القصة القصيرة جدا
ظهرت القصة القصيرة جدا منذ التسعينيات من القرن الماضي استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المعقدة والمتشابكة التي أقلقت الإنسان وما تزال تقلقه وتزعجه ولا تتركه يحس بنعيم التروي والاستقرار والتأمل، ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدا والابتعاد عن كل ما يتخذ حجما كبيرا أو مسهبا في الطول كالقصة القصيرة والرواية والمقالة والدراسة والأبحاث الأكاديمية….
1- تعريف القصة القصيرة جدا:
القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي
تعرف القصة القصيرة جدا بمجموعة من المعايير الكمية والكيفية والدلالية والمقصدية والتي تحدد خصائصها التجنيسية والنوعية والنمطية:
أ*- المعيار الكمــــــي:
يتميز فن القصة القصيرة جدا بقصر الحجم وطوله المحدد، ويبتدئ بأصغر وحدة وهي الجملة كما في قصة المغربي حسن برطال"حب تعسفي": " كان ينتظر اعتقالهما معا…لتضع يدها في يده ولو مرة واحدة"، إلى أكبر وحدة قد تكون بمثابة فقرة أو مقطع أو مشهد أو نص كما عند فاروق مواسي وسعيد منتسب وعبد الله المتقي وفاطمة بوزيان. وغالبا لا يتعدى هذا الفن الأدبي الجديد صفحة واحدة كما عند زكريا تامر وإبراهيم درغوثي وحسن برطال في "ماسح الأدمغة" و"كلاب الگرنة". وينتج قصر الحجم عن التكثيف والتركيز والتدقيق في اختيار الكلمات والجمل والمقاطع المناسبة واجتناب الحشو والاستطراد والوصف والمبالغة في الإسهاب والرصد السردي والتطويل في تشبيك الأحداث وتمطيطها تشويقا وتأثيرا ودغدغة للمتلقي. ونلاحظ في القصة القصيرة جدا الجمل القصيرة وظاهرة الإضمار الموحي والحذف الشديد مع الاحتفاظ بالأركان الأساسية للعناصر القصصية التي لايمكن أن تستغني عنها القصة إلا إذا دخلت باب التجريب والتثوير الحداثي والانزياح الفني.
ب*- المعيار الكيفـــي أو الفنــي:
يستند فن القصة القصيرة جدا إلى الخاصية القصصية التي تتجسد في المقومات السردية الأساسية كالأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور السردي والبنية الزمنية وصيغ الأسلوب، ولكن هذه الركائز القصصية توظف بشكل موجز ومكثف بالإيحاء والانزياح والخرق والترميز والتلميح المقصدي المطمعم بالأسلبة والتهجين والسخرية وتنويع الأشكال السردية تجنيسا وتجريبا وتأصيلا. وقد يتخذ هذا الشكل الجديد طابعا مختصرا في شكل أقصوصة موجزة بشكل دقيق في أحداثها كما في مقطع حسن برطال من نص:﴿ حرب البسوس﴾:
" السهام تنطلق…تضرب… الحناجر تصيح…﴿ حبي ليك…يابلادي، حب فريد…﴾ السهام تضرب… الأيادي تتشابك…﴿ حبي ليك…يابلادي،حب عنيف…﴾ السهام تضرب… الأجساد تتناطح…﴿ الحب الغالي…ما تحجبو الأسوار…﴾ انتهت المعركة…جثث هنا وهناك…صمت… جسد تحرك…لازالت فيه روح…حمل اللواء ثم قال:
باسمكم جميعا نشكر مجموعة السهام…انه منظم الحفل…".
ج- المعيار التداولي:
تهدف القصة القصيرة جدا إلى إيصال رسائل مشفرة بالانتقادات الكاريكاتورية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية المتأزمة إلى الإنسان العربي ومجتمعه الذي يعج بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي، والذي يعاني أيضا من ويلات الحروب الدونكيشوتية والانقسامات الطائفية والنكبات المتوالية والنكسات المتكررة بنفس مآسيها ونتائجها الخطيرة والوخيمة التي تترك آثارها السلبية على الإنسان العربي ، فتجعله يتلذذ بالفشل والخيبة والهزيمة والفقر وتآكل الذات…
- الخصائص الدلالية:
يتناول فن القصة القصيرة جدا نفس المواضيع التي تتناولها كل الأجناس الأدبية والإبداعية الأخرى، ولكن بطريقة أسلوبية بيانية رائعة تثير الإدهاش والإغراب والروعة الفنية، وتترك القارئ مشدوها حائرا أمام شاعرية النص المختزل إيجازا واختصارا يسبح في عوالم التخييل والتأويل، يفك طلاسم النص ويتيه في أدغاله الكثيفة، ويجتاز فراديسه الغناء الساحرة بتلويناتها الأسلوبية، يواجه بكل إصرار وعزم هضباته الوعرة وظلاله المتشابكة. ومن المواضيع التي يهتم بها هذا الفن القصصي القصير جدا تصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية وصراعها مع الواقع المتردي، والتقاط المجتمع بكل آفاته، ورصد الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية من خلال منظورات ووجهات نظر مختلفة،ناهيك عن تيمات أخرى كالحرب والاغتراب والهزيمة والضياع الوجودي والفساد والحب والسخرية و التغني بحقوق الإنسان…
شعرية القصة القصيرة جداً
تتخذ اللغة في القصة القصيرة جدا شكلا ليس كشكلها المعتاد في الأدب القصصي، ففي القصة القصيرة والراوية يسعى الكاتب إلى إدهاش القارئ بتميز سرده أو تماسك حبكته، أما هذا النوع من الأدب القصصي فهو مختلف في كل شيء، حتى في غايته، فالقصة القصيرة جدا لا ترمي إلى عرض مقطع عرضي في لحظة من الزمن ووضعه تحت مجهر السرد كما هو الحال في القصة القصيرة، بل تسعى إلى توليد الدهشة في ذهن القارئ بأسرع ما يمكن اعتمادا على تكنيكات لغوية خاصة.
