السرقات الادبية موضوع شائك قديم حديث ليس فيه فصل خطاب!
ومن اشهر القصص تلك قصة المتنبي في مجلس سيف الدولة الحمداني كنت اطلعت عليها وانا يافع واذهلني حينها كيف استطاع المتنبي الرد على خصومه شعراً وبيانا لا يرقى له وكيف استطاع خصومه ان ينحلوا ما انشده المتنبي الى السرقة والانتحال
وجدت القصة في كتاب
"الصبح المنبي عن حيثية المتنبي"
لمؤلفه يوسف البديعي
وهذه القصة كما اوردها المؤلف :
قال عبد المحسن علي ابن كوجك: إن أباه حدثه قال: كنتُ بحضرة سيف الدولة وأبو الطيب اللغوي، وأبو الطيب المتنبي، وأبو عبد الله بن خالويه النحوي، وقد جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابن خالويه مع أبي الطيب اللغوي، والمتنبي ساكت، فقال له سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب، فتكلم فيها بما قوى حجة أبي الطيب اللغوي، وضعف قول ابن خالويه.
فأخرج من كمه مفتاحاً حديداً ليلكم به المتنبي، فقال له المتنبي: اسكت ويحك، فإنك أعجمي، وأصلك خوزي، فما لك وللعربية؟ فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسأل دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي من ذلك، إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولا ولا فعلا، فكان ذلك أحد أسباب فراقه سيف الدولة.
قال ابن الدهان في المآخذ الكندية من المعاني الطائية: إنه قال أبو فراس لسيف الدولة: إن هذا المتمشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاث آلاف دينار،عن ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعراً يأتون بما هو خير من شعره، فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام، وعمل فيه، وكان المتنبي غائباً، وبلغته القصة فدخل على سيف الدولة، وأنشد:
ألا ما لسيفِ الدولةِ عاتبا ... فَداه الورى أمضَى السيوف مَضارباَ
ومالي إذا ما اشتقتُ أبصرتُ دونَه ... تنائفَ لا أشتاقُهَا وسباسِبا
وقد كان يُدْني مَجْلسي من سمائه ... أحادِثُ فيها بدرَها والكواكبا
حنانَيْك مسئولا ولبّيك داعياً ... وحسبيَ موهوباً وحسبُكَ واهباً
أهذا جزاءُ الصدقِ إن كنتُ صادقاً ... أهذا جزاء الكذْب إنْ كنتُ كاذبا
وإن كان ذنبي كلَّ ذنب فإنه ... محا الذَّنب كُلَّ المحو من جاء تائباَ
فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، فخرج المتنبي من عنده متغيراً، وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة في حق المتنبي، وانقطع يعمل القصيدة التي أولها:
وأحر قلباهُ مّمن قلبه شَبِمُ ... ومَنْ بجسمي وحاليِ عنده سَقَمُ
وجاء وأنشدها، وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه كقوله:
مالي أكتَّمُ حُبَّا قدْ برى جَسدَي ... وتدَّعى حبّ سيف الدّولة الأممِ
إن كان يجمعنا حُبُ لغُرَّته ... فليت أنَّا بقدر الحبّ نَقتسمُ
قد زرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغْمَدَةُ ... وقد نظرتُ إليه والسيوف دَمُ
فهم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة؛ لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدلَ الناسِ إلاّ في معاملتي ... فيكَ الخَصامُ وأنتَ الخَصْم والحَكمُ
فقال أبو فراس: مسخت قول دعبل واعيته وهو:
ولست أرجو انتصافاً منك ما ذَرَفَتْ ... عيني دموعاً وأنتَ الخصمُ والحكمُ
فقال المتنبي:
أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً ... أن تحَسَب الشحمَ فيمنْ شحمُه وَرَمُ
فعلم أبو فراس أنه يعنيه؛ فقال: ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟ فأستمر المتنبي في إنشاده ولم يرد إلى أن قال:
سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا ... بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ
أنَا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعتْ كلماتي مَن به صمَمُ
فزاد ذلك غيظاً في أبي فراس، وقال: سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد في قوله:
أوضحتُ من طُرُق الآداب ما اشتكلتْ ... دهراً وأظهرتُ إغرابا وإبداعاَ
حتى فتحتُ بإعجاز خُصِصْتُ به ... للعُمْي والصَّمّ أبْصاراً وأسْماعاَ
ولما وصل إلى قوله:
والخيلُ والليلُ والبيْداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاسُ والقلمُ
قال أبو فراس: وما أبقيت للأمير، إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة، والرياسة والسماحة، تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير؟أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النَّخَعي الكُوفّي المعروف بابن العريان العثماني، وهو:
أعاذلتني كم مَهمة قد قطعتُهُ ... أليفَ وُحوش ساكناً غيرَ هائبِ
أنا ابن الفلا والطعنِ والضرب والسُّرَي ... وجُرْد المذاكي والقَنا والقواضَبِ
حليمُ وَقورُ في البوادي وهيبتي ... لها في قلب الناس بطشُ الكتائبِ
فقال المتنبي:
وما انتفاعُ أخيِ الدُّنيا بناظره ... إذا استوتْ عندَه الأنوارُ والظُّلَمُ
قال أبو فراس: وسرقت هذا من مَعْقل العِجْلي، وهو:
إذا لم أُميَّز بين نورٍ وظُلْمة ... بعينيَّ فالعيَنان زُورُ وباطِلُ
ولمحمدبن أحمد بن أبي مرة المكي مثله، وهو:
إذا المرءُ لم يدركْ بعينيه ما يُرَى ... فما الفرق بين العُمْى والبُصَرَاء
وغضبَ سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة، وكثرة دعاويه فيها، وضربه بالدواة التي بين يديه، فقال المتنبي في الحال:
إن كان سَركُمُ ما قال حاسدُنا ... فما لجرْحٍ إذا أرضاكُمُ ألَمُ
فقال أبو فراس: أخذت هذا من قول بشار:
إذا رضيتُمْ بأن نُجْفَي وسَرَّكُمُ ... قَولُ الوُشاةِ فلا شَكْوَى ولا ضَجَر
ومثله لابن الرومي وهو:
إذا ما الفجائُع أكسبني ... رضاك فما الدهرُ بالفاجع
فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قاله أبو فراس، وأعجبه بيت المتنبي، ورضي ، عنه في الحال، وأدناه إليه، وقَبَّل رأسه، وأجازه بألف دينار، ثم أردفهُ بألف أخرى، فقال المتنبي:
جاءْت دنانيرُك مختومةً ... عاجلةً ألفاً على ألْفِ
أشْبَهها فعلُكَ في فَيْلَق ... قلبتَهُ صفاًّ على صَفَّ
وفي آخر هذه القصيدة يقول:
شر البلاد مكانُ لا صديق بهِ ... وشرُّ ما يكسبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
وشَرُّ ما قنصتْهُ راحتي قَنَصُ ... شُهْبُ البُزَاة سواءُ فيه والرَّخَمُ
البيت الثاني مأخوذ من أبيات لصاحب العلوي الداعي بطبرستان:
أنا من جناب سواك في مَرْعَّى نَدِ ... وأقيمُ عندكَ في جنابٍ مُجْدِبِ
إن كنتَ ذا بصر فميّزْ فضلَ ما ... بين الفَراء وبين صيدِ الأرنبِ
فجعل موضع الفراء الباز الأشهب، وموضع الأرنب الرخم، الأول من قول محمد بن عيينة المهلبي من قصيدة أولها: دمية قفْرةُ وربعُ جديبُ
لا تثق بالكذوب واعلمْ يقينا ... أن شر الرجال عندي الكذوبُ
لي وفاء مَحْضُ وكف جواد ... وجلالُ باد ورأىُ صَليبُ
أخبثُ الأرض ما خلتْ من صديق ... وأضرُّ الأفعال فعلُ مَعيبُ
انتهى
هذه هي القصة كما وردت في كتب الأدب
وكأن المحسود والحاسدين بين اظهرنا الآن وتأتي عصور أخرى ولن تختلف فيها الطبائع الإنسانية ويبقى اطفالنا الصغار يرمون الشجار المثمرة بحجارتهم لعطش نفوسهم الى ما تحمله من الثمر
وتبقى الاشجار المثمرة معطاءة لا تمسك جداها من أذية طفل لم تنضج في ذاته معاني العطاء والحياة!
تحية لكم