شوكة ونقطة
بيني وبينَكِ أستارٌ بعضُها نَسْجُ الحذرِ مني ، وبعضُها نسجُ القدرِ فينا ، وبعضُها نسجِ الحياءُ منك . أستارٌ أراها رياضا خُضْرا أسرِّحُ فيهنَّ الأحلامَ فَجْراً فراشاتِ عَسَسٍ عساها أنْ تقطفَ لي ابتسامةَ من ثغركِ حين تراها عيناكِ ، أو تبلغَني بعضَ أمرِكِ حين تَحُطُّ على شرفتكِ . إيهٍ يا فراشاتُ هاتِ حديثَ الغيبِ : كيف تسريحةُ شعرِها ، وما عنوانُ كتابٍ تحتضِنُه ، وأيُّ أصنافِ القهوةِ تلكَ التي ترشفُ شفتاها ؟ هاتِ لأطيرَ نسيما ، وأُرَاقُ سطرا ، وأُحْرَقُ دُخانا ... ، أَحْلُمُ أسْمَعُ وأرى ... ، ثُمَّ لا شيءَ مِنْ ذلكَ ثَمَّ سوى فراشاتٍ محنطةً بين يديَّ ، أُقلِّبُهُنَّ حائرا ، يُغريني الأملُ : أَنِ انفخْ فيها مجتمعةً تكنْ هدهدا بإذن الطُّهْرِ ، فيصيحُ اليأسُ ستكون طيرا أبابيلَ بكافِ الكَّفِ ، ونونِ الظنِّ ، يَعتوراني هذا وذاكَ ذهابا وإيابا ، فأَجدُني قد نسجتُ سترا آخرَ مِنْ ظُلمةِ اليأس ، وجعلتُه شفيفا لتنفذَ منه ومضاتُ الأمل .
ذاك أنا وأنتِ أستارٌ وأستار ، لا عينَ لي ولكني أراكِ ، ولا أُذُنَ لي ولكني أسمعُكِ ، كأني أبو العلاء في رسالة الغُفْران ، وبيتهوفن في سيمفونية القَدَر ، بل أنتِ أقربُ من ذلك وأدقُّ وأسمى وأعْجبُ ، أنتِ روح تسري في جسدي ، فما مِنْ شِبْهِ لقاءٍ إلا في بِضْعِ ليالٍ تَنتشلينني فيها مِنْ وَهْدَةِ الأرضِ إلى معارجِ سموِّكِ ، شبهُ لقاءٍ في سُويعات حُلْمٍ مُنَجَّمَةٍ تَقتربين مني فيها حتى إذا كِدْتُ أَلمَسُكِ بِعَيْنِي أسْفرَ الحلمُ الواقعُ عَنْ واقعٍ حُلْمٍ ، وهكذا دَوالَيْكَ يا روحي إلى أَنْ يَفْنَى الجسدُ ، وحالُه كحالِ العَيْنِ التي أرادتْ رُؤْيةَ مَوْطِنِ الإبصارِ فيها .
أنا صفحةٌ لَمْ تَقرئيها بين دَفْتي كتابٍ أنتِ قرأتِهِ كلَّهُ ، أ سقطتْ منكِ سهوا ، أم ظننتِها فارغة ؟! إنْ تَكُنِ الأولى ، فبِمثلِ ما أنا فيه الآن أستدِّرُ مِنْ عينيكِ نظراتٍ تُقِيلينَ بها عاثرَ حظِّ صفحةٍ حروفُها طفلٌ رضيعٌ لا يَغْذوهُ إلا شَهْدُ شَفَتِك ، وعصفورٌ شَرِيدٌ لا مَأَوىً لهُ إلا أهدابُك ، ووردةٌ يَغزوها الذُّبولُ ، لا يُحْيِيها إلا ضياءُ ثُغْرَةِ نَحْرِك ... ، وإنْ تكنِ الأخرى ، فباللهِ لا تَعْجَلي ؛ إنَّ الفراغَ معنىً كالامتلاءِ سواءً بِسَواءٍ ، مُحالٌ أنْ يكونَ الفراغُ حَيِّزا لا يَمْلَؤُهُ شيءٌ ، فارْجِعِي البَصَرَ تَرِيِ الصفحةَ ملأى مِنْ نارِ هَجْرِك ، ونورِ طُهْرِك ، وضبابِ حَيْرَتِي .
مِنْكِ قلمي عصا هَرِمٍ تَجُرُّهُ إلى حيثُ يَعْلَمُ ولا يعلمُ بعدَما فَتَكَ اليأسُ بِفَلْذَّاتِ أَمَلِه ، يرى مع كلِّ خُطْوةٍ مَصْرعَ أُمْنِيَةٍ شاهدُها مهدُها ، أكوامٌ من الأماني يَدَبُّ بينَهُنَّ ، أَرْهقتَني يا قلم ، لِمَ تُطيلُ حَرْثَ الألم ؟ إن نصيبي من كلِّ وردةٍ شوكةٌ ، وإنَّ الثمرةَ مِنْ بَعْدِ جَهْدِ الغَرْسِ في الطِّرْسِ نُقْطَةٌ .