أقامت شعبة شعر الفصحى باتحاد كتاب مصر، بالزمالك، ندوة لمناقشة ديوان "ماذا الآن أسميكِ؟!" للشاعر عبدالناصر الجوهري.
حضر المناقشة الشاعر والناقد/ رفعت المرصفي الذي قدم رؤية حول الديوان، فقال: ماذا الآن أسميكِ؟! هذا هو الديوان، أو هذه الزهرة الثامنة كما يحلو لصاحبها أن يهديها إلينا وإليكم، دائماً يهديني ويقول: هذه زهرتي السابعة، هذه زهرتي الخامسة.. إلى أن وصل إلى زهرته الثامنة "ماذا الآن أسميكِ؟!"، قراءة ديوانه وقراءته منذ فترة طويلة من بدايته منذ ديوانيه الأولين "الشجو يغتال الربيع" و "حبات من دموع القمر". وها أنا ذا أقراءة في زهرته الثامنة.
فيستطرد المرصفي فيقول: وجدت بعد قراءة متأنية أن يكون عنوان هذه الدراسة [عبدالناصر الجوهري يشجو بشاعريته ويتحصن بها]، هذا هو الجو النفسي الأعم في ديونه، فمنذ بداية هذا الديوان نجد شاعرنا مذهون بشاعريته وفخورا بانتمائه إلى عالم الشعر الرحب، ليس ذلك فقط بل ويؤكد دائماً في مناطق خطيرة كثيرة في هذا الديوان أنه لا يملك إلا الشعر ولا يعترف إلا به. فهو له السكن والحصن والملاذ، وإذا أردنا أن ندلل على ما نقول نجد في صفحة (6) يقول:
افرحي يا شطوط القصيدة..
إني أشيد رابية
للخلاص
إذا ما الموت بدا
إذا فعبدالناصر الجوهري لا يجد من يفرح معه ولا يجد من يتوحد معه في فرحه وفي حزنه سوا القصيدة، فيقول في صفحة (7):
افرحي يا حقول البلاد..
سأمتطى الشجو ثانية
تاركاً للجوى موعداً
وكأنه لا يجد من يستحق أن يفرح معه في الخلاص سواء قصيدته، فهي فقط عند عبدالناصر الجوهري من يستحق أن تشاطره الفرحة في هذا العالم، وما أروع واصفاً تحصنه بالشعر، في صفحة (8):
والذين مضوا فوق عظم القصيدة..
لم ينظروا- تحت أقدامهم-
ليروا زهرة نبتت بالرفات
إذا فعبدالناصر الجوهري يريد أن يخبرنا بشكلً أو بآخر أنه ولد متوحداً مع قصيدته وعلى الجميع أن يتأمل أزهاره الشعرية التي تُنبت يوماً بعد آخر، وهنا يصل عبدالناصر الجوهري إلى ذروت التوحد والتحصن بشعره إلى حدا أن من يدوس فوق عظام القصيدة أنما يدوس فوق عظامه هو شخصياً، لأنه الشعر والشعر هو، ويستمر شاعرنا في زهوه الجميل بشاعريته، في قصيدته "ماذا الآن أسميكِ؟!" التي تحمل اسم هذا الديوان، فيقول في صفحة (20):
أبدلني الله..
حدائق شعر..
لا تعنيكِ..
ألهمني
أن أختصر حروفك
وأذيع أقاصيص الشوق
وأن أرويكِ
ألهمني قافية
قد فاقت رنة حاديكِ
ألهمني
إطناباً
أخيلة
تنبت في واديكِ
ماذا الآن أسميكِ؟!

# زهو عبدالناصر الجوهري بشعره وتحصنه به:
إذا فهو يكرر لنا مرة ومرات أن حدائق شعره هي أثمن وأغلى ما رزقه الله تعالى له في هذا العالم، وهي أعظم حصناً يحميه ويلوذ به عند الشدائد، يستمر شاعرنا في تشبثه بالشعر، وفي التحميل عليه، فيقول في صفحة (11):
اسقني يا قريضُ
ودع وثبة للبراءة.. لا تبك إلا الموت
اسقني وامزج الشعر..
بالوصل.. بالهينمات
اسقني مرة قبل أن يأتي الحلم..
متكئا في الغروب على شجوه
إذا فالماء والري ل عبدالناصر الجوهري أيضا من الشعر، هل هناك أميز أو أحصن من الشعر بالنسبة ل عبدالناصر الجوهري؟، يجيب على السؤال المرصفي: لم أجد في ديوانه إلا الشعر حصناً وأن الشعر ملاذاً.
وفي منطقة أخرى يؤكد شاعرنا ثقته الكبيرة في الشعر فيقول في صفحة (14):
أرجوكِ.. بأن تختصري أرض عذوبتكِ
فإني لا أثق بغير الشعر..
