دعوة للمنازلة الشعرية في "لحظة ضعف"


بينما تتكدّس أقلام المدونات بحروف غريبة قد تشبعكَ بمفردات اللا لغة ، و قد تكون مشحونة بعدد من الصور الشاعرية النقية ، وقد تكون غير مأمونة الجوانب بسبب لصوص الإنترنت ، وقد .. ، وقد .. ، وبينما يحدثُ ذلك نجد بعض الأصوات الشعرية الجديدة تحمل من الأفكار و التمرد الإيجابي على القوالب الصماء مساحة شاسعة تجْبركَ على قراءتها ، والتأمل كثيراً فيما تنبضُ به هذه الأصوات غير المعتادة ..
تتسلّلُ إلى مسامعكَ ، بإسلوبها الأخاذ ، وصورها المُمَوْسقة التي تشربتْ ألم الواقع الجديد ، فقرّرت أن تكون بذاتها قصيدة تُعبّر عن فيوضات الحب و الأمل ، وتدعو إلى حرية الانطلاقة عبْر الفضاء الغائب/ الحاضر ..،

و في ضوء الإصرار على التلاعب اللفظي ، و الاحتكام إلى "الأنا" الذائبة بطببعة الحال في الـ "هو" و الـ هي و المجموع ، و إن كانت مُستعدّة لأن تكون "خاتم سليمان" بصورته الذهنية المتغيرة دوماً ..
و قد تلجأُ هذه الأصوات الشعرية الجديدة أحيانا إلى التفجير اللغوي ، فتخرجُ باصطلاحات غير مسبوقة لأشياءٍ تتعدّد معانيها في القاموس الخاص لكلّ صوت مع احتفاظها بالكشف عن تلك المعاني من خلال السياق العام للعمل الأدبي .. ، فتعالج القضايا المتنوعة ، وفي شتى المجالات سواء كانت سياسية أو أدبية ، اجتماعية ، اقتصادية ، ....
و تؤكد هذه الأصوات على قدرتها في استخدام إبداعاتها لتحرير الأرض ، و تحقيق الأمن القومي في زمن اللاوعي/ الموت غير القابض للروح ..
إنها إذن أصوات تسكبُ عطراً من التمنطق الشاعري ، و الصوفية غير المقصودة ، والتي اكتسبت حركتها من سكنات ثوابت التغيير اللازمة لاستكمال الصورة الحياتية بلون غير مرئيٍّ ، وشفرة تنظيم سرّيٍّ لفوضى الإبداع المتجدّد .

من هذه الأصوات الجديدة ، و في باكورة إصداراتها "لحظة ضعف" تُعْلن الشاعرة "سناجق فتحي خلف الله" أنها زهرة إبداعٍ يُمكنها فرْزَ العسلِ بغير النحل ، و دون اللجوء إلى موت ذكر النحل بعد قيامه بتلقيح الملكة ..،
فكأنها تُعلنُ صرخة شبابنا الناجمة عن غياب التواصل بين الأجيال الإبداعية المختلفة .. ،
و لا تلبثْ حتى تعود لتؤكد أننا لاغنى لنا عن الموروثات و سيرة السابقين ..
وفي حالةٍ أخرى تؤكد أنها لن تستطيع العيش بغير حبيبها/ الوطن ، وبالتالي فلابدَّ لها أن تموت .. ، وتعودُ لترددها ، وتعلن أن الصمت مثل الموتِ ، ، والسكوتُ ليس علامة الرضا ، إنما هو مساحة إجبارية للحب يجب الالتزام بها و استدعاء رموز الحرية و الشرائع ..
في قصيدة "طلع النهار" تحكي قصة عروسة طالبت مَن يحرسها ، ويرفعها بحنانٍ و يقظة ، لكنها لم تجد إلاّ شباب العرائس المُتحركة ..
انظر هنا كيف شبَّهتْ هؤلاء بـ "الريموت" ، لما في هذا التشبيه من إيحاء بافتقادهم القدرة على اتخاذ القرار ، و اتباعهم للتغريب ، ويتبين ذلك من اللفظة الإنجليزية ، و كأنها بهذا رغم استخدامها للعامية المصرية في شعرها تؤكد أيضاً على تشتت الشباب ، و لا تغفل أن تؤكد على ضرورة العودة للموروث التاريخي و الديني (رطب المسيح ، الفاروق ، صلاح الدين ، تالت الحرمين)
و في تشبيهها للسكوت بالموت ، ثم تنتفض تقول:-
"سكتتْ و لكن لأ .. عُمرها"
في هذه التركيبة تعتبر أن الخدْعة هي الموت ، ويقابله السكوت ، ثمَّ تستدرك بقولها "لكن" .. ، وتُلحقها بأداة النفي "لا" .. ، ثم تأتي كلمة "عمرها" ، ولها دلالتان ، أماّ الأولى مُكتسبة من القاموس الشعبي بمعنى توكيد عدم ماحدوث ما أفصحت عنه/ السكوت ، و الدلالة الثانية توحي بأنها مُجرّد أن ذكرت كلمة "سكتتْ" تذكرتْ العمر/ الحياة ..
و إذا كانت الخديعة تُمثل السكوت و الموت ، فإن الشاعرة أيضاً تؤكد أن "الهجر" من نفس فصيلة الموت ، و يظهرُ ذلك في قصيدتها "لحظة ضعف" عندما تُكرّر الجملة الشرطية "لماّ تسيبني"

