1 الانتباه أولا
***
· قال لي صديقي الجالس بجواري في السيارة المسافرة بنا :
- ما أرفع هذا الجبل الشامخ !!
- أي جبل ؟
- الذي مررنا به قبل قليل ألم تره ؟
- لا , للأسف لم أره , فلم أكن منتبها
- طيب ألم تسمع الدويّ الشديد بفعل الكسارة التي تعمل أسفل الجبل ؟؟
- عن أي دويٍّ تتكلم فلم أسمع شيئا ؟؟
- لكن كادتْ أذناي تصمَّان من شدة الصوت
- الحمد لله , لم أسمع شيئا , فلم أكن منتبها
- لكن كيف لم تر ولم تسمع هل كنت نائما ؟
- لا بل كنت غافلا , والغافل كالنائم لا يشعر بما حوله
- أنت يا صديقي تذكرني بقصة صويحبات زليخا اللاتي قطعن أيديهن ولم يشعرن بألم السكاكين
- نعم أنا من هذه الناحية فعلا مثلهن , فأنا لم أر الجبل الرفيع , ولم أسمع الدويّ الهائل وهنَّ لم يشعرن بالألم الشديد , جراء تقطيعهن أيديهن بالسكاكين , والجامع بيني وبينهن هو عدم الانتباه
- وهل للانتباه كل هذا الدور وهذه الأهمية ؟
- نعم يا صديقي العزيز .. فالإنسان الغافل قد تغيب عنه أوضح الواضحات .. فلا يعود يرى الجبل الشامخ .. ولا يسمع بالصوت المدوي .. ولا يشعر بالألم الشديد .. والإنسان الغافل والنائم سيان تغيب عنهما أوضح الواضحات كما وسبق أن قلت لك .. وحين تريد أن تعلم بأمرٍ ما , أي أمر , فلا بد أن تنتبه إليه أولا , وإلا فلن تستطيع التعرف عليه .. الانتباه يا عزيزي هو الخطوة الأولى في طريق المعرفة , أية معرفة كانت ..
- وهل يصدُق هذا الأمر - يا صديقي - على معرفة الخالق تعالى أيضا ؟؟
- نعم يا صديقي .. فمن لا ينتبه إلى نفسه , وإلى ما حوله , فإنه لن ينتبه لوجود الخالق تعالى , مع أن الله تعالى هو أوضوح الواضحات .. أليس الله تعالى هو مظهر الموجودات كلها ؟؟!! فكيف يكون لها من الظهور ما ليس لمظهرها ؟؟!!
- لكن يا صديقي : الفرق واضح وجلي بين الموجودات وبين الله تعالى .. فأنا أرى الجبل .. وأسمع الصوت .. وأشعر بالألم , لهذا أقول بأن الجبل والصوت أشياء موجودة ..
- نعم يا صديقي أنت الآن ترجعنا لما كنا فيه قبل قليل في السيارة ..
- كيف ؟
- نعم .. أنت وحدك من رأى الجبل أما أنا فلم أره .. وأنت وحدك من سمع الصوت المزعج القوي .. أما أنا فلم أسمع به .. والسبب هو أنك كنتَ منتبها للجبل فرأيته .. وكنتَ منتبها للصوت فسمعته .. أما أنا فلم أكن منتبها , فلم أر ولم أسمع .. وكذلك الأمر بالنسبة لله تعالى بالضبط .. فالله خالقنا تعالى يعلم به المنتبهُ إليه .. ويجهله الغافل عنه .. فالجهل بالله , لا يعود ذنبه لله - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وإنما يرجع سبب الجهل به إلى غفلتنا عنه ..
- وكيف عسانا نعلم بوجود خالقنا تعالى ؟
- إذا أردت أن تعلم بوجود الخالق عليك أولا أن تنتبه إلى وجوده ..
- طيب يا صديقي : حينما أعلم بأمر ما , وغيري لا يعلم به , فكيف عساني أخبره به كي يعلم بوجوده ؟
- إذا أردت يا - صديقي العزيز - أن تـُعلم شخصا بأمر ما , فعليك أولا , أن تنبهه إلى ذلك الأمر .. فالغافل كالنائم لا يمكن له أن يعلم شيئا , حتى لو كان أمرا واضحا جليا .. كما وقع لي , قبل قليل , ونحن في السيارة , فلم أر الجبل الشامخ , ولم أسمع الدوي الهائل , لأنني كنت غافلا عنهما .. وكذلك لو كنتُ نائما في السيارة , فإنني كذلك , ما كنت لأرى الجبل ولا لأسمع الصوت ..
