الاختراق الصهيوني للعراق

د. خالد الناشف

الجزء الأول
تمهيد
((في الحقيقة، حرب العراق هي جنين أخرى، ولكن على مستوى أضخم. فما حصل في جنين أن الإسرائيليين قالوا للفلسطينيين: تركناكم هنا لوحدكم ولكنكم لعبتم بالنار وفجأة قمتم بتفجير سيدر (عشاء عيد الفصح) في ناتانيا، ولهذا لن نترككم وحدكم بعد الآن. سنذهب من بيت إلى بيت في القصبة. ومن وجهة نظر أمريكا، العراق هو جنين)).‏
توماس فريدمان
من مكاتب صحيفة النيويورك تايمز في واشنطن‏
كان الخطاب العربي مقصراً في تحديد طبيعة دور إسرائيل، أو اليهودية العالمية، في العدوان الأمريكي على العراق. ولا يتناسب هذا التقصير مع حجم الكارثة التي حلت بالعراق، وبشكل تلقائي بالأمة العربية، وتمثلت بالاحتلال الأجنبي لدولة عربية وتدمير تراثها الحضاري، وشكلت سابقة خطيرة تهدد المنطقة بأسرها. لهذا كان من الصعب ترك الوعي العربي أسير عموميات عاطفية لا تتجاوز في أحسن الأحوال الاعتماد على مايتسرب هنا وهناك في وسائل الإعلام العربية من معلومات مبعثرة ومحدودة حول دور إسرائيلي أو يهودي محتمل. لهذا كانت هناك حاجة ملحة لبحث الموضوع وتقييمه من جميع جوانبه، التي لا تقتصر على توغل الشركات الإسرائيلية في السوق العراقي. من هنا جاء تفكرة هذا الكتاب، الذي اعتمدت المادة الواردة فيه، بشكل شبه تام، على مصادر أجنبية،أمريكية يهودية أو إسرائيلية، ونادراً ما كان هناك رجوع إلى مصدر عربي أو أجنبي لـه مواقف مناوئة لإسرائيل أو الصهيونية(1). وتبين من التقييم أن الكثير من الأطراف لمتتردد في التعبير بشكل مباشر عن مصالحها في العدوان على العراق، الذي يهدف في الدرجة الأولى إلى إلغاء العراق كعنصر قومي في الصراع العربي الإسرائيلي. وعمق العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تؤكدها مواقف أيديولوجية صريحة تحملها بشكل خاص المنظمات والجماعات اليهودية الأمريكية، وكل هذا يحصل في ظل خمول عربي مقيت. وفي المقابل، لم يكن هذا الاندفاع الجنوني نحو تدمير العراق إلا تعبيراً عن المأزق الذي تواجهه المصالح الأمريكية الإسرائيلية في فلسطين مع استمرار المقاومة الفلسطينية وثباتها.‏
يعرض الفصل الأول مشاركة الجنود والضباط الأمريكيين اليهود في القوات الأمريكية التي غزت العراق. وبعض هؤلاء هم من رجال الدين، الذين احتفلوا بالأعياد اليهودية مباشرة بعد الاحتلال وكانوا يتجولون في العراق بحرية. يتناول الفصل الثاني الدور الإسرائيلي في العدوان، كما انعكس إعلامياً في الولايات المتحدة وإسرائيل، ويجمع المعلومات المتوفرة حول تنسيق الجهود بين الطرفين، مثل عمليات أمريكية إسرائيلية مشتركة تمتفي العراق قبل العدوان، وتزويد القوات الأمريكية بالأسلحة و"الخبرات" الإسرائيلية. الفصل الثالث يسلِّط الضوء على الوجود الإسرائيلي واليهودي في العراق بعد الاحتلال،وهو ما اتخذ أشكالاً مختلفة، من بينها زيارات لمسؤولين إسرائيليين إلى بغداد قاموا بها بعد الاحتلال مباشرة بدعوى تفقد أوضاع الجماعة اليهودية في العراق. وبالفعل نجح هؤلاء، وغيرهم من المنظمات الأمريكية اليهودية، في إخراج عدد من اليهود من العراق وإحضارهم إلى إسرائيل واستغل هذا الموضوع دعائياً لخدمة الصهيونية. وكذلك يعرض الفصل نشاط مكتب إسرائيلي أسس في بغداد بذريعة رصد وسائل الإعلام العراقية، وخلفية الشخصيات التي تقف وراء نشاطه. ويتطرق