28-8-2010 10:30:36
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
الانسحاب هروب حقيقي من أزمة ميدانية خانقة

استمرارية أهداف الاحتلال تفرض استمرارية المقاومة




العراق- العرب أونلاين- نبيل شبيب:
ليس هذا انسحابا عسكريا من العراق، بل انسحابا من القتال، وليس هو انسحابا طوعيا بل انسحابا اضطراريا، ولا يعني التراجع عن أهداف الهيمنة بل الأخذ بوسائل أخرى، ولا يريح المنطقة من عدوان واستباحة بل يترك ما يمكن تحقيقه ليتحقق بتكاليف بشرية ومادية أقلّ في جبهة المعتدي وليس المعتدى عليه، فما دام الاقتتال مستمرا، والاستبداد رابضا، والتخلّف مستساغا، سيبقى التدخل الخارجي مرتبطا بتقدير ما لا بدّ من صنعه مباشرة إذا استحال صنعه محليا.. بالنيابة.

الانسحاب المزوّر.. والفوضى الهدّامة
أمّا أن ما سمّي الشروع في الانسحاب العسكري من العراق خلال آب/ أغسطس 2010م لا يعتبر انسحابا عسكريا، فذاك ما يؤكّده عدد من الحقائق المعلنة، ولا يحتاج إلى تحليل وتأويل واستنباط، من ذلك بقاء ما لا يقلّ عن 50 ألف جندي أمريكي، حتى بعد استكمال الانسحاب الجزئي بعد أسابيع، وكذلك بقاء ما يوازيهم عددا أو يزيد عليهم من "المرتزقة" تحت عنوان مخادع: "شركات أمنية"، والتحصّن العسكري في قواعد ومعسكرات كبيرة وصغيرة خارج المدن، مع جميع المقدّمات التي تؤكّد السعي لتثبيت بقاء تلك القواعد أو بعضها حتى إلى ما بعد الانسحاب الرسمي مع نهاية 2011م.

إنّما هو انسحاب بدأ منذ فترة ووصل إلى مرحلة متقدّمة، من ساحات القتال المباشر، فقد أمكن تحقيق الهدف الأوّل من الاحتلال، وهو توظيف فريق من المرتبطين بالاحتلال أكثر من ارتباطهم بالعراق، لإيجاد آلية مسلّحة تستقطب من يمكن استقطابه من أبناء العراق، إمّا نتيجة السقوط في حبائل الإغراء، أو نتيجة ضغوط لقمة العيش اليومية، أو نتيجة ما أثير من نعرات طائفية وغير طائفية، كي "يتقدّموا الصفوف" في جبهة الاحتلال، ويتولّوا هم قتال بني جلدتهم، وليخفّضوا -من خلال من يسقط منهم في ساحات القتال- أعداد من يسقط من جند الاحتلال!..

وما كان "القتال" بحد ذاته هدفا أمريكيا وبريطانيا، بل كان من اللحظة الأولى وسيلة في خدمة أهداف الهيمنة بمختلف أشكالها، ولا يمكن اعتبار الحرب "منتهية" حقا إلاّ بإنهاء مختلف أشكال الهيمنة، وبالتعويض عن جريمة العدوان وما سبّبته من دمار بشري ومادي -وإن كان لا يوجد ما يعوّض عنه- وإلغاء كافة نتائج العدوان نفسه، بدءا بربط العراق بعجلة أمريكية، انتهاء بتسليم المنطقة لمنطق الفوضى الهدّامة.

لو كان هدف الاحتلال الإجرامي رأس صدام حسين، فقد اغتيل صدام حسين عبر مهزلة المحاكمة والإعدام..

أو كان الهدف تدمير القوّة العسكرية في عهد صدام حسين، فقد دُمّر جيش العراق ببشره وبآلياته وبمختلف مكوّناته..

أو كان تأمين النفط الخام، فقد سبقت السيطرة على النفط الخام في معظم أنحاء المنطقة وليس في العراق وحده..

أو كان مكافحة "إرهاب"، فلا يوجد عاقل ينكر أنّ الحروب الأمريكية، لا سيما في العراق وأفغانستان، زرعت أسباب المزيد ممّا يسمّونه "إرهابا" لعدّة عقود قادمة..
إنّما كان الهدف المحوري الأهمّ من البداية هو تدمير العراق، بطاقاته العلمية والبشرية والتقنية والاقتصادية، الصناعية والعسكرية والزراعية، وهذا بالذات في مقدّمة ما ركّزت عليه سياسات الاحتلال وقوّاته، ومرتزقة منظماته ومخابراته، تنفيذا لِما قيل في بداية الحرب بشأن إعادة العراق إلى "العصر الحجري".