- وهل يكفي الانتباه إلى الأشياء كلها , كي نعلم بها ؟
- يا صديقي العزيز الأشياء على أنواع : منها الأشياء الجلية , ومنها الأشياء الخفية الغامضة , و الأمور الجلية مثل كل ما نره من جبلٍ وشمسٍ وبحرٍ وأرضٍ وسماء .. وكل ما نسمعه من أصوات .. وكل ما نلمسه ونشعر به من حرارة وبرودة .. وكل ما نتذوقه .. وكل ما نشمه .. فكل هذه الأشياء أشياء واضحة جليه , يكفي لكي نعلم بها أن ننتبه إليها .. فإذا أردت أن تعلم بوجود جبلٍ ما, ما عليك إلا الانتباه إليه , لتراه .. وإذا أردت أن تعلم بوجود الشمس ما عليك , إلا الانتباه إليها , و هكذا بقية الأشياء الواضحة .. وهناك أمور غير واضحة , لا يكفي للعلم بها , الانتباه إليها .. بل تحتاج إلى أمور أخرى أكبر من الانتباه كي نعلم بها .. مثل مكونات الماء .. ومثل مكونات الهواء .. ومثل كيف تسري الكهرباء في الأسلاك .. ومثل كيف تنتقل الأصوات عبر الهاتف من بلد إلى آخر .. ومثل كيف تنتقل الصور .. وغيرها من الأمور التي نراها ونسمعها , لكن لا نعلم بحقيقتها ولا كيف تمَّت ..
- طيب يا صديق , وجود الله خالقنا العظيم , هل هو من الأمور الواضحة , التي لا تحتاج إلا إلى مجرد الانتباه أم من الأمور الغامضة ؟
- أحسنت يا صديقي , أرى أنك بدأت تـُعمل تفكيرك وتستفيد مما يمر عليك .. يا صديقي العزيز , وجود الله تعالى , من الأمور التي لا تحتاج إلا إلى الانتباه فقط .. لأن الله تعالى هو خالق الواضحات , وخالق الأمور الواضحة أكيد بأنه أوضح منها ..
- يا صديق العزيز , ممكن تزيد لي الأمر وضوحا ؟ كيف أن خالق الأمور الواضحة أوضح منها ؟
- نعم يا صديقي الأمر سهل , إذا تنبهت إلى هذا المثال الذي سأضربه لك
- تفضل فأنا مصغٍ إليك جيدا
- المثال هو : يا صديقي العزيز أنا وأنت الآن راكبان في سيارة صح ؟؟
- نعم يا صديقي , وهي سيارة يابانية الصنع ..
- الآن انتبه لي جيدا , سأسألك سؤالا عن هذه السيارة : هل لهذا السيارة صانع ؟
- هههههه ما هذا السؤال يا صديقي ؟؟!! أكيد لهذه السيارة صانع , وإلا كيف وجدت ؟؟ لابد أن يكون لها صانع هو الذي صنعها ..
- إجابتك صحيحة يا صديقي .. ولكن سؤالي لم يتنهِ .. انتبه لي جيدا سأسألك سؤالا آخر يتعلق بإجابتك الأولى , السؤال هو : كيف علمت بأن هذه السيارة صنعها صانع ؟
- يا صديق هذا أمر واضح وجلي , ولا أحد ينكره , أو يتردد فيه , كل الناس يعلمون به ..
- ممتاز .. انتبه لي جيدا فسؤالي لم يتنه بعد .. والآن أسلك السؤال التالي : أين الأكبر والأعظم والأهم الشمس أم هذه السيارة ؟ السماء العالية أم هذه السيارة ؟ الأرض الشاسعة أم هذه السيارة ؟ أين الأعظم والأكبر والأهم : كل ما نره حولنا من مخلوقات كبيرة وصغيرة ومتنوعة أم هذه السيارة ؟؟
- يا صديقي ما هذه الأسئلة السهلة البديهية التي يعرفها كل أحد .. أكيد الشمس أكبر وأوضح وأهم من هذه السيارة .. والسماء والأرض أكبر من هذه السيارة .. وما نشاهده حولنا أكبر وأهم م هذه السيارة ..