تفرض المساحة الصغيرة المتاحة للقاص لغة خاصة تمتاز بالكثافة العالية، فضلا عن تسارعها المحموم باتجاه النهاية، فيبدو القاص كطير محبوس في قفص، لا يلبث أن يجد منفذا حتى ينطلق منه بسرعة السهم.
وتعني الكثافة قي لغة القصة القصيرة جدا شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني، والتعبير عن أكثر ما يمكن من (الأفعال) بأقل ما يمكن من المفردات. وهذا لا يتأتى إلا بلغة الشعر التي اكتسبت مع توالي الخبرة الإنسانية عليها القدرة على التكثيف الهائل للمعاني.
ولننظر مليا في بعض من النماذج لنحدد سمات تلك اللغة وتأشير ملامح شعريتها.
إن أهم أركان السرد أن يعمد القاص إلى رسم صور شخصياته وهي (تفعل)، لا أن يخبرنا هو عن (أفعالها)، ومن هنا تكون الأفعال عنصرا غاية في الأهمية في لغة القصة القصيرة جدا، فكثير من الأفعال يعني كثيرا من المعاني وكثيرا من الأحداث. هذه قصة (غصة) لـ (السعدية باحدة):
مر من أمامها ،نظر في عينيها...
فنظرت في عينيه
مرت من أمامه،ابتسمت له ...
فابتسم لها
لم يعد يمر من أمامها..
تحسست بطنها بيدها....
فأيقنت أنه...
وقع امتداده....
ورحل
يمكن أن نرصد غلبة الأفعال على الأسماء في هذا النص، ففي الوقت الذي لا يحتوي على أكثر من ثمانية أسماء – مع استبعاد الضمائر المتصلة من العدد لأنها لا تشكل قيمة حقيقية في الطول- يحوي النص اثنا عشر فعلا.
هذه صفة عامة في القصة القصيرة جدا، حشد الأفعال وتزاحمها، بل سيادة الجمل الفعلية الضاجّة بالحركة.
ولغة (الإشارة) تكنيك آخر من تكنيكات القصة القصيرة جدا يقرب لغتها من لغة الشعر، ففي النص السابق ذاته نلاحظ الكثافة المعنوية الهائلة التي حملتها العبارة (تحسست بطنها بيدها)، فهذه الحركة اختزلت الكثير من الكلام والكثير من الأفعال، وأغنت الكاتب عن العودة إلى أحداث ماضية، عندما أوحت هذه العبارة بها إلى القارئ،وفي هذه القصة لـ(هدى فائق) نجد ذات التكنيك:
تقلب صفحات الاجندة ..تبحث عنه ..يقع بصرها على التاريخ ..تهم كتابة تعليق احتفالا بالذكرى الثانية ..تمنعها دمعة غافلتها وسقطت ..لتمحو شيئا ظل عالقا بالذاكرة .
صورة الدمعة الساقطة هنا هي كل القصة فهي تحكي قصة حب عجز عن الاستمرار ولم يعد سوى ألم يعلق بالذاكرة.
ضرورة التكثيف في لغة القصة القصيرة جدا كثيرا ما تغري كتابها باختيار موضوع شعري لقصصهم، هذه مثلا قصة (موجة) للقاص محمود أبو أسعد:
تساقط الظلام وانساب كظل امرأة، عندما أرخت وشاح الريح فوق شعرها ، تسابق ظلالها قوافل الأشرعة ، انحسرت ما بين خصر وثنايا موجة مغرورة ، لتكتب في الشاطيء قصائد وأشعار غزل.
نحن هنا أمام لغة شعرية بالكامل بما تحوي من انزياحات وتشبيهات، فضلا عن الموضوع الشعري ذاته المتمثل في تشخيص موجة، ومثل هذا النوع من القصص تأخذ فيه الانزياحات الأهمية الأولى قبل الأفعال، فهذه القصة – مثلا- قائمة على اسناد الفعل إلى موجة وسط البحر(بمعنى انزياحي)، وهناك (وشاح الريح) و(شعر الموجة) و(قوافل لأشرعة) و(موجة مغرورة)......
يرى بعض الدارسين أن ((معظم الفاشلين في ميداني القصة والشعر قد وجدوا في الـ (ق. ق. جداً) ملاذاً آمناً لأن هناك كتاباً يمارسونها هرباً من كتابة القصة العادية متوهمين فيها السهولة ما أدى إلى طوفان من القصص القصيرة جداً-انظر الرابط هنا))، وفي هذا الرأي وهم كبير، فهو يشبه الرأي القائل أن قصيدة النثر أدت إلى تسهيل ركوب مركب الشعر مما جعل عدد من يدعون أنهم شعراء لا يعد ولا يحصى، فمثل هذه الآراء تغفل العامل الجمالي الذي يستشعره من يتلقون النص الأدب وتكون لهم الكلمة الفصل في الجودة والرداءة.
إننا نرى – بالضد مما تقدم- أن كاتب القصة القصيرة جدا شاعر بالضرورة لأن اللغة الشعرية واحدة من أهم مستلزمات هذا الفن
---------------------------------------
المصادر :
القصة القصيرة جدا.. قراءة في التشكيل والرؤية (1/2)
د.حسين محمد
القصة القصيرة جدا جنس أدبي جديد
د. جميل حمداوي
شعرية القصة القصيرة جدا
ثائر العذاري