاعرة لهذا النص .. وعندي فإن الشاعرة كانت موفقة في اختيار القافية ، وحرف الروي ، وإن كانت قد أعيت القافية بــ (( الإيطاء )) ... مع ملاحظة عدم تدعيم الشاعرة للقافية بظاهرة التصريع للغايتين ؛ الإيقاعية ، والدلالية .. وقد كانت موفقة في اختيار (( الهمزة )) حرفا للروي مكسورة للدلالة على انكسارها وعلى انكسار كل إنسان أمام هول النهاية المحتومة / الموت .. ومما يسجل - عيبا - على استعمال الشاعرة لبحر الكامل في هذا النص ؛ مايمكن ملاحظته في مطلع القصيدة ؛ ذلك أنها سقطت في بحر الرجز باعتمادها (( الخبل )) وهو اجتماع (( الخبن )) و (( الطي )) في جميع التفاعيل الستة ؛ وكأنها تستجيب بذلك لاقتراح ابراهيم أنيس ، ومن جاراه تأليفا في علم العروض .. وهو أمر لانوافق عليه كل من تبناه . وبالضبط إبراهيم أنيس في (( مشروعه الجديد )) المتعلق بالعروض وتفعيلات البحور (6) .. ومن الملاحظات المرتبطة بالبنية الإيقاعية للنص ، لاحظت أنه ليس للشاعرة ميل إلى تغذية مقوم البنية الإيقاعية بالمحسنات اللفظية البديعية .. ومع ذلك فالنص حمل لنا هذين الجناسين الناقصين النادرين ( اقـرأ / القـرآن - سورة / سيرتـي ) .. ولعل هذا من فعل ولوع الشاعرة مقبوله بالمضمون أكثر من ولعها بالشكل الفني للقصيدة ، عن طريق احتفالها بتوظيف المساحيق البلاغية البديعية . وإن كنت أرى أن الشاعرة قد استعملت صيغة الأمر بكثرة مما كان له أبلغ الأثر على بنية النص الإيقاعية بشكل واضح وجلي .

أما على مستوى التصويرالشعري ، فالشاعرة نحت منحى الشعراء القدامى في احتفائهم الكبير بالجانب التصويري في بناء النص ، معتمدة نهجهم في بناء الصور على النزعة البيانية ؛ وإن كنت أرى أنه ليس للشاعرة - في هذا النص - ميل إلى عنصر التشبيه البثة ، باعتباره من الأدوات البلاغية لبناء الصورة القديمة . . ومن قراءة متمثلة ، وفاحصة للبيت الثالث يلاحظ مافيه من جمال التصوير ؛ . فكلمة (( رائحة )) المؤنثة من مادتها ( روح ) ودلالتها على الرِّيح وهو نَسِيم الهواء ، و نَسيم كل شيء تصدر عنه رائحة النسيم طيِّبة كانت أَو نَتْنة .. فالشاعرة تأخذ بالمعنى الإيجابي للرائحة ؛ الرائحة الطيبة .. فالرائحة في البيت أتت لا بدلالتها الحقيقية طيبة ، بل بــ (( رائحـة الدنـا )) . والدنا / الحياة الحاضرة من الدُّنْيا .. نَقِيضُ الآخرة ، سميت كذلك لدنوها ولبُعْدِ الآخرة عَنْها ، تجمع على دُنىً ؛ فهذه الدنا من دلالتها الحقيقية التي نعرفها بالبداهة صارت لها دلالة مجازية فرضها سياق البيت .. و يتمثل ذلك في أن الدنى لها رائحة طيبة تشتم .. وهذا بعيد عن الحقيقة ، لأن الشاعرة لاتقصد بالرائحة معناها الحقيقي (( النسيم الطيب )) وإنما (( الحياة التي غادرت )) . وهذا مايحفز المتلقي على تمثل ماترمي إليه الشاعرة عن طريق نقل الصورة إلى الخيال .. وهو ما تريده الشاعرة في التعبير .. وهذه صورة ، بلاغية ، بيانية ، بامتياز .. وهذا ما يجعلنا نطمئن على أن الشاعرة مقبوله تمتح في بناء صورها الشعرية من البلاغة العربية ؛ أعني مما هو قديم . . كما استعملت الشاعرة بعض الصور الجديدة من خلال أنسنة بعض الأشياء ( القلب - العمر ) ؛ لننظر إليها كيف توصي قلبها وهي في لحظة النزع الأخير .. توصيه بجملة وصايا ليست لهذا القلب القدرة على فعلها في الواقع لأنه عضو في تجاويف صدرها ، وصدر كل إنسان . وهذا مايدفع المتلقي إلى تمثل هذه اللحظة في الخيال .. وكم هي الشاعرة بارعة في في إنشاء صورها الفنية ، كتلك التي ربطت فيها بين الأشياء المحسوسة ، والمجردة ( لـلأرواح أفـق سكيـنـة - فالقلب يصفـو - زادي مخلـصـا - حزن قلبي - جئتـك بالرجـاء ... ) .. من هنا نؤكد أن الشاعرة مقبوله عبد الحليم في النص تلون صورها مابين صور تستمد مقوماتها ؛ تارة من القديم ، وتارة مما هو جديد ، وإن بدا هذا الأخير نادرا في هذا النص !!! .

