الحلقة الرابعة
طلب مني المقدم أزهري أن أنضم إليه لنذهب إلي المطار لنكون في إستقبال أسرة الوجيه إسماعيل ..وعند مفترق الطريق المؤدي إلي المطار تقابلنا مع الوجيه إسماعيل وكانت تركب معه إبنته الدكتوره ندي وعلي ظهر العربه لمحت بصله الأرعن وفيصل ..هكذا هما بصله وفيصل ..بإمكانهما القفز فوق أي عربة متحركة دون أن يسألا حتي إلي أين ..فليس وراءهما شيء يفعلانه سوي التجوال ونقل الأخبار وإطلاق التعليقات المرحة علي جميع مواطني المدينه بلا استثناء والحق يقال ..لا يدخران وسعآ في بذل طاقتهما البدنية والذهنية في مساعدة كل من يطلب المساعده وهما يشكلان حضورآ كثيفآ في دار الرياضة الصغيرة ومن ثمّ يعطيان المكان نكهة خاصة فيها المرح وأحيانآ يثيران التوتر فيطردهما الحكم إلي خارج الملعب ويوقع عليهما الإتحاد عقوبة الحرمان من حضور المباريات ولكنه يعود وبعد حين فيرفع عنهما العقوبه عندما يكتشف أن الدار بدونهما ساكنه .. ممله ..عديمة الحيويه ..وهما من ينصب (الصيوان ) ويجهز المكان في مناسبات الأفراح والأتراح و في نفير البناء و قيادة الهتاف والزعيق والتصفيق عندما يزور المدينة مسئول كبير ..أين يقيمان ؟ ..ليس لهما مكان محدد ..فكل منازل البلد مفتوحة وجاهزة لإستقبالهم ولا تتورع الصبايا في الظهور أمامهما بدون ثوب ..فالكل يسلم بهما كأمر واقع مثل الربوة المطلة علي المدينه وشجرة الحراز العملاقة وسط السوق ..لذلك رحب بهما الوجيه إسماعيل عندما هما بالركوب في ظهر العربه فلا أقل من مساعدتهم له في تحميل الحقائب وإنزالها وإعادة ترتيب المنزل بالصورة التي تنال رضاء المدام وقد يعلم الوجيه إسماعيل قبل غيره كم هي ساخره وحاده عندما يتعلق الأمر بنظافة المنزل وترتيبه ..لذلك بذلت الدكتوره ندي مع الخادمه أقصي ما يستطيعان من جهد لإعطاء المنزل الضخم لمسة من الجمال والأناقه ..نثرتا المزهريات هنا وهناك ونضختا شيئآ من عطر الورد والبخور في بهو المنزل وغرفه الكثيره .
ترجل الجميع أمام بوابة الجناح المخصص لإستقبال القادمين بالمطار المتواضع وظلت أنظار المستقبلين تقرأ الأفق الغربي بحثآ عن أثر للطائره ..وكان بصله أول من نبه لنقطة الضوء الصغيرة التي بدأت في الظهور ..وهو يتقافز في فرح طفولي عارم ..
تأخرت المدام في النزول إنتظارآ لتدافع المسافرين الذين أرهقتهم المواعيد المؤجله لأكثر من مره مما أضّطرهم للمبيت في مطار الخرطوم ..وأخيرآ أطلت مني وهي تتشامخ كأميره ..وكانت بحق الأكثر أناقة ووسامة من بين جميع القادمات في تلك الرحله ومن خلفها ظهر المهندس هشام وهو يلوح لوالده وشقيقته الدكتوره ندي بأشواق وحب ..وكانت الدكتوره ندي قد حضرت وهي لمّا تزال ترتدي (الروب ) الأبيض الشيء الذي يرجح إحتمال أن يكون الوجيه إسماعيل قد إصطحبها معه من المستشفي مباشرة ..وقد كان طارق يتابع من طرف خفي الإرتباك والتوتر اللذين يسيطران علي المقدم أزهري وقد وجد نفسه وهو يقف علي بعد خطوات من الدكتوره ندي تغمره لمسة رقيقة من عطرها المنساب مع الهواء الطلق في الفناء الواسع أمام المدرج ..
