كان جاساً كعادته كل يوم خلف مكتبه الأنيق الذي يُطلُ على ذلك الميدان الشهير في أحد أحياء المدينة الراقية بمقر عمله بشركة النجوم للدعاية والإعلان قبل الساعة السابعة والنصف صباحاً.
إنه لأستاذ / سيد عبد الكريم - مصمم إعلانات بالشركة -
لم يستطع تَوَسط طُوْلِه مع بدانته الملحوظة أن يُخْفِيا الوسامة التي يتمتع بها , وإن كان مظهره العام يوحي بأن سِنَّهُ أكبر من إحدى وثلاثون سنة إلا أن هذا هو الرقم المدون ببطاقة الهوية خَاصَتِه , يعتني جداً بشَارِبِهِ الصغير , يراه رمزاً للرجولة التي يشعر أن خجله الشديد قد حَرَمَهُ من كثير من صفاتها , كان يحاول أن يُشغِل نفسه بترتيب أوراقه المبعثرة التي ملأت سطح المكتب بطريقة شبه مصطنعة ..
وفجأة .. إِشْتَمَّ أنفُهُ رائحةً زكية يعرفها جيدا إختلطت بوقع أقدام شخص ما يمر من الطرقة التي أمام باب مكتبه والمؤدية إلي مكتب المدير العام.
وبحركة لا إرادية نظر إلي ساعته فإذا هي تمام السابعة وخمس وأربعون دقيقة .
فانفرجت أسارِيرُهُ بابتسامة خفيفة نَمَّتْ عن إعجابه بذكائه..
فهذا الوقت من صباح كل يوم هو ميعاد مجئ الآنســة / نادية عبدالكريم
سكرتيرة المدير العام.
الآنسة نادية تلك الفتاة ذات الإثنين وعشرين ربيعاً , حاصلة على كلية تجارة ، تتمتع بقدر كبيرمن الجمال وعلي الرغم من قِصَرِها الملحوظ إلا أن ذلك لم يمنع أ / سيد من التعلق بها والتفكير الدائم فيها..
كل موظفي الشركة تقريباً.. يصفونها بالتكبر والغرور فهي لا تكلم أحداً إلا في حدود العمل ولا تهتم بأراء غيرها أو ما يقولونه عنها ؛ ماعدا الأستاذ سيد فهو يرى أن
ما تفعله الآنسة نادية من باب الأدب والإحترام...
لقد احبها أ / سيد وشُغِفَ قلبُهُ بها..
ومع ذلك لا يستطيع أن يصارحها بحبه ..
فخجله الشديد يمنعه من ذلك..
كان دأبه كل صباح محاولة إِخْبَارِها بحقيقة شعوره نحوها إلأ أن شجاعته تخونه
ففي تمام الساعة الثامنه من صباح كل يوم ..يذهب إلي المرحاض يقف أمام المرآة يُبَلِّلْ يده بالماء يمررها علي شعره ..
يُعَـِّدلْ ربطة عنقة..يبتسم لنفسه في المرآة إبتسامة المعجب بنفسه
يخرج متجهاً صوب مكتب الآنسة / نادية يطرق الباب على إستحياء..
فيسمع صوتها العذب من خلف الباب
ــ تفضل..
مرحباً بك أستاذ سيد..
تنظر إليه بطريقة بها شئ من اللهفة ..لا تـَلْحَظُهَا عينُ الأستاذ/ سيد التي لازالت تنظر إلي رباط حذائه خجلاً
أي خدمة أستطيع أن أقدمها لسيادتك..؟
ــ نعم أنا أنا أنا...
ــ أنت ماذا يا استاذ سيد..
ــ أنا أريد أن أن أسأل إن كان السيد المدير العام قد وصل أم لا ؟
- كل الموظفين يعلمون تماما أن المدير العام يصل في تمام الساعة التاسعة –
فتجيبه وخيبة الأمل قدإرتسمت علي ملامح وجهها..
- ليس بعد..