الفصل إلى ما أمكن جمعه حول نشاطات الموساد في العراق بعد الاحتلال، وتحركات منظمات مشبوهة في المنطقة الكردية، واستغلال الحالة الإنسانية لعائلة كردية لأغراض صهيونية، وأدوار أفراد أمريكيين يهود أو إسرائيليين في العراق. موضوع الفصل الرابع هو الدور الذي لعبته اليهودية العالمية،الممثلة بشكل خاص بالمنظمات والجماعات اليهودية الأمريكية، في دعم العدوان والتعاون مع "المعارضة العراقية". ومع سقوط بغداد في نيسان أصبح المجال مفتوحاً أمام رجال أعمال أمريكيين وبريطانيين يهود لتحقيق أهداف سياسية لخدمة إسرائيل. وبشكل متزامن مع بدايات التحضير للعدوان أطلقت المنظمات والجماعات اليهودية حملـة للتعويض عن ممتلكات اليهود من العراق والبلدان العربية، والفصل يبيِّن أن الهدف النهائي من هذه التحركات هو تصفية القضية الفلسطينية. يجمع الفصل الخامس المعلومات المتوفرة حول التوغل الإسرائيلي في السوق العراقي، الذي أصبح في ظل الاحتلال مفتوحاً بالكامل أمام الشركات والاستثمارات الإسرائيلية ورجال الأعمال الإسرائيليين. يعرض الفصل السادس استغلال موضوع يهود العراق، وكيف كان تشويهه تاريخياً جزءاً من حملة تبرير العدوان. الفصل السابع والأخير يعرض الاهتمام الزائد والمصطنع بالتراث اليهودي العراقي ومحاولات إخراجه من العراق، واستغلال بعض جوانب التراث الحضاري العراقي،التي قيل أنها يهودية، لتحقيق موطئ قدم في العراق، ويوضح نقاط الالتقاء مع الممارسات الاستعمارية في فلسطين، التي تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر.‏
هناك خيط يربط فصول الكتاب وهو المنظمات والجماعات اليهودية الأمريكية وتشابكها على مستويات متعددة. ولا شك أن لهذه الأطراف تأثير كبير في الرأي العام الأمريكي،وخاصـة أن هناك مؤسسات وأشخاصاً مرتبطين بها يمتلكون العديد من وسائل الإعلام الأمريكية أو لهم دور حيوي فيها. وقد يكون هذا التأثير أو الضغط، الذي يفرض مباشرة على الكونغرس من خلال أعضاء يهود فيه، أحد العوامل الأساسية في صياغة السياسة الأمريكية، غير أن هذا لا يعني أن هذه السياسة تسير بشكل تلقائي باتجاه "يهودي" أو"إسرائيلي"، أو أن تحركات المجموعات اليهودية تعبر فقط عن مصالح يهودية أو إسرائيلية. الجميع يدرك وجود مجموعات ضغط يهودية كـ "اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة"(2) (أيباك)، وهي تعلن بكل وضوح عن أهدافها التي تتمحور حول الضغط على الكونغرس الأمريكي. يشير جيفري بلانكفورت(3) إلى أن هناك مجموعات ضغط متعددة في الصراعات السياسية والاجتماعية الأمريكية، كما في مجالات النفط، السلاح، التبغ،التأمين، والمستشفيات، والكثير غيرها، وهذه المجموعات معروفة في واشنطن. فلماذا يحرم الحديث عن مجموعات ضغط تصنف بأنها موالية لإسرائيل، أسوة بغيرها، وهو ما يطرحه بلانكفورت، الذي قام بجمع أسماء أشخاص يهود يملكون أو يؤثرون في وسائل الإعلام الأمريكية. وبلا شك، ينبغي الحديث عن مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل والجماعات التي تدعي أنها تمثل مصالح اليهود الأمريكيين. ولكن الأهم من ذلك هو تحديد العلاقة والمصالح المتشابكة بين هؤلاء ومراكز القوى الأمريكية الحقيقية، وهي ليست بالضرورة "يهودية"، والأمر كله لا يخضع لاعتبارات دينية أو مذهبية. وأفضل ما يعبر عن اللوبي الصهيوني في أمريكا هو ما