- ممتاز جدا يا صديقي العزيز .. والآن انتبه لي جيدا : إذا كنت علمت بأن هذه السيارة لها صانع , وأنها مستحيل أن توجد بدون صانع .. وأنت قلت بأن معرفة هذا الأمر أمر واضح لا ينكره أحد .. وقلت أيضا أن الشمس والأرض والسماء أشياء أعظم من السيارة , فهل يمكن أن توجد هذه الأشياء بدون خالق ؟
- بالفعل يا صديقي كلامك حق , وبدا لي الأمر سهل جدا .. لابد أن يكون للشمس وللأرض وللسماء ولكل المخلوقات صانع وخالق .. وأن وجود صانع لهذه المخلوقات أمر واضح يكفي للعلم به , مجرد الانتباه فقط ..
- لكن يا صديقي لو سمحت لي , لِمَ ير البعض أن وجود صانع للسيارة أوضح من وجود خالق للأرض والسماء والكون الفسيح ؟
- نعم يا صديقي سؤالك جيد ومهم , لكن الإجابة عنه سهلة جدا .. لأن السبب كما وسبق أن قلنا هو في الغفلة لا أكثر .. لأننا ننتبه إلى السيارة وصانعها , نعلم بأن لها صانعا .. ولو انتبهنا إلى الكون بما فيه وصانعه , لعلمنا عن يقين بأن له صانعا ..
- لكن يا صديقي هل كل هذا الجهل سببه عدم الانتباه فقط ؟
- يا صديقي لو تـُرك الإنسان ونفسه , على طبيعته , لم يحتج كي يعلم بوجود خالقه , إلى سوى الانتباه فقط .. كما سبق وقلت لك , حينما قارنا بين السيارة ومخلوقات الكون العظيمة ..
- يا صديقي أفهم من كلامك هذا , أن هناك أسباب أخرى , وراء الجهل بوجود الله تعالى ؟؟
- نعم يا صديقي فهمك صحيح .. فالعلم بوجود خالقنا العظيم أمر بديهي و واضح , بل هو أوضح من الشمس الساطعة , لكن ذلك لمن ترك على طبيعته .. أما لمن حال حائل دونه ودون طبيعته الصافية النقية , وتراكمت الأوساخ على مرآة عقله , حتى بات لا يرى أوضح الواضحات , فهذا وأمثاله , لا يكفيه مجرد الانتباه , بل عليه أولا من إزالة ما علق على مرآة عقله من أوساخ , وحينها يكون مجرد الانتباه إلى خالقة , كافيا في علمه بوجوده , .. وهذا مضمون الحديث الذي ورد عن رسولانا الكريم صلى الله عليه وآله الذي يقول : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه .. فحين تأثر البيئة والتعليم الخاطئ على الإنسان , فلا يعود يكفي له مجرد الانتباه , وهذا مثل المرآة الحقيقية , لو كانت متسخة , فهل يمكن أن ترى فيها نفسك ؟؟ لا يمكن أن ترى وجهك , مع أنك تعلم بوجودك يقينا , لكن لا ترى نفسك , نتيجة الأوساخ التي تراكمت على هذه المرآة .. وإذا أردت أ ترى وجهك في هذه المرآة عليك أولا أن تنظف المرآة .. وكذلك من تربَّى في مجتمع وبيئة فاسدة , لقنته أمورا خاطئة , هذه التربية الخاطئة صارت حائلا بينه وبين أن يرى الحقائق .. وعدم رؤيته لها , لا يدل على عدم وجود الحقائق , بل العيب في تربيته وبيئته التي قلبت عنده الموازين ..