فينصرف الأستاذ سيد وقد إمتلأ وَجهُهُ خجلاً وقلبُهُ غيظاً
فهو يشعر بالخجل لأنه أدرك أن الآنسة / نادية قد لاحظت أن زيارته لها كل صباح والسؤال عن المدير العام ليس إلا ستار لشئ ما آخر لا يستطيع أن يواجهها به..
لكن غيظ قلبه نابع من سخطه علي خجله الذي يمنعه من أن يصرح لها بحبه..
و أخيراً تفتق ذهنه عن محاولة أخيرة ليخبرها بكل ما بداخله دونما مواجهة بينهما
فكتب لها خطاب شرح به كل ما يشعر به نحوها وما يريده منها..
ثم وضعه علي مكتبها أثناء تقديمها البريد الصباحي للمدير العام..
وفي اليوم التالي وكعادته في مكتبه من صباح كل يوم جلس الأستاذ يتخيل ماذا سيكون الرد..
لم يقطع عليه حبل أفكاره إلَّا تلك الرائحة الجميلة التي يعشقها..
ولكن شيئاً غريباً حدث هذه المَرَّة ، شيئٌ لم يكن في أشد حالاته تفاؤُلاً يتوَقَّعُه
لقد توقف وقع الأقدام أمام باب مكتبه ثم..
سمع طرقات خفيفة..
وقبل أن يجيب كانت قد دلفت إلي داخل المكتب..
فقام منتفضاً من مكانه .. سقط الملف الذي كان يحمله علي الأرض..
- صباح الخير أستاذ سيد
- ص ص ص صباح الخير آنسة نادية
- تفضل.. ناولته خطابين ثم إنصرفت
ظل مدهوشاً لبرهة من الزمن لم يخرجه من دهشته إلا صوت إرتطام الباب عقب خروجها..
أخذ نفساً عميقاً ثم أخرجه ببطء..جلس مرة أخرى علي كرسيه ، لم يَـْلَحَظْ الأستاذ / سيد أنه حتي لم يتحرك من مكانه خطوة واحدة لملاقاة الآنسة / نادية بل هي التي قطعت المسافة من الباب حتي مكتبه
- تَرُدُّ على خطابي بخطابين هل هذا كُلُّهُ حُب تَكِنُّهُ لي ،
أَمْ أن هذا توبيخ لأنني فكرت في مثل هذا موضوع.
الآن أعرف
فَضَّ الخطاب الأول وبدأ في قراءته :
أ / سيد
لا تدري كم كنتُ فى شوق إلى هذه الكلمات التي بعثتَ بها إلَيَّ
منذ اللحظة الأولى التي إِلْتَقَتْ فيها بعينيكَ عَيْنِي شعرت بشئ يجذبني إليك جذباً لا أستطيع أن أقاومه لا أدري ما كُنْهَ ُ ، كل ما أعرفه أني عندما أراك أشعر بأنني أطيرُ فرحاً . - إرتسمت إبتسامة عريضة على شفتيه -
كُنْتُ أُمَنِّي نَفْسِي بأنك تبادلني نفس الشعور وأنك سوف تُعَبر لي عما يجيش فى صدرك ،
لكنك لم تفعل ، بل إنك لم تحاول ولو لمرةٍ واحدة أن تسترعي إنتباهي بكلمة واحدة أو حتي هدية بسيطة .. لم تفعل أ / سيد لم تفعل.
إنتهى الخطاب الأول .
لم يستطع الأستاذ سيد أن يدرك ما ذا تعني فهي في بداية الخطاب أظهرت له أنها كانت تبادله نفس الشعور ، لكن في النهاية لم تجب بوضوح على سؤاله هل توافق على أن تكون زوجة له أم لا ..؟
- ولكن ما زال هناك خطاب آخر قد تكون أجابت به على سؤاله.
وبدون تردد مزق الأستاذ سيد الظرف الخارجي للخطاب الثاني و..
كانت المفاجأة
فما هو إلَّا دعوة لحضور حفل خِطْبَتِهَا للمهندس / سمير حسين
المهندس بشركة المقاولات المجاورة لشركتهم.