قاله يوسي كلاين هاليفي(4) من أن "مجموعة الضغط المساندة لإسرائيل هي الأقوى في واشنطن، ولكنها لن تكون كذلك لو لم يرَ الأمريكيون في إسرائيل انعكاساً لأنفسهم". واللافت للنظر أن كلاين هاليفي يذكر هذه الملاحظة فيرده على ما يقوله بعض "الحاقدين، وخاصة من العالم العربي، من أن دعم أمريكا لإسرائيل مرده ‘مؤامرة صهيونية’". ما يقوله "الأمريكي" أو "اليهودي" أو "الإسرائيلي" كلاين هاليفي في موقع "إسرائيل القرن الحادي والعشرون"(5) الدعائي،الذي يقوم بتمويله إريك بينهامو، رجل الأعمال الأمريكي اليهودي الجزائري الأصل،يوصلنا إلى نتيجة تقول ببساطة ... إسرائيل، هي امتداد لأمريكا.‏
هذا الكتاب ليس ضد اليهود، ولا ينتقد اليهودية كديانة، التي هي ككل الديانات الأخرى ليست إلا ملجأً روحياً، يتعايش فيه الفرد مع نفسه وعالمه الخارجي وتناقضاته. وكلمة "يهود" أو "الجماعة اليهودية" استخدمت تماشياً مع المبدأ الصهيوني الذي حوَّل اليهودية إلى قومية، ولا تعني على الإطلاق تقييماً للديانة أو من يعتنقها. فالكتاب يوثق التماهي بين اليهود، أمريكا وإسرائيل، وهو ما تعبر عنه العديد من الأطراف الصهيونية، مؤسسات وأفراد، كالحاخام كارلوس هويرتا(6) العامل في القوات الأمريكية الغازية للعراق، الذي يقول: "أنا فخور بالخدمة في [الجيش الأمريكي] ليس كأمريكي فحسب، بل أيضاً كيهودي أمريكي"، أو جوناثان زاغدانسكي(7) الملازم أول في الجيش الأمريكي، الذي غزا العراق، ويعبر عن نفسه كيهودي فيقول: "نحن في أمريكا وإسرائيل" و"كل أمريكي وكل يهودي". هذا الدمج بين "أمريكا" و"إسرائيل"، أو التعبير عن مصالح "يهودية"، هو الموقف ذاته الذي تحمله المنظمات والجماعات اليهودية الأمريكية، كـ "المؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي"(8) (جينسا)، التي تهدف إلى: "تثقيف الجمهور الأمريكي حول أهمية وجود طاقات دفاعية فعالة لحماية مصالحنا الحيوية كأمريكيين،وإحاطة وزارتي الخارجية والدفاع علماً بالدور المهم الذي تلعبه إسرائيل في تعزيز المصالح الديمقراطية في منطقة البحر الأبيض والشرق الأوسط"، أو "منظمة النساء الصهيونيات الأمريكية"(9)، التي "تهدف إلى تعزير العلاقة بين أعضائها وإسرائيل،الحفاظ على الاستمرارية اليهودية، والعمل كقوة فعَّالة في المجتمع الأمريكي"؛ أوأيباك، التي تعرِّف نفسها بأنها "لوبي أمريكا لمناصرة إسرائيل" وتساعد على تمرير حوالي "مائة مبادرة تشريعية" سنوياً في الكونغرس لمصلحة إسرائيل ومن بين نشاطاتها: "تمويل الجهود المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتطوير الدفاع ضد الأسلحة غير التقليدية"(10).‏
يقول: غيل تروي(11)، مؤلف كتاب: "لماذا أنا صهيوني: إسرائيل، الهوية اليهودية وتحديات اليوم"، "إن الأمريكيين، الإسرائيليين، والديموقراطيين الليبرالييـن هم جميعاً مهاجَمون"، ويطالب بتفعيل النشاط المجتمعي الأمريكي لمجابهة "الإرهاب" أيديولوجياً. فلا "جورج بوش أو أرييل شارون يبدوان مناسبين لأداء هذا الدور المهم في تحقيق نهوض أيديولوجي ومجتمعي". وهذا لا يعني أن الصهيوني تروي يعارض القوة العسكرية، التي يمارسها بوش وشارون ضد العراقيين والفلسطينيين، إذ يقول: "لندع القادة يشنون الحروب. ولكن دعونا نصغ مواطنة نشيطة ومندفعة وملتزمة أيديولوجياً ومضحية، ونكسب السلام". وكمثال على هذه المواطنة "الملتزمة