ومما يلاحظ أن الشاعرة قد وظفت صورها الشعرية بعامة توظيفا متميزا بجمال التعبير ؛ فهي قد عبرت من خلالها عن حالتها الوجدانية ، وعن جملة انفعالات أحست بها وهي تتمثل هاجس الموت ، وهول اللحظة المنتظرة في حياتها وحياة كل مؤمن . وما تستصحبه هذه اللحظة من إحساس بهول الموقف ، و شعور بالندم ، وبوح بالساكن فيها ، وبانكسارأمام الجليل جل في علاه ؛ إيذانا بعجزها التام .. وهي فوق ذلك كله تلوح باحتمائها - بهاجس الموت - من وضع هي أدرى بما يتطلب من ندم ومن ثوبة نصوح أمام الملأ يوم تنفع الشهادة وقد جاءت ثائبة .

ومن الوسائل الفنية التي توسلت بها الشاعرة في هذا النص تعبيرا عما سلف تنويع أساليبها ما بين خبرية ، وإنشائية انسجاما مع حالتها النفسية ؛ فهي عندما تريد الإخبار عن ملامح واقع مضى ، أو مايعتمل في ذهنها هاجسا يؤرق ذاتها استعملت الأسلوب الخبري ، أما عندما تريد الإشارة لما يؤرق ذاتها فقد استعملت أسلوبا إنشائيا ، وفق ماتقتضيه الوظيفة هكذا :

ا ) الأمر . لعله المكون الأساس الذي ألح على الشاعرة في هذا النص . وظفت له مظهرا تركيبيا أسسته على الأفعال ( يمم - إقرأ - إخشع - إرحم - إسكب - أكتب ... ) ؛ وقد حملته معنى الطلب حينما توجهت به إلى القلب ؛ تحقيقا للأفعال لا على وجه الاستعلاء ؛ لأنه لااستعلاء على القلب ، كما لا استعلاء على الله . لذلك جرى الأمر مجرى الالتماس في الحالتين معا . وليست الشاعرة الفلسطينية مقبوله عبد الحليم هي أول من توجه بالخطاب إلى القلب شاكية له ؛ فهذا الشاعر المغربي (( إسماعيل زويريق )) يتوجه لقلبه بالنصح آمرا / ملتمسا منه أن يتقبل نصحه ، وموعظته .. ويدعوه للنسيان :

فانس الذي رمت ، في النسيان موعظة .......... لــمــن ألــم بــه مــا أنـــت نـاكــــره

لكن شتان بين من يلملم جروح قلبه ، ثم يتبرم منه ، ويدعوه لتركه وشأنه ، وبين من يوصي قلبه بقراءة القرآن على قبره وهو قد طوي جدثا :

ويقول إسماعيل زويريق مخاطبا قلبه :

دعني وحالي ، فإما الحال تسعفــــــني .......... بما أتــــوق ، وإما ما أحــــــاذره ُ

وتقول الشاعرة مقبولة عبد الحليم :

اقـرأ مـن القـرآن سـورة فاطــــــــــــر .......... واخشع قليلا واغترف بعض الهواء

استعملت الشاعرة هذا المقوم للدلالة على العجز ، والاستغاثة ، والتلطف ، والتحبب ، والتأكيد على الضعف ، و ...