وأثناء ذلك بُذلت الجهود الأمريكية والبريطانية –وواكبتها الإقليمية جزئيا- لصناعة الفوضى الهدّامة في العراق، على المستوى السياسي، وهي ممتدة على نطاق واسع، أوّله تسليم من أجرم -عبر جلب الاحتلال إلى بلده- أزمّة مفاصل السيطرة وصنع القرار، وآخره زراعة ما يمكن تسميته "عبوات الاحتلال الناسفة"، في علاقة العراق مع الجوار الإيراني على خلفيّة شيعية، والتركي على خلفية "إرهاب كردي"، والسوري على خلفية الاتهام بدعم المقاومة، والخليجي على خلفية سنيّة..

وربط انفجار تلك العبوات الناسفة بتغيير ميزان القوى السياسية داخل العراق مع دعم كل فريق بمنظمة أو مؤسسة مسلّحة، بحيث لا يمكن أن يصل فريق من تلك القوى إلى سيطرة شاملة مستتبة، سواء تحت عنوان استبدادي صريح أو استبدادي متستّر بالديمقراطية، وسيّان بعد ذلك أن يوجد ما بين تلك القوى بعض الأطراف الذين ينطلقون من "مصلحة العراق" بظنّهم، فحتى إن أخلصوا النية وبذلوا الجهد، لا يمكن لهم بسهولة أن يصلوا ببلدهم إلى وضع سياسي واقتصادي وأمني قويم، ما دام تحركّهم محشورا في متاهة الفوضى الهدامة، بدلا من التمرّد من الجذور عليها وعلى الاحتلال الذي صنعها.

الاحتلال بالنيابة.. والمقاومة المشروعة
ليس الشروع في الانسحاب العسكري سوى النأي بجند الاحتلال عن ساحات القتال، وليس التخطيط للانسحاب على مراحل، إلا لتأمين فترة انتظار لرؤية استكمال ما يمكن استكماله من أهداف الاحتلال، ونُفّذ الكثير منه خلال أكثر من سبع سنوات دامية، ولن يكون الانسحاب الحقيقي طوعا إلا إذا اطمأن الطرف العدواني إلى أنّه سيخلّف وراءه أوضاعا تكفل استمرار تحقيق أهدافه بعد رحيل جنده وآلياته.

أمّا الحديث عن "الاضطرار" إلى الانسحاب تحت وطأة ضربات المقاومة، فلا بدّ من الحرص على دقّة صياغة العبارات تماما.. المقاومة العراقية هي التي:
- حوّلت "غارة" الغزو والاحتلال إلى "سنوات من القتال" بدلا من أن تكون نزهة تبدأ باستقباله بالورود كما توهّم..
- حوّلت أمله في تحقيق ما يريد من أهداف بسهولة ويسر..
- أرغمته على أن يدفع ثمنا باهظا من الخسائر البشرية والمادية..
- منعت من وصوله إلى "غاية" أهدافه بالصورة "النموذجية" التي كان يريدها لنفسه..
- أرغمته على القبول بصورة "مضطربة" أخرى -بمنظوره- تجمع ما بين السلبيات والإيجابيات، والخسائر والمكاسب، وركائز الهيمنة وركائز المقاومة، واحتمالات مفتوحة في اتجاهات عدديدة.

أمّا "النصر" الذي تتطلّع إليه المقاومة الشريفة فما يزال بعيدا.. ما يزال يتطلّب من المقاومة المخلصة المستقلة، والوطنية الصادقة، بوجهها العربي والإسلامي، وبصورتها المشرقة المشرّفة، أن تنطلق من رؤية أبعد مدى بكثير من تصوير الانسحاب الجزئي الحالي "انتصارا" يمكن الركون إليه، أو هدفا مرحليا سيليه –بالضرورة- هدف مرحلي آخر، بل يمكن القول إن الجولات التالية من معركة لا تزال مستمرة، أشدّ صعوبة أضعافا مضاعفة من جولات سابقة..

ما يزال النصر المرجو يتطلّب من المقاومة:
1- استبعاد كلّ تصوّر يقول بانتهاء المهمّة مع رحيل الجنود الغزاة أو بعضهم..
2- رفض مشروعية أيّ اتفاق أو قرار أو موقف يلغي مسؤولية الاحتلال عمّا ارتكبه بحق العراق وشعبه، والإبقاء على هدف مطالبته بما تقتضيه تلك المسؤولية من تعويضات دون أي تراجع عنه من جانب أي طرف من الأطراف