والساعية لكسب السلام"، يذكر تروي أن على المواطنين الأمريكيين بذل مجهود أكبر في دعم القوات الأمريكية، "حتى ولو بشكل رمزي، كالتبرع ببطاقة هاتف للجندي الأمريكي حتى لا تقلقه تكاليف الاتصال الهاتفي عبر البحار"(12). ولا يختلف ما يكتبه الصهيوني تروي عن الآراء التي عبر عنها هويرتاأو زاغدانسكي، والموقف ذاته تعبر عنه بشكل صريح المنظمات والجماعات اليهودية في برامجها وسياساتها. المقارنة تكشف عن خط متفق عليه يتبناه المؤدلوجون من القادة اليهود، حتى في التفاصيل، كاقتراح تروي حول جمع التبرعات لشراء بطاقات هاتفية، وهو أحد جوانب الحملة التي نظمتها الجماعات اليهودية الأمريكية(13) لدعم الجنود اليهودفي العراق.‏
ولكن! أين يقف العرب من هذا الزخم المتناغم من الطاقات الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة والعالم؟ وهل يتصدون لـه؟ وهل يعرفون حقاً الدور المشبوه الذي تلعبه "مؤسسة الشرق الأوسط للإعلام والأبحاث"(14) (ميمري)، التي يرأسها ييغال كارمون(15)، العضو السابق في المخابرات العسكرية الإسرائيلية؟ إن هذه المنظمة تعمل على انتقاء ما تراه مناسباً من الإعلام العربي خدمة لأغراضها، ثم تقوم بترجمته، مستغلة عائق اللغة الذي يمنع الإعلام الغربي من الاطلاع على كل ما ينشر باللغة العربية. ميمري هذه فتحت فرعاً لها في بغداد في شهر تموز 2003، وربما قبل ذلك، والمؤسسة مدرجة في موقع لمراكز الأبحاث تابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية.‏
بريانويتاكر(16)، الصحفي البريطاني، كشف عن الدور المشبوه الذي تلعبه هذه المؤسسة وكتب قائلاً: "كل ما يلزم أن تقوم مجموعة صغيرة، ولكن نشيطة، من الإسرائيليين باستغلال عائق عدم المعرفة باللغة العربية لأغراضها الخاصة وتبدأ بتغيير نظرة الغرب إلى العرب تجاه الأسوأ". وإذا كانت صورتنا كعرب لا يمكن أن تصل إلى أسوأ مما هي عليه الآن في الغرب، فإن في ما يكتبه ويتاكر لمواجهة ميمري رسالة واضحة لنا: "ليس من الصعب تصور ما يمكن للعرب أن يقوموا به لمواجهة ذلك. تلتئم مجموعة من شركات وسائل الإعلام وتتولى نشر ترجمات لمقالات تعكس بدقة أكثر ما تتضمنه صحفهم"، وقد يكون مايقترحه ويتاكر أحد أمور كثيرة يفترض بالعرب القيام بها، كرصد الإعلام الصهيوني والغربي، أو الكشف عن مجموعات الضغط اليهودية أو الإسرائيلية في الولايات المتحدة. ولكن العرب لا يفعلون هذا ولا ذاك، إذ يكتب ويتاكر في ختام مقاله، أن العرب: "كالعادة، يفضلون الاسترخاء في مقاعدهم وهم يتذمرون حول مكائد عملاء المخابرات الإسرائيلية". هذا الكلام عن التقاعس العربي يؤكده الأمريكي رامزي كلارك(17)، داعية السلام واحترام حقوق الإنسان، الذي قال أثناء وجوده في القاهرة في كانون الأول عام 2003: "ليس من المعقول أن يخرج مليونا مواطن أمريكي للشارع في مظاهرات عارمة، وتقوم الشرطة بضربهم وتصيبهم إصابات بالغة في أجسامهم، والعرب جالسون في بيوتهم يتفرجون علينا وكأننا قد خرجنا إرضاء لمزاجنا مع أن هذا يعتبر شأناً عربياً ولا بد من التحرك حياله"(18). وبالمقابل يوجد موقع على الإنترنت(19) يشرف عليه طلاب وأساتذة في جامعة ايرلندية، يقدم أكبر قدر ممكن من المعلومات التي تكشف خلفية الآراء الواردة في وسائل الإعلام حول "إسرائيل أو فلسطين"، وعملياً يشكل هذا الجهد حملة مضادة للإعلام الكثيف الموالي لإسرائيل. ولا يوجد فلسطينياً أو عربياً ما يقابل هذاالموقع، سواء من حيث المضمون أو التوجه.‏