إذا حتى عندما يختلف مع محبوبته يطلب أن يكون خلافه في عذوبة الشعر، فهو لا يقبل منها إلا الشعر، ولن يسمع منه إلا الشعر، يستمر شاعرنا في الزهو من قصيدة إلى أخرى، ليؤكد لنا أنه لا يملك إلا الشعر فهو له المال والحصن والسند والملاذ. يستشف عبدالناصر الجوهري أيضا مستقبله في الشعر يحمل على الشعر كثيرا يقول في صفحة (19):
غدا لها سأجعل الأشعار..
بستانا ومنزل..
غداً أهيئ المنى
إن المنى أجمل
امتداد لشوقه بالشعر يقيم مستقبله ويسحب كل مستقبله القادم على هذا الشعر، وعلى عالم الشعر الرحب الذي دخله بقوة وجد واجتهاد منذ أن تعرفت عليه في بداياته الشعرية.
ثم ينتقل الناقد رفعت المرصفي إلى منطقة أخرى في هذه الدراسة التي قدمها عن الديوان، عندما يحب الإنسان فإنه يغار على من يُحب، ومن كثرة حب عبدالناصر الجوهري للشعر فهو يغار عليه، يفجر داخل المحب قدراً أشد من الغيرة على من أحب، فحب عبدالناصر الجوهري الجارف للشعر جعله يغار عليه غيرة شديدة، ويحزن لما يصيبه هنا أو هناك، وبما أنه شاعر متدفق بالعزوبة والشفافية، فقد عبر عن غيرته وحزنه على ما أصاب الشعر من فتوراً وبوار، في زمان تغطت فيه المادة وأزاحت أمامها معظم الأحاسيس الدافئة والمشاعر الفياضة، وقد قدم في ذلك عبدالناصر الجوهري سبعة قصائد قصيرة، بعنوان واحد وهو "مقاطع من جروح العزف" صفحة (44)، فلنتأمل ما يقوله في المقطع الثالث صفحة (45)، يقول عبدالناصر الجوهري باكياً على الشعر وما آل إليه:
في أسواق (سمرقند) نفوا
أن قراطيس الشعر ..
مخضبة
بنفايات العطارين..
ويسحلها في البرد .. مخاط النبلاء
أما في أبنية المنتديات لدينا
فيداس بكل حذاء
هذه إحدى المقطوعات التي يعبر فيها شاعرنا عن حزنه على ما أصاب الشعر، ثم يقول في المقطوعة الرابعة صفحة (46):
في حانات (صقلية) ..
عرفوا (الجاحظ)
أما في باديتي
مازال يعامل في سيارات الأجرة ..
كالمنبوذين السفهاء
تحسر على أحوال الشعراء في عصر المادة المزيف الذي نعيش فيه الآن.
ننتقل إلى مساحة أخرى من هذه الدراسة، فيقول مثلاً في صفحة (57)؛ في صياغة أخرى ولكن على منوال ما أصاب الشعر:
بدد الله أشياءهم
كلما دخل الشعر
أعمى؟
سحبوه على أم عينيه
فسواك.. على الحتف يعبر
واللحن ما عاد يُغوي
إذا عبدالناصر الجوهري من شدة حبه وتشبثه وتحصنه بالشعر يغار على الشعر ويحزن على ما يصيبه ويعبر عن ذلك بمقاطع متعددة من قصيداً طويل سماه كما قدمت صفحة (45) "مقاطع ن جروح العزف". ولأن الشاعر يعشق الشعر حتى النخاع ويحتضن بأبياته وتفاعيله، ويؤكد دائماً أنه لا يملك سوء الشعر وان أخلصه له قد فاق الحدود فهو من الشعر وله ومن هذا المنطلق فقد كان ينتظر من نقاد الشعر والقائمين عليه أن ينظروا ويتناول تجربته الشعرية بقدرً من الجدية ولذلك فهو في صفحة (60) يعيب عليهم فيقول:
لن يكتب النقاد عني
لمحة للناس..
إلا حينما ينهار ظهري للأبد
لن يكتبوا
إلا وشيبي
قد هاج يوما
أو شرد
أنا المهمش في البلد
تقف الحمامات التي نزحت على كتفى
وتنتظر المدد
ثم يوجه الناقد رفعت المرصفى كلامه للحاضرين في تلك الندوة الشعرية، في الحقيقة وأظنكم تؤيدونني في ذلك أنني لا أتفق مع الشاعر في إحساسه بالتهميش لأن لهذا الإحساس الذي يشعر به، اعتقد وأؤكد أنه غير صحيح، فشاعرنا الآن وقبل الآن ملء السمع والبصر، فإبداعاته المتعددة شاهدة على ذلك، ونشاطاته هنا وهناك تؤكد تفرده وانتشاره، وها هم الأساتذة النقاد يتناولون أعماله بالبحث والدراسة والتحليل، فأين إذا يا شاعري الجميل هذا التهميش الذي تتحدث عنه؟! (سؤال يوجهه الشاعر رفعت المرصفي للشاعر عبدالناصر الجوهري).

