لـ الحروق الثلاثة في "وطن"
لكل من رحل ،ولكل من ينتظرون عودة من رحلوا ...
اشعر أنني فارغة تماما ،كحقيبة سفر حبلى بالثياب، منفوخة البطن، غير أنها خاوية عندما تمتد إصبعي كي انتقي ما سوف أرتدي ،هذا الفراغ يشدني إليه أكثر، وكلما حاولت أن أبتعد عنه يقربني إليه ،يطبع بذاكرتي قبلة باردة، تعيدني للنظر في وجه الموت ،يغريني أمد يدي نحوه
ليضمني أكثر ،صوت أمي يحمل من الوجع ما تخطى حدوده ،تسألني في همس كهمس فراغي متى سيعودون جميعا.؟فأجيب: قريبا .
واستمر بصمتي، خيال ذلك الجبل البعيد يطوف حولي مند مدة من الوقت، استيقظت ذات صباح خريفي من نومي، راقبت الأفق الممتدة حولي، ورأيته،رأيته بعد ثلاثين عاما من صحبة دائمة، شدني حنين إليه، أرخيت بصري نحوه، ورآني، تخيلتني بين أحضانه أمارس هواية الغطس في أحشائه، أعود لرحمه من جديد لينجبني أنثى لا تشبهني في شيء، أنثى لا تشتاق لعيد ميلادها الأول، أنثى لا تشبهني في ارتوائي الدائم من مياه الغدر والانتظار، أنثى لا تكف عن تقطير دمع حفر على خدها خندق مالح لا يصلح للزرع.. الحزن إله والدمع سلطة مالحة والآخرين عصافير ذابلة مقصوصة الجناح غنائها يدمي القلب، كففت عن سماع أغانيها ...امشي بطرقات معجونة بمياه المطر، انتشل ظلي من الغرق تحت حوافر أحصنة كفت عن إنجاب الفرسان، تمضي وحيدة في شوارع موشومة بأسماء الراحلين عنها ،يعيدونها دوما للتذكر كلما حاولت أن تغلب النسيان..كجدران منازلنا العتيقة المحدقة بالفراغ ،تمسك بأجساد شبان حينا إليها ،تطبع على ظهورهم برد جدرانها ،لتأخذ منهم دفئ أجسادهم الخاوية إلى
من بعض الحلمـ، يشبهون أعقاب السجائر تَحْتَرِقُ لِتُحْرَقْ، يمارسون هواية تنشيط دورة الحلق، يمثلون أدوار لا تشبههم في شيء، فهم الفضيلة وهم القصاص العادل ،لكل أنثى تحاول أن تطارد السنة الصمت لتعاتب الكلام على إغوائه لها ،ويطول الجدال بينهما ،و أَمُرُ لأقبل جبهة المساء في الوداع ما قبل الأخير ،فقد مات جارنا قبل عام دون أن يقبل جبهة المساء، دون أن يغرس في قلب زوجته أمنية العودة، رحل بلا عنوان كجواب قادم من بلاد مهجورة، يبحث عن عيون تنتشل ما علق بسطوره من حرف، سألتني أمي في وجع يشبه وجعها الدائم عند السؤال: هل سينجبه البحر من جديد .؟قلت: ربما .وأطلنا الانتظار ولم يعد، في مسجد الحي صلينا صلاة الغائب عنه، وصليت صلاة الغائب عنك ،وغسل الحزن جسدي من طين الانتظار، ورميت فستاني الأبيض، استبدلته بأسود يشبه لون شعرك ،غابت عنه رائحة شعرك وغاب عنه أنت..وبكيت لحظتها كثيرا حتى جف الدمع،وأنا أرقب الفراغ، أعد على أصابع يدي من فُقِدَ ومن عاش، وكان ذلك الجبل البعيد ما زال يحدق بي كما تعود أن يفعل، همست في أذن الصدى كي يحمل بعض صوتي إليه، قد مات قلبان والثالث لن يكون قلبي، أطلق أفقك من بصري ،وقناديلك الوهمية، شوارعك المزينة بكذبة وحصاد الموت الدائم، أطلق أفقك من بصري ومدها لأفق غيرك، أفق يشبه هواء وطني ،هواءه يعرف وجع حكايتي المغروسة في التراب، كوردة تحن لمن سيقطفها قبل الذبول، شوارعه تحمل رائحة الفرح الهارب من مدن الوجع، سكانه يتشارطون رغيف الخبز اليابس وبسمة مصلوبة على أفواه الجوع تحدق في غد عنوانه لن يكون أبدا أنتَ .