فالرأي العام، الأوروبي والأمريكي، لم يعد يصغي إلى النغمة القديمة التي تستدر العطف أو الشفقة لليهود، لتصب هذه المشاعر تلقائياً باتجاه إسرائيل، "الدولة الصغيرة، الديموقراطية، التي تتعرض منذ إقامتها لخطر وجودي"(20)، كما يصفها شلومو غازيت، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. فقد أصبحوا ضحاً أن منطق استخدام العنف من قبل إسرائيل جاء نتيجة سياسة هذه "الدولة الصغيرة"، وأن هذه اللعبة لم تعد فعَّالة في أوروبا وأمريكا، خاصة وأن إسرائيل تتعمد أيضاً إظهار القوة بمواجهة الشعب الفلسطيني الأعزل، الذي يطالب بوطنه المسلوب. هذه هي الخلفية وراء نتائج الاستطلاع، الذي أجراه الاتحاد الأوروبي في خمسة عشر دولة في تشرين الثاني عام 2003، وكانت نتائجه أن 59% اعتبروا أن إسرائيل تشكل الخطر الأكبر على الأمن العالمي. وقد رأت "عصبة مناهضة التشهير"(21) اليهودية الأمريكية أن السبب يعود إلى العداء للسامية ودفعها إلى إجراء استطلاع مشابه في الولايات المتحدة في بداية شهر كانون الأول 2003 جاءت نتائجه مفاجئة، وليس كما تتوقع "العصبة"، فـ 43% وصلوا إلى الخلاصة ذاتها كما في أوروبا. ومقارنة بأوروبا وجدت "العصبة" أن هذه النتيجة تصب في صالحها، غير أن غازيت، في مقاله المشار إليه،نبه إلى أن هذا يعني نصف الأمريكيين تقريباً، وهو ما لا يمكن إرجاعه إلى "العداء للسامية"، الضعيف في الولايات المتحدة أصلاً. والكثير من الأمريكيين اليهود لايتفقون مع اتجاه المنظمات اليهودية الأمريكية، كما أشار إلى ذلك الحاخام مايكلليرنر(22)، أحد المعارضين اليهود للعدوان على العراق.‏
لهذا أخذت مجموعات الضغط اليهودية تقوم بمحاولات مستميتة لاستعادة التوازن الذي فقدته كنتيجة مباشرة لبروز المقاومة الفلسطينية، مع انتفاضة الأقصى في أيلول عام 2000،وتأثيرها الجذري على الكيان الإسرائيلي. وهناك العديد من الإشارات، التي تعكس تخوف المنظمات والجماعات اليهودية من فقدان تأثيرها على الرأي العام الأمريكي يجدها القارئ في صفحات هذا الكتاب، كاستطلاعات الرأي، التي أجراها "مشروع إسرائيل" و" إسرائيل القرن الحادي والعشرون" أو الحملة بين الطلاب، التي نظمتها أيباك بين أوساط الطلاب الأمريكيين في "مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط"(23). وهذا التخوف لم يأتنتيجة حملة عربية رسمية لمجابهة مجموعات الضغط اليهودية، بل أفرزته المقاومة الفلسطينية، التي أصبحت المقاومة العراقية اليوم حليفها المباشر.‏
يبقىأن هذا الكتاب هو تسجيل لمواقف مرتبطة بالعدوان على العراق، الذي لا يمكن حصر دوافعه بمجرد تحقيق مآرب إسرائيلية أو يهودية. فمن الواضح أن العدوان يمثل، في النهاية، ظاهرة متعددة الأهداف، من بينها محاولة التصدي للركود الاقتصادي العالمي،يتجاوز تحليلها إطار هذا الكتاب وطبيعته. وعلى المستوى الإعلامي، عكست ردود الفعل على العدوان بدرجات متفاوتة الارتباط مع الأوضاع في فلسطين. والأمريكي اليهودي توماس فريدمان(24)، كما استشهدنا به في مطلع الكتاب، يدرك تماماً العلاقة بين فلسطين والعراق، التي شبهها بجنين كبرى، وبالفعل جاء العدوان على العراق بسبب التهديد الذي تعرضت لـه ناتانيا، التي تقع في أمريكا الصغرى، أي إسرائيل. والفلسطينيون يحسون بالفخر أن تكون العراق جَنين المقاومة الأكبر في العالم العربي.‏