# الصورة الشعرية عند عبدالناصر الجوهري:
في الحقيقة من خلال هذا الديوان والدواوين التي سبقته، ألاحظ من تجاربه الشعرية المتعددة أنه لاشك قادر على التصوير الشعري الجيد، ولكن مع إصراره الدائم على استخدام قوافي على مسافات معينه وهذا ما لاحظته تحديداً في ديوان "ماذا الآن أسميكِ؟!" هذا الإصرار الدائم على استخدام قوافي على مسافات معينه في شعره جعله دون قصد يسعى إلى خلق صورته الشعرية فتتحول ن كونها صورة مطلقة، تجعل المتلقي يتفاعل معها في ثرائه وبأحاسيسه المطلقة المتعددة إلى كونه صورة محدودة مسطحة لا طعم لها ولا رائحة، فمثلا يقول في صفحة (35):
مسكين ن جاءت تصحبه
رَبة شعر.. أو حلم يجنح للأحباب
ماذا أضاف الشطر الثاني من الصورة بعد الشطر الأول، مسكين من جاءت تصحبه ربة شعر، ثم يضيف "أو حلم يجنح للأحباب"، أيهما أقوى شعرياً، مسكين من جاءت تصحبه، رِبة شعر، كانت هذه الصورة تكفى على إطلاقها أن تجعل المتلقي يتفاعل معها بطلاقه وبحرية وبرحابه إلى أنه عندما أضاف "أو حلم يجنح للأحباب"، قد خنق الصورة من وجهت نظر الناقد رفعت المرصفي الشخصية، فقد خنق صورته الشعرية ولم يضف هذا السطر بل على العكس، فقد انتقص من قيمة الصورة الأولى؛ إذا فالصورة الشعرية مطلقة ورائعة في شطرها الأولى، وكان يمكن الاكتفاء بهذا السطر الشعري الشهي، لو لا أنه في بحثه الدءوب عن القافية وهي كلمة (الأحباب) جعلته يأتي بصورة أضعف من صورته السابقة، فالشاعر قال في الشطر الأول (تصحبه ربة شعر) وهذه تكفي، أي الذي يأتي تصحبه ربة شعره وكفى، أما (أو حلم يجنح للأحباب) جعلته يخنق صورته الشعرية.
وفي صفحة (15) يقول:
كفى عن غرس البين بحقلي
وحقول الشجو السهرانه
الصورة في السطر الأول كافية ومعبرة وتستطيع أن تطلق هكذا، ولكنه أضاف (وحقول الشجو السهرانه) حتى يأتي بكلمة (السهرانه) وهي القافية التي تسير عليها القصيدة، إذا فالبحث واللهث خلف القوافي الموحدة التي يريد عبدالناصر الجوهري أن يصنعها في قصيدته جعلته دون قصداً وربما دون أن يدري جعلته يخنق صورته الشعرية.

# أروع قصائد الديوان:
يشير المرصفي أن أروع قصيدة جاءت في هذا الديوان، هي قصيدة "ما جدوى النوم؟"، صفحة (69)، يقول عبدالناصر الجوهري في هذه القصيدة القصيرة:
وطني
يمشي أثناء النوم
وتختلط لديه اليقظة بالغفلة..
بغطيط الأوجاع
ورائحة الثوم
وطني يتجول.. دوماً في عزلته
إني أعرفه
يغرق في بحر العولمة
ويخشى العوم
وطني ما جدوى الهذيان..
وكيف يقايض طير الصحو..
بأسوار الغيم
أخشى يوما أن يسقط من فوق سياج الشرفة..
ماذا سنقول إذا سألتنا
الأرض الثرثارة..
أو قتلتنا صرخات اليم
وطني
استيقظ يا وطني
الهربً من العتق..
أضاع بقايا الحلم
كان من الأجدى أن يقول الهرب من العتق.. يضيع بقايا الحُلم، حتى يصبح في زمن المضارع وفي زمن الاستمرارية وخصوصا عندما تأتي القصيدة كلها في الزمن المضارع لكن في الحقيقة الهرب من العتق أضاع الحلم، فهو أضاع القضية ويقتلها ولكن عندما نقول يضيع تستمر الصورة ويعطي استمرارية للصورة وفي كونها حكمة في نفس الوقت.
