نداء الفجر
لم يكن صوته جميلاً....
لكننا اعتدنا أن نصحو عليه كل يوم وهو يصدح ليوقظ أهل الحي داعياً لهم إلى الصلاة ، يقف عند كل بيت ويهتف بأهله : قوموا عباد الله ....قوموا إلى صلاة الفجر ،فينقلنا من دوران أحلامنا البلهاء إلى عالم الروح الموشى بخيوط الفجر و نسائمه فنسكر بخمره في كؤوس جبران التي من أثير ، دون أن يبالي بأي لوم يناله بسبب ذلك ، لأنه مقتنع أن نداء السماء أحق بالتلبية من عذل العاذلين ،فيما كان أكثر الناس سخطاً عليه من أصحاب اللحى و أشباه العمائم ، ممن يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، يقض مضجعهم أن يقوم مؤذناً أو يعظ الناس بالمساجد ولو قليلاً ، أو أن ينادي مذكراً بالصلاة وموقظاً النائمين عنها ،لكنَ أحداً من عاذليه لم يجرؤ يوماً أن يوبخه أو يقرعه بعنف كأن أمامه ملكاً من الله يحرسه. بل كنت أرى له مواقف لا مفسر لها سوى نسبته للولاية ، فما أنس لا أنس منظره وقد جمع حوله نفراً من أشد شباب الحي مروقاً وعربدة ، وطفق ينصحهم و يرشدهم ، وهم منصتون له في خشوع كأن على رؤوسهم الطير ، وهم الذين يتحرشون أحياناً بالعابرين في الطريق ، فكيف برجل عجوز يستوقفهم ليعظهم و يذكرهم بأيام الله .
كان وجهه يتلألأ بنور ملائكي سماوي عجيب تذكر بالله رؤيته ، لأنه قد اتخذ من نفسه آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر في عالم هو أبعد ما يكون من الأول و أقرب ما يكون من الآخر ، فلا يكاد يسمع شراً ولا فسقاً خارجاً من في إنسان إلا يستوقفه فينبهه و يعظه دون تعنيف ولا لين ، ومهما كان ذلك الرجل جباراً كنت أجده أمامه مستمعاً باهتمام لا يتلوى ولا يهمز ولا يلمز ولا يتذمر ، وإن كان من أشد المتكبرين السادرين في غيهم .... ولم أجد إلى اليوم لهذا كله سوى تفسير واحد يروي الغليل ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) .
ذات مساء صيفي صعقني نعيه على أحد الجدر ، فدارت الدنيا في عينيَ ، وما عاد في أذنيَ شيء من أصوات الشارع والمارة حولي ، في حين كان صوته الأجش "قوموا عباد الله ...قوموا إلى صلاة الفجر...الصلاة خير من النوم "يتردد مرات ومرات فيهما، ومنظره وهو يذكر أبناء الحي بضرورة لزوم الصلاة و تأديتها في أوقاتها لا يغادر ناظري ، لبثت على هذه الحال لحظات ، ثم مضيت لكنٍٍَِ صورته لم تمض من مخيلتي حتى يوم الناس هذا .
تلك هي السماء....يختارها أشخاص و يؤثرونها على ما سواها ، فتختارهم وتؤثرهم على من سواهم ، وتجعل حفظها حولهم ومن بين أيديهم و من خلفهم ، فلا ينالهم مقدار من الشر ولو يسيراً .
وبت منذ وفاته أستيقظ كل يوم في الوقت نفسه الذي اعتاد أن يمر أمام بيتنا فيه على صوته قادماً من مكان بعيد ، ينبهني لأقوم لصلاتي ، فأنتفض كأنني نشطت من عقال ، ولا أذكر إلا بعد فراغي من الفريضة أن الذي أيقظني و رفع عني غشاوة النوم و نبهني من غفلتي لم يعد بيننا ، وإنما رحل إلى عالم آخر ، أكثر رحابة و أوسع فضاء و أبعد مدى .