أخذ المهندس هاشم والده بالأحضان وهو يتمتم ( إزيك يا عم ..كيفك ؟) ..إن لأبناء الذوات هؤلاء عجائب لا يفهمها النقيب طارق ..فالأب ينادي إبنته بال(ماما ) والولد يقول لأبيه يا عمي والزوجه تنادي الزوج ب (يا بابا )..اين (يمّا) ..و(يابا ) ..إنهما أكثر حميمية وواقعيه ..أما المدام فقد إكتفت بتحية مستقبليها بإيماءة صغيرة وأفردت يدها للوجيه إسماعيل تسلم عليه و كانت تمسك بيدها الأخري فيما يبدو لوحة عملاقة داخل إطار فخم تجسد صورة أسد ولبوة وهما يتعاركان مع بقرة وحشية تناضل بشراسة من أجل البقاء ..وكاد بصله أن يسقطها أرضآ وهو يسارع بحملها عنها فانتهرته بصوت عال أطار صوابه ..كانت تبدو رائعه وجميله مع قدر كبير من الأنفة والكبرياء ولا يدري المقدم أزهري لماذا تذكر في تلك اللحظة بطلة الرواية المعروفه ( المرأة أصلها أفعي ).
*******
ذهبت إلي منزل الباشكاتب أعوده إذ تغيب عن العمل بضعة أيام وأنا أشعر تجاهه بنوع من المسئوليه ..فلا أحد يهتم به في عزلته تلك ..وجدته في حالة يرثي لها من التعب والأعياء وبدأ لي وكأنه شيخ في السبعين من العمر ..قلت له مداعبآ ( أنا أخوك يا الكنينه ) ..ولم أكن أدري أن مزاحي معه سيحوله إلي تلك الحاله المفاجئه من الإرتعاش والهذيان بمجرد نطقي لذاك الاسم ..( عمي لا ..يابا الرشيد ..سهام لا ..سهام ..) ومن ثمّ راح فيما يشبه الإغماءة القصيره ..فكرت في نقله للمستشفي بيد أنه أفاق بعد ثوان وعاد طبيعيآ ..( جنابو ..أهلآ وسهلآ ) ..كفاره يا بشكوت أفندي ..ما نمشي المستشفي أحسن ..لا لا ..أنا كويس ..كويس والله العظيم ..وشنو الحكايه ؟ يابا الرشيد وسهام ..إنتفض في ذعر لا تخطئه العين ..معقول وأنا صاحبك ..ما توريني الحاصل شنو ..إنت منو وجيت من وين يا مامون ؟ أرجوك تصارحني بكل حاجه وأعدك بالمحافظه علي أسرارك مهما كانت ..رانت علينا لحظة صمت قاتله و ..في الحقيقه أنا كذبت عليكم فيما يتعلق بشخصيتي وإسمي وحاجات كتيره يا جنابو ..خمستاشر سنه وأنا أحمل إسمآ غير إسمي وأعيش واقعآ مهنيآ لا صلة لي به وكل ما حولي مزور وزائف مع سبق الإصرار والترصد وعلاقتي مقطوعة تمامآ مع أسرتي ..الوالد والوالده وأخواتي وأخواني وكل ناس حلتنا بعد ما زوّرت إسمي ووظيفتي وكل شيء يخصني ..أصابني نوع من الذهول وانعقد لساني من المفاجأه ..يعني إنت ما ..أيوه ..إسمي الحقيقي كمال وأنا خريج بيطره من إحدي الجامعات المصرية وبعد التخرج تقدمت لخطبة إبنة عمي سهام ..لكن عمي فضل تزويجها لإبن شقيقه لأمه وأبيه ورفضني لأن والدي شقيقه لأبيه فقط ..ولأشياء ومشاكل قديمة صاحبت زواج جدي من والدة أبي كزوجة ثانية ضد رغبة أسرته وبالطبع والدته الزوجه الأولي ..هذه المواويل المتكرره منذ روميو وجوليت غيرت مجري حياتي وأحالتني إلي متشرد كما تري بنفسك ..لكن سهام شيء آخر ..سهام حياتي ..عمري ..طفولتي وذكرياتي ..نشأنا وترعرنا في ( حوش ) واحد ..كنا لا نفترق أبدآ ..نذهب إلي النهر ونسبح كصديقين حميمين ونستلقي فوق من الأطفال الصغار ..فنشأت ثنائيات هنا وهناك..فاطمه والطيب..وكنا نحن من أوجد ذلك التقليد ومن ثمّ أصبحت كل واحدة من أولئك الآنسات الصغيرات دائرة محرمة علي من تنتمي إليه ولعل ذلك كان واحداً من أسباب الشجار اليومي لا سيما عندما يحضر طفل جديد إلي دنيانا لا يعلم بأن ثمة إرتباطات قد توطدت ..وهكذا ضاعت سهام وإلي الأبد ..كان هاجسي وأنا في الثانوي وطموحي وأنا في الغربة طالبآ بكلية البيطره ..يعني إنت إسمك كمال وليس ..؟! نعم يا جنابو إسمي كمال الحاج عمر وأنا من ..( تردد وحيره ) ..من وين يا كمال ؟ ,,وخرجت من عنده وأنا لا أكاد أصدق ماسمعت ..وقد أخبرني أنه وفي ليلة زفاف سهام المغلوبة علي أمرها ..إنسل خارجآ تحت جنح الظلام وغادر القرية بعد أن ترك رسالة قصيرة لوالده ووالدته تقول ( أعفوا عني ولا تكلفوا نفسكم عناء البحث عني وسأعود بإذن الله العلي القدير ) . . خمستاشر سنه يا كمال ..معقول ده يحصل ؟ وكان عليّ أن أتصرف بسرعه وهذا ما فعلته بالضبط .