و يبدو أن الشاعرة تعاني من عدم الإخلاص في الحب ، و تصرّ على البحثِ دون مَلل ، و لا تؤمن بالظروق القهرية ، و ترفض أن تستسلم لما يعرفه بعضهم بأنه ضمن الاحتياجات الضرورية للإنسان ..
تواجه الفقر بمحاسبة النفس ، و تديل السلوكيات و الاتزام بما فرضته الشريعة .. ، تستهل قصيدة "عبد فقير" بجملة "حاسب نفسك" و تستمرّ في إبداء النصح حتى تصل إلى آداء فريضة الحج .. ، و المقصود بفريضة الحج هنا هو تداعيات هذه الفريضة ، و منها الغفران ، و الالتزام بآداء الحقوق و الواجبات
و لأنها تحلم دائما بالنصر ، و العائلة ، و تؤمن بأن بلدها مصر هي القبلة الأولى للتحرير ، و "لمّ الشمل" العربي كتبتْ قصيدة "حبيبتي" ناصعة الحروف ، و شاربة من ماء النيل ، وشامخة بعبق التاريخ و الأهرامات
و لأنها تنتمي إلى هذه الأسرة المصرية العريقة ، فهي تبدو في أحيان كثيرة واثقة من نفسها ، و لا تفتقد الأمل في غدٍ إبداعيٍّ مشرق .. ، و ترفض الصمت/ السكوت ، و يظهر ذلك في عناوين قصائدها "سكة أمل" ، "صوت الأنا" ، "صوت الألم"
و تنجح كذلك "سناجق فتحي" في التلاعب اللفظي و الغنائيات .. تقول في قصيدة صوت الألم:-
"كان كل همه يفرح لهمي
خلاني اعيش كاره أعيش
و كل ذنبي حبيت أعيش
مع حبّ لكن .."
و في قصيدة الريشة و الكمان تقول:-
"أنا مستعدة اكون خاتم سليمان
...
طلب الأمان
...
كان نفسي الحب يدفعني"

و في قصيدة حبيت و لكن تقول:-
"مالقيت في الدنيا غير هُوّهْ
لا حسبْتِ فروق ولا هِوّوهْ"

يتبين من هذه النماذج أنها تبحث عن الحب الحقيقي ، والذي يتمثل في الأمان .. ، ولأن الأمان مفتقد تكرّرت عندها كلمة "لكن" ، و لكنها أيضاً على كافة الأحوال تقول لنفسها في "سكة أمل":-
"خلِّيكِ ماشية فْ سكِّتك"

و يبدو الجناس الناقص سمة في معظم كتاباتها ، و التأثر بالغناء مثلما يؤثر فيها الموروث الديني و التاريخي ، فمثلاً تقول في قصيدة أوراق الخريف:-
"هيّ الحياة مُمْكن نعيدها من جديد
رُدّي اللي حال بيني و بين حلمي الوحيد"

و إذْ تتميز القصيدة بإحساسٍ جميلٍ ، فهي تتنوع بين الأسلوبين الاستفهامي الإنشائي ، و الخبري ، و تصرُّ الشاعرة على وضْع علامة الاستفهام باعتبار أنها أصبحت طبيعية هي ظاهرة التساؤلات ، والبحث عن الأجوبة ، والتي لا يُضمن صحتها إلاّ في عبق الماضي الجميل
و تذكرني سطور هذه القصيدة بأغنية من زمن الفن الجميل صدحت بها كوكب الشرق أم كلثوم حيث تقول:
"عايز نرجع زيّ زمان .. قل للزمان ارجع يا زمان"

و على غرار الأغنية تقول "سناجق فنحي" في قصيدة صوت الأنا :-
"أنا مستحيل .. أشتاق أنا
الحب باعني .. باعني وْ خدعْني"

و تظهر كذلك في بعض كتاباتها الأغنية بتكوينها من "مذهب" و عدة "كوبليهات"

و هكذا .. ربما تخفتُ المعاني لفترة من الكلمات في قصيدة "سناجق فتحي" ، لكنها سرعان ما تؤتي أكلها بروعة و نقاء ، و تعدّ قصيدتها دعوة للمنازلة الشعرية الجميلة .