وفي الختام، لم يكن ممكناً لهذا الكتاب أن يأخذ شكله النهائي بدون القراءة المتأنية لوسام عبد الله، التي قامت بتحرير النص ومراجعته، لا بل مناقشته معي لأكثر من مرة أثناء تطور العمل، فلها كل امتناني وتقديري.‏
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
عمان، 31 كانون الثاني 2004‏
(1) مثلاً لم تؤخذ المعلومات، التي ترددت في وسائل الإعلام العربية حول "وزراء" أومستشارين أمريكيين يهود في العراق.‏
(2) (American Israel Public Affairs Committee). أضيفت في هوامش الكتاب أسماء المؤسسات والأشخاص كما وردت في المصادر الأجنبية لدى ذكرها للمرة الأولى فقط، كما استخدمت في الكتاب اختصارات لأسماء بعض المؤسسات.‏
(3) (Jeffrey Blankfort)؛ أنظر هامشي 193 و591.‏
(4) (Yossi Klein Halevi)، مراسل إسرائيل لـ "ذي نيو ريبوبليك" (The New Republic).‏
(5) (Israel21c)، 9/2/2003.‏
(6) (Carlos Huerta).‏
(7) (Jonathan Zagdansky).‏
(8) (Jewish Institute of National Security Affairs).‏
(9) (Women’s Zionist Organization of America) أو ما يعرف باسم "هداساه" (Hadassah).‏
(10) أهداف المنظمات من مواقعها على الإنترنت.‏
(11) (Gil Troy)، أستاذ "التاريخ الأمريكي" في جامعة ماكغيل (McGill University) (مونريال، كندا).‏
(12) (Israel21c)، 26/5/2003.‏
(13) أنظر ص 19.‏
(14) (Middle East Media and Research Institute).‏
(15) (Yigal Carmon).‏
(16) (Brian Whitaker)، (The Guardian)، 12/8/2002.‏
(17) (Ramsey Clark).‏
(18) حسب "الدستور" الأردنية 25/12/2003.‏
(19) "فلسطين: إعلام مع مصدر" (Palestine: Information with Provenance). توجد قاعدة البيانات ضمن موقع "جامعة كورك" (University College Cork) ويديره أعضاء من "حملة دعم فلسطين" التابعة للجامعة (UCC Palestine Solidarity Campaign).‏
(20) حسب "شلومو غازيت" (Shlomo Gazit) في مقال نشر مؤخراً في صحيفة "معاريف"؛ أنظر "الدستور" الأردنية، 27/12/2003.‏
(21) (Anti-Defamation League)؛ حول الاستطلاع، أنظر موقع "العصبة" (http://www.adl.org/PresRele/Aslnt_13/4185_13.asp).‏
(22) (Michael Lerner). استخدمنا كلمة "حاخام" للدلالة على رجل الدين (chaplain) اليهودي وكمقابل للإنجليزية (rabbi)، التي تعني بالعبرية أصلاً "سيدي" من "رَب" ("سيد"). ويبدو أن "حاخام" (Hakham) كانت شائعة بين أوساط اليهود الشرقيين؛ اليهودية العراقية موزيل ساسون في يومياتها من عام 1910 تستخدم هذه الكلمة إلى جانب (rabbi) في إشارتها إلى رجال الدين في العراق (حول هذه اليوميات أنظر الفصل السابع). ويمكن استخدام كلمة حَبْر أو حِبْر، جمع أحبار، كما وردت في القرآن. ولكن فضلنا "حاخام"،التي دخلت الأدبيات العربية الحديثة حول اليهود والصهيونية. وخلافاً لما يعتقد هجيفري فإننا لا نرى أن كلمة "رباني"، التي ذكرت في القرآن الكريم إلى جانب "أحبار"،تعني رجل الدين اليهودي أو أنها عبرية أو سيريانية الأصل. أنظر (Arthur Jeffery, The Foreign Vocabulary of the Qur’an. Baroda: Oriental Institute, 1938, pp. 137-138).‏
(23) (Saban Center for Middle East Policy).‏
(24) حسب مقابلة أجراها معه "آري شافيت" (Ari Shavit) ونشرت في صحيفة (Haaretz