المعجزة الكبرى ..
القرآن الكريم مليء بالمعجزات الإلهية ، فلا يُكشف جانب من هذه الجوانب الإعجازية إلا ويفتح القرآن نوافذه إلى اكتشاف جوانب أخرى ..
فمنذ أول آية نزلت من القرآن ، كان الإعجاز البياني والبلاغي يلقي بظلاله على الآفاق ، فانبهر العرب الأقحاح ، أهل الفصاحة والبلاغة ، واستولى على مسامعهم ، وهزّ ألبابهم وأفئدتهم ، وتحداهم القرآن وأرخى لهم العنان في التحدي بان يأتوا بمثل هذا القرآن ، سورة مثله ، عشر آيات ، لكنهم وقفوا عاجزين عن ذلك{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } .
ومن ثم تمر الأيام تلو الأيام ، وتتطور علوم الإنسان ومعارفه وتتسع مداركه وتتفتح له الآفاق هنا في الأرض وهناك في السماء ، ومع ذلك يبقى القرآن العظيم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ، مبيناً للناس إن كل ما توصوا إليه واكتشفوه ما هو إلا جزء صغير من خلق الله تعالى وإبداعه ، وان الله تعالى محيط به عليم ، بل يعدهم سبحانه بأنه { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ، ليبقى عنق الإنسان يتطلع إلى ما هو أبعد مما هو في يديه ، ليتوصل إلى أن هذا هو الحق .
القرآن كله معجزة ليس له نفاد ، والذي { لا تنقضي عجائبه و لا يخلق من كثرة الرد } .
والمعجزة الكبرى للقرآن انه كتاب هداية من عند الله تعالى ، ما إن يتلقاه الإنسان بعقله وروحه ، ويتشربه ويتفاعل معه ، حتى يدفعه إلى التوجه متأملاً في كتاب الله المنظور ( الكون ) ، فيتحرك حينها منسجماً مع هذا الوجود متعانقاً معه في اشد لحظات الألفة والانسجام والتناغم ، فتتغير معالم الوجود .. نعم .. إن المعجزة الكبرى هي في هذه التفاعلية الثلاثية بين قرآن الله المسطور ( القرآن ) الذي يدعو إلى التأمل في كتاب الله المنظور ( الكون ) وبين ( الإنسان ) ، وبتفاعل هذه الثلاثية يبدأ تاريخ الإنسان الحقيقي ، الإنسان الخليفة ، الذي استخلفه الله تعالى في الأرض لإعمارها ، وسخر له كل شيء { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } .
ودعنا نرى نتيجة هذا التفاعل بين تلك الثلاثية ، وذلك باستقراء تاريخنا الإسلامي ، وخاصة زمن الرسول والصحابة ، حيث كان هذا التفاعل في أشد لحظاته حميمية وتألقاً ، نرى العجب العجاب ..
ماذا نرى ؟
أمة منسية في تاريخ البشرية ، ليس لها أي وزن في ميزان الحضارة ، هذه الأمة .. ومن موت الصحراء .. فجأة .. تقفز قفزة رائعة في جميع مجالات الحياة ، ولا تمر إلا سنوات قليلة حتى تضع هذه الأمة نفسها في مدارج الحضارة وسلم الرقي ، لتصنع لنفسها حضارة قائمة بذاتها ، لها عقيدتها وشريعتها وخصائصها .
والسؤال : كيف حدث هذا ؟ إنه معجزة !
نعم لقد حدثت هذه المعجزة بتفاعل الإنسان مع القرآن ، تفاعل كلام الله تعالى مع الفطرة البشرية ، ويوم يعود الإنسان إلى الفطرة ويتلقى كلام الله ، يهتز له الكون طرباً ، وينسجم معه في تسبيحة مباركة ، وتنزاح بينه وبين الكائنات الحجب ، فتتصل حقيقتها بحقيقته ، في تسبيحة مباركة للبارئ العظيم .
ولنستمع إلى توماس كارليل وهو يتحدث عن هذه النقلة الرائعة العجيبة في حياة العرب الذين تفاعلوا مع القرآن وانسجموا مع نواميس الكون ، فكانت حالة الإصلاح التي شهدته العالم :
( قوم رعاة أغنام فقراء ، هائمون على وجوههم في صحراء مجهولون لا يعبأ بهم أحد منذ فجر التاريخ . هؤلاء العرب مع محمد وقرن من الزمان كمثل ومضة نزلت إلى عالم من الرمال السوداء التي لا يلتفت إليها أحد ! لكن يا للعجب . الرمال تثبت إنها بارود متفجر أشعل السماء من دلهي إلى غرناطة . إنني أقول إن الرجل العظيم دائماً كومضة من السماء ينتظرها بقية الرجال كوعاء من الوقود ومن الاثنين تنطلق الشعلة ) .
وتقول إي لين كوبلد في كتابها ( البحث عن الله ) :
( هذا هو الكتاب الذي خلق العرب خلقاً جديداً ، ثم وحد صفوفهم ودفعهم إلى العالم فاقتحموه وحكموه ) .
إذن .. فالقرآن هو القوة المحوّلة التي غيرت صورة العالم ، وأعادت رسم حدود الممالك ، وحولت مجرى التاريخ ، وأثرت في فكر وحياة العالم ، وأنقدت الإنسانية العاثرة المتخبطة ، فخلقت خلقاً جديداً ..
وكذا إذا تفاعلنا مع هذا الكتاب العظيم ، سنكتب التاريخ من جديد .