ب ) النداء . استعملت الشاعرة هذا المكون تعبيرا عن حالات نفسية ارتبطت بالذات ، وبالإحساس ، وبالطبيعة . كما استعملته للدلالة اللغوية المعروفة ، وقد استعملت لذلك أعم أدوات النداء (( يا )) لكونها ينادى بها القريب والبعيد ، و (( أيا )) لكونها ينادى بها البعيد . نادت بالأولى قلبها ، وحزن قلبها ، و عمرها المحبوب . كما نادت بالثانية نفسها : ( يـا قلبـا - يا حزن قلبي - يا طيـري - أيـا النفـس ) . وبناء عليه فللنداء عند الشاعرة في هذا النص وظائف أجملها في : الاستغاثة ، التحسر ، التعظيم ، التحقير، و ...



4 ) التشجيع ختام :

الشاعرة مقبولة عبد الحليم ، الشاعرة الفلسطينية الكبيرة ، العصامية ، أراك في تجربتك الشعرية بعامة تركبين قاطرة التحدي ؛ وذلك بانخراطك الموفق في سمفونية الإبداع الشعري النسوي العربي ، فأنت - ولاشك - مع الشعراء الكبار بأدواتك الفنية المحترمة ، التي أراها تجعل منك رمزا من رموز الإبداع الشعري في عالمنا العربي ، وفي خريطة الشعر النسائي الفلسطيني ، وخريطة الشعر النسائي العربي بالذات .. وأنت فوق ذلك تمتحين من ذاتك ، ومن واقعك ، ومن الموروث الشعري العربي .. كما أراك غير متجاوزة للتقاليد الشعرية ، ولا متمردة عليها ، تلك التي رسختها شعرية محمود سامي البارودي ، وأحمد شوقي ، وحافظ إبراهيم ، وهلال الفارع ، ولطفي منصور، ونمر الخطيب ، وإسماعيل زويريق ، وكبار شعراء (( واتا )) جميعا .. بل أنت في إبداعك الشعري - فوق ذلك كله - رمزا من الرموز المسلمة ، المجاهدة بالقلم ، وبالإبداع ، وبتفتحك على أجناس أدبية أخرى ، تجعل كل من يقرأ لك ، يحترمك ، و آراءك الجريئة في الدفاع عن فكرة (( الحب فبل الهدية )) ، وتقبلك للنقد متى ما (( كان مهنيا ومبنيا على الدراسة والدراية والتمعن والإمعان )) ... وأشير إلى أنني قد أنجزت هذا العمل في سياق ماتعهدت بتقديمه لورشة النقد الأدبي لشاعر / شاعرة من شعراء (( واتا )) . وها أناذا أفعل .. وأخيرا لايسعني إلا الثناء على تجربتك أختي (( مقبولة الخير )) ، هذه التجربة التي بدأت أترسم الطريق إلى دروبها ، وساحاتها ، وخمائلها ، وجنائنها ، وسهولها ، وجبالها ، ووديانها ، وأنهارها و ... وفي نفس الوقت لايسعني إلا أن أبارك لك حرفك العربي ، وأدعوك إلى عدم تدنيسه باللهجة المحلية / العامية . كما ألتمس منك تلافي بعض الهـَنـَاتْ الهـَيـٍّنـَات ، التي لايسلم منها أيضا ماكتبته أنا هنا .. كما أبارك لك إشعاع تجربتك الشعرية ، الواعدة بالعطاء ، وإلقاء الضوء الكاشف عليها من هذا البلد الذي يحبكم أهله .


---------------------------------------------
(1) بحثنا في : ( لسان العرب - مقاييس اللغة - الصّحّاح في اللغة - القاموس المحيط - العباب الزاخر )
(2) مقاييس اللغة .
(3) هو سكون ضِدُّ الحياة : ( لسان العرب ) .
(4) في هذا إشارة لخاطرة الشاعرة المنشورة في واتا تحت عنوان : (( تراتيل ))
(5)في ذيباجة تقدمت النص .
(6) كتابه : موسيقى الشعر - ص : 153 - 160

https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ad.php?t=36737

المملكة المغربية - مراكش : 25 رمضان الأبرك 1430 الموافق : 15 / 9 / 2009