ويعتقد رفعت المرصفي أن الشاعر وفي هذا النص بالذات قد استفاد من كل تقنيات القصيدة الحديثة ووظف كل خبراته الشعرية والإنسانية في طرح هذا النص وقد بدأ بداء معروف يصيب الإنسان وهو المشي أثناء النوم ثم سحب هذا الداء على وطنه فكانت البداية بصورة كلية رائعة جسدت الجو النفسي للشاعر وللقصيدة بشكل عام. وهيئته لتطبيق كل أعراض هذا الداء على الوطن ثم أتبع هذه الصورة الكلية وهي المشي أثناء النوم، بعد عدد من الصورة الجزئية التي تتمركز بأعراض هذا الداء إلى أن اختتم قصيدته باستفهام تعجبي يحمل الكثير من الدلالات فقال:
ما جدوى الهذيان؟!
وكيف يقايض طير الصحو..
بأسوار الغيم
ثم يختتم النص بكاملة بشكل من أشكال الحكمة حين يقول:
الهرب من العتق.. أضاع بقايا الحلم
الحقيقة أن هذا النص هو في الديوان، وهو من أجمل المناطق الشاعرة، وفيها تبدو تجارب عبدالناصر الجوهري وتألقه الشعري وتعكس تجاربه المختلفة في عالم الشعر وإخلاصه ودأبه عليه.
كما أن هناك ملاحظة مهمة جدا في هذا النص، هذا النص يكن أن يقرأ بشكل عكسي دون أن تشعر بأي خلل، فإذا بدأنا القصيدة ونقول:
الهرب من العتق.. يضع بقايا الحلم
ثم نستمر في الصور الجزئية، ونختتم بالصورة الأولى وهي:
وطني يمشي أثناء النوم
وهذا يعني أنه لو قرأت القصيدة من أعلى إلى أسفل فهي صحيحة أو من أسفل إلى أعلى فهي متسقة. هذه حكمة فإذا صدرت في بداية القصية فهي جائزة.
عبدالناصر الجوهري: لاشك أنه متمكن من أدواته وإصداراته تنبئ بذلك.

# المرصفي: ما على عبدالناصر الجوهري:
لكن لا أدري لماذا هو في بعض المناطق في ديوانه قد مزج بين تفعيلتي بحر المتدارك (فاعلن= متحرك وساكن ومتحركين وساكن) و (فعلن=ثلاثة متحركات وساكن)، أي تفعيلتي الخبب مع التدارك، وفي الحقيقة هذا يؤدي إلى قلل في الإيقاع، يعني عندما يمزج تفعيلتي الخبب (فعلن) الإيقاع يأتي منساب ورائع، ولكن عندما نمزج بين تفعيلتي المتدارك والخبب يحدث نوع من النتؤ في القافية، وهذا موجود في قصيدتين أو ثلاثة، قصيدة "لست ضد أحد" صفحة 28، وقصيدة "ماذا حل بجرني؟!" صفحة 33.
وقصيدة "ماذا حل بجرني؟!" لم يكتفي بذلك وفقط بل أضاف في تفعيلة القافية تفعيلة المتدارك وأحيانا يذهب إلى تفعيلة مستفعلن (الرجج)، ولا أعلم كيف لشاعر بقدر عبدالناصر الجوهري يقع في هذه الأخطاء البسيطة (هذه رؤية الناقد رفعت المرصفي).
ثم يستطرد فيقول: القوافي التي أصر عليها عبدالناصر الجوهري جعلته يُحدث بعض الترهل في بعض قصائده نتيجة إصراره على الآتيان بالقافية الموحدة هذا الترهل واضح في عدة قصائد في هذا الديوان، وهناك خطأ شائع يقع فيه شباب الشعراء وكم وقعت فيه أنا شخصيا (الكلام على لسان المرصفي) وهو مثلا لا يحاول أن يشبع ياء التأنيث لكي يحافظ على الإيقاع، مع أن "ي" التأنيث هذه من أساسيات اللغة، ولا يجوز أن أهدم اللغة ن أجل إيقاع الشعر، فمثلا عندما يقول:
مدي إليه أيديكِ
هو لكي يضبط تفعيلته على بحر الخبب أو المتدارك فهو يحذف "ي" المؤنث، وهذا غير جائز لأنه لا يمكن أن أهدر قاعدة نحوية من أجل قاعدة إيقاعية لأن اللغة والنحو هما الأساس في الشعر، فالشعر هو ديوان العرب، والشعر هو البوتقة والحصن الأمين للغة العربية بعد القرآن الكريم.
أدار الندوة الشاعر الكبير/ عبدالمنعم عواد يوسف، رئيس شعبة الشعر الفصيح باتحاد كُتاب مصر، والذي أثرى الندوة بمداخلاته القيمة، وتحليله النقدي المتميز، وقد حضر الندوة لفيف من شعراء وأعضاء الاتحاد، سواء من شعراء العامية أو الفصحى.

متابعة:
م. محمود سلامة الهايشة
كاتب وباحث مصري