بسم الله الرحمن الرحيم

الروائي عبدالغني خلف الله يطوي آخر صفحة في كتاب الألم

رواية الأستاذ عبدالغني خلف الله رواية موجزة قالت الكثير .. بدأها بهذه العبارات المستفزة والساخرة التي تجتذب القاريء وتستبقيه بين دفتيها ( كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط إمتثال ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأمريكا وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال ) ..ومن بين ثنايا الجماهير انخرطت مسرعاً لأكون في الصفوف الأمامية مع القادة والزعماء وتقدمتهم بضعة خطوات وأنا أفتح صدري لكافة الأحتمالات غير عابيءٍ بالموت .. تناولني أحدهم وكان رجلاً في العقد الخامس من العمر ونحاني جانباً وقال لي ..تبدو مرهقاً جداً يا بني ووجهك شاحب ولونه أصفر ..هل أنت وطني أكثر من كل الحضور ؟ أم ماذا ؟ ..ما بك قل لي .؟ ..ترنحت من شدة الأعياء واستندت علي كتفه حتي لا أسقط ..أخذني إليه في حنو وحب ..كان من الممكن أن يكون في عمر المرحوم أبي لولا أنه رحل باكراً عن حياتنا ..بكيت علي كتفه..بكيت بشدة وكأنني أفرغ نهراً من الدموع ) ..والرواية تشكل السودان في الستينيات من القرن الماضي استخدم فيها تقنيات نقلت فكرته للمتلقي بتعابير دافئة وحميمة تقوم علي مفردات واضحة الدلالة بدقة وموضوعية وفي صور غاية في الروعة والجمال ..الأستاذ عبدالغني صدرت له ثمانية روايات وبالتالي يعتبر من أوائل الكتاب السودانيين الذين صدر لهم هذا العدد الكبير من الروايات وهو رسام ماهر يمنحك أنماطاً مختلفة من الصور التي تتطابق والمضمون ويخلق أثراً فنياً خالداً في النفوس ..بطل الرواية ( قصي ) جاء من مناطق السودان الوسطي وهو بذلك يحمل كل ثقافات الوسط وتقاليده ومن بعد وفاة والده عمدة المنطقه اصطحبته أمه مع شقيقته إلي الخرطوم مسقط راسها ليكملا تعليمهما هنالك وجاءت بداية تعلقه ببطلة الرواية صاخبة وعنيفة إذ يقول (..لكن معرفتي مع ( امتثال ) في ذلك الصباح الممطر الذي كان يتسربل بالرزاز بدأت بعراك سببه أنني وصلت قبلها لبقالة الحاج عثمان .. فقد أرسلتني أمي لإحضار بعض السكر والشاي ثم وصلت هي من بعدي بثوانٍ قليلة ٍ ومعها قائمة طويلة من الطلبات ..رطل زيت ورطلين سكر وكبريت ودقيق ومعجون أسنان وعندما شرع العم عثمان في تجهيز طلباتها اعترضت بطريقة بشعة علي تجاهلي فقد كنت لا أزال أتشرب روح وسطوة والدي العمده ..أنا أولاً يا عم ..لماذا تتخطاني من أجل هذه البنت الثرثاره .. ثرثاره أنا يا عربي يا جبان ..لا ..لا .. يا عزيزتي الفاضلة مثل هذا الكلام لا تقوله حرمة لابن سيد القبيلة..صفعتها بقسوة علي وجهها وتهيأت لأصفعها مرة أخري ..في البداية ألجمت لسانها المفاجأة ..لعلها لم تصفع حتي من قبل والدها وأفراد أسرتها لأجي أنا من لا شيء فأقوم بتأديبها ..استوعبت الصدمة وهي تردد ( ده شنو السويتو ده يا شافع ؟ ..) ثم وبدون مقدمات هجمت علي بقوة تنشب أظافرها في وجهي ..كانت قوية وجامحة وشعرت للحظات بأنه من العيب عليّ أن أتعارك مع امرأة ..بيد أنها طرحتني أرضاً وركبت من فوقي وكالت بيديها الصغيرتين لكمة أطارت صوابي ..هُرع العم عثمان ليفصل بيننا وكان أنفي ينزف من شدة اللكمات التي صوبتها نحو وجهي ..لكنها وعندما رأت الدماء تسيل علي ملابسي أسرعت نحو إبريق الحاج عثمان تصب منه الماء فوق يدي بل وتغسل لي فمي وأنفي وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) نفس العبارة التي عادت لتعيدها علي مسامعي بعد ثمانية عشرة عاماً وهي تزف لي نبأ خطبتها من الدكتور جلال .. المحاضر الذي يقوم بتدريسنا مادة الأدب الانكليزي بالكلية ..وأنا يا صباحات عيوني من تراه يأسف لحالي ) ..وفي الجامعة تعرف علي أخريات ( علياء ومي ونسرين وسلافة) وكانت امتثال أيضاً بنفس الفرقة بكلية الآداب .
جاءت أحداث الرواية منسقة حسب تسلسلها الزمني وتجاورها المكاني وكان هنالك الاسترجاع والاستعادة للصور والأفكار والقضايا وكل صورة تولد صور جديدة بخيال خلاق وذاكرة متحركة برغم تمركز حيثيات الرواية في المكان والزمان .. ركام الصور يخلق عالماً مثالياً وبذلك لا ينضب معين كاتبنا بعوالمه الحقيقية والمتخيلة وعالمه الفني الغني لذلك وفق ايما توفيق في اجتراح إبداع رائق بذهنه الصافي وقدراته في اكتشاف تعرجات النفس الانسانية بكل ما فيها من أحاسيس ومشاعر .
استخدم الكاتب الضمير الثالث( أنت ) والضمير الغائب وكذلك الأول ..جاء في صفحة ( 13 ) من الرواية ..( إذن لماذا لا تجرب الكتابة ؟ .. أكتب شيئاً في شكل خواطر أو مذكرات فالأوراق كضمادات الجراح لا تجلب لك الشفاء التام ولكنها تريحك نوعاً ما )..سرد قصصي لأحداث توهمك بأنها جرت للمؤلف أشبه ما تكون بالسيرة الذاتية ولكنها تهتم بقضايا زمانها وشؤونه الكبري ..واليوم أضحت السيرة الذاتية من الفنون الرائجة ودائماً ما يكتبها المشاهير في شتي المجالات .وتمضي الرواية بما يشبه اليوميات لبطل الرواية ( قصي ) والذي صار طالباً جامعياً يهتم بسياسات الحكومة واتحاد الطلاب والإمبريالية العالمية ..الألفاظ في معظمها تتطابق ومقتضي الحال وتؤدي أغراضها ..يستخدم الكاتب التقديم والتأخيروالحذف والإضافة في مكانهما لكل حالة ويستعمل المفارقة بتوقيف المفاجيء والغريب وقد يصدمك تناقض ما يطرحه بما هو شائع ومقبول ..والملاحظة عنده تؤكد صحة ما هو مفترض ولها أثر بليغ خاصة في المنتج الإبداعي وهي نابعة من اللاوعي للكاتب ..( الإنسان لا يساوي شيئاً بدون أهله وعشيرته الأقربين ..) ص-33-عبارة قصيرة لخصت القيم المجتمعية السائدة في مناطق الوسط شبه الرعيوية .
وروايات الأستاذ عبدالغني أشبه بالملحمة وقد أتت في مخيلة مجنحة يمتزج فيها الوصف والحكي بالنصائح الغائرة في ثنايا النص بدون هتافية سافرة .. حكي ناصع متطور وسلس وموجه لكل شرائح المجتمع مشبع بالاستعارات والاساطير والإيحاءات التي تأسر لب القاري البسيط ويقف عندها الناقد والمفكر.. فيها شيء من البراءة وربما السذاجة أحياناً وفيها ذاك العمق الضارب في الغرابة ..خليط دافق من الحب والحقد والرهبة والاعتزاز بالنفس يأخذك علي حين غرة مستصحباً الخيال والحقيقة ويضيف لها بروحه الشفافة مشاهد وفصول وتعابير كالأناشيد .. لا يتملق متلقيه ..بيد أنه يرسخ لقيم الدين وينسج حكاياته من الماضي والحاضر معاً ..يقوي إحساسنا بالوطنية الحقة وفيها من السحر والزخرف الذي يجبرك بأن تعيش معه طقوسه الجمالية الرائعة .
رواية ( آخر صفحة في كتاب الألم ) موجزة إذ أنها من 88 صفحة فقط من القطع المتوسط ولكنها قالت وعالجت الكثير من الموضوعات ..الأسرة ..الأدب ..التاريخ والجغرافيا والمهارات لشباب ناهض تجمد عند نقطة التخرج ليضيع في متاهة المدينة الكبيرة وجاء ت الجزيئيات والأحداث في تسلسل سهل ممتنع ..بلغة ممتعة وأحداث إنسانية رفيعة وأشعر وكأن الكاتب أراد أن يوثق لزمن ما في السودان سيكون مادة خصبة للدارسين في المستقبل وتلك هي إحدي فوائد النشر الهادف لترقية المجتمع وحفظ ذاكرته الجمالية والتاريخية علي السواء .

عن صحيفة المستقلة –الخرطوم
صديق محمد أحمد الحلو -قاص وناقد