طارت الكنينه بأجنحة الريح في ذلك الصباح المشرق إثر تلقيها نبأ العثور علي مكان الدكتور كمال أو الباشكاتب المزّور مامون ..وصارت تدق أبواب سكان القرية الواحد تلو الآخر ( يا خالتي آمنه ..دكتور كمال لقوه ..دكتور كمال عايش ..يا ناس.. أخوي كمال عايش ..هوي يا الحبان ..كمال أخوي عايش ) ..وكان صراخها يختلط بالبكاء والهياج ..وكنت تجد من بنات الأسره من تخرج لملاقاتها خارج المنزل حتي دون أن تضع شيئآ من الثياب عليها تأخذها بالأحضان وتبادلها البكاء والنحيب .. لعلها دموع الفرح سالت مدرارآ علي تلك الوجوه المتعبة وجوه ناس (الحله) وجوه العمات والخالات ..أما والده الحاج الرشيد فقد إلتزم الصمت التام وقد إبتلع مشاعره المتفجرة وشعر أنه سيبكي لو فتح فمه بكلمة واحده ..لذلك كان يكتفي بمصافحة المهنئين وهو يرتجف من شدة التأثر دون أن ينبث ببنت شفه ..وكانت ردة فعل والدته أقصوصة سارت بها الركبان ..فقد إعتزلت الحلو والمر منذ رحيل كمال ..وتمددت الأمراض فوقها تنهش بقايا جسدها النحيل وظلت حبيسة غرفتها وسريرها خمسة أعوام كاملة ..بعد أن يئست تمامآ من عودة كمال ..ولكن ما أن وصلها الخبر حتي نهضت تحجل إلي فناء الدار بل وإلي الشارع وهي تبكي وتولول ( جيبوا لي ولدي ..جيبوا لي ضناي ) ..وطرق الخبر مسامع إبنة عمه سهام ..فأغمي عليها وعكفت شقيقاتها يضعن شيئآ من العطر وبعض الماء بين عينيها وعلي رأسها ..بيد أنها همدت تمامآ ..ولولا ذلك الأنين الخافت الذي ينبعث من بين ثنايا شفتيها وترديدها لإسم كمال لاعتقد الجميع أنها فارقت الحياه ..لقد رضخت سهام لمشيئة والدها وتزوجت من إبن عمها ولكنها عادت وأحالت حياته إلي جحيم لا يطاق ..فطلقها بالثلاثه ولم يمض شهر واحد علي زواجهما ..ولو أن كمال كان قد صبر قليلآ ..لكانت من نصيبه .
نحرت الذبائح واستعادت سهام وعيها وتماثلت للشفاء من هول المفاجأة التي كادت أن تقضي عليها ..وتساءل الناس عن تلكم المدينة البعيدة التي إستقر بها كمال وقد أسعدهم نبأ وقوعها علي خارطة السكه حديد ..وشرع الحاج الرشيد في تجهيز نفسه للسفر وقد قرر أن يصطحب معه الكنينة لعلمه التام بمدي الحب الذي كان يكنه لها كمال وهي طفلة لم تتعد الخامسة حين تركهم وغادر البلده ..آه يا كمال لو تعلم مقدار الحب الذي يكنه لك أهلك لما فكرت في الرحيل بعيدآ عنهم والإنزواء في ذلك الركن القصي من الكون ..خمسة عشرة عامآ يا دكتور وأنت تعيش بشخصيتين ..خمسة عشرة عامآ وأنت تعايش الغربة وتتعاطي الحزن والإنكسار ..أي إنسان أنت يا كمال ..ألهذا الحد غالية عندك سهام ..وهل يعني فقد إمرأة نهاية الكون يا رجل ..لا لا يا عزيزي كمال ..لست وحدك من فجعته الأيام بفقده إمرأه ..ولكنهم صمدوا كرجال أقوياء لا تهزهم الأحداث ..ضمدوا جراحاتهم وواصلوا رحلة البحث عن أخريات ..ولكن سهام شيء آخر يا جنابو طارق ..سهام هي حياتي ..روحي وثمرة فؤادي ..فماذا تبقي لديّ بعد أن أخذوها مني ..ووالدك وأمك والكنينه ..أليس لهم
مكان في ضميرك ياكمال ..؟!!