- نعم يا صديقي كما تقول .. لكن دعني أسألك الآن : قلت بأن وجود الله الخالق العظيم أمر بديهي واضح لا يحتاج من أصحاب الفطر السليمة إلى سوى الانتباه فقط .. فهل كل ما يتعلق بالله تعالى أمر واضح لا يحتاج إلا إلى مجرد الانتباه ؟؟
- إذا انتبهت يا صديقي لما سبق وأن قلنا : فقد قلنا أن الأمور تنقسم إلى : أمور واضحة جلية وأخرى خفية غامضة .. وقلنا بأن الأمور الواضحة لا يحتاج للعلم بها إلى سوى الانتباه .. وأن وجود الله تعالى من تلك الأمور الواضحة – بل أوضح الواضحات – التي لا تحتاج على سوى الانتباه .. أما الأمور الخفية , فلا يكفي للعلم بها إلى مجرد الانتباه .. بل تحتاج إلى أشياء أخرى ..
- نعم يا صديقي العزيز .. وحبذا لو قلت لي الخطوات الأخرى للعلم بالأشياء من حولنا ..
- نعم يا صديقي أول خطوة للعلم بأمرٍ ما , - والتي سبق وإن قلنا بأنها الخطوة الأولى والتي لابد منها في العلم بأي أمر ما - هي خطوة الانتباه .. لكن بعض الأمور لا يكفي فيها الانتباه فقط , بل لابد فيها من خطوات أرقى من الانتباه للعلم بها ..
- والخطوة الثانية بعد الانتباه هي التفكر في الأمر .. وأعمال عقلنا فيه , للكشف عن ملابساته والعلم بخصوصياته .. فحين نريد أن نعلم بأمر غامض , علينا أن نفكر فيه مليَّا , ونتدبر فيه كي نكشف عن خفاياه ..
- وهل كل الأمور الخفية يمكن أن تحلّ بالخطوة الثانية فقط وهي التفكر في الأمر المراد معرفته ؟
- أحسنت يا صديقي العزيز على هذا السؤال .. وللإجابة عليه أقول : الأمور تتفاوت فيما بينها من ناحية السهولة والصعوبة والأهمية وعدم الأهمية – كما قلنا سابقا - فهناك أمور تحل بمجرد الانتباه وهناك أمور تحل بالانتباه والتفكير البسيط فيها , وهناك أمور أكثر خفاء , تحتاج إلى المزيد من التفكر , وهناك أمور معقدة تحتاج إلى وقت طويل , للتفكر فيها والتدبر , وتحتاج على المزيد من الصبر والمثابرة والإرادة ..
- طيب يا صديقي , بالنسبة للتفكر في الأمور والتبر فيها , هل هذا التفكر والتدبر محصور في معلومات الإنسان نفسه ولا يتعداها على الخارج ؟؟
- سؤال جيد يا صديقي ومهم , وأقول في الإجابة عنه : الأمور أيضا مختلفة , من هذه الناحية .. فبعض الأمور يمكن أن يجد لها حلا في معلوماته التي يختزنها .. لكن بعض الأمور , لا يجد الإنسان لها حلا في معلوماته المختزنة , وحينها ولكي يعلم بها ويكشف غموضها , عليه أن يستعين بمعلومات الآخرين , عليه أن يزيد من حصيلة معلوماته , كي يكشف النقاب عنها .. عليه أن يقرأ ويجرب ويسأل ويتعلم ويسعى ويجمع المعلومات ويتمثلها ويهضمها , ويعاود التفكير فيها مرة ثانية للخروج منها بحلّ ما يريده ..
- طيب ممكن يا صديقي , أن تجمل لي خطوات العلم بالأمور والأشياء ؟؟
- حسنا يا صديقي .. قلنا إن الخطوة الأولى الانتباه – والثانية التفكر - ودعنا نسمي الخطوات التالية كالتالي : الثالثة : زيادة المعلومات – والرابعة : هضم وتمثل المعلومات الجديدة – الخطوة الخامسة معاودة التفكر في الحصيلة الجديدة من المعلومات للخروج منها بالحل النهائي
- وهل تجري هذه الخطوات , في كل أمر نريد أن نعلمه , من الأمور الدنيوية والدينية ؟
- نعم يا صديقي العزيز في الأمور الدينية والدنيوية لكن .. أمور آخرتنا أهم من أمور دنيانا , لأن الآخرة هي دار المقر , وما الحياة إلا معبر إليها
- جزيت خيرا يا صديقي العزيز على تحملك عناء هذا الحوار ..
- وأنت أيضا جزيت خيرا أخي العزيز على سؤالك وبحثك واستقصائك .. زادك الله علما وعملا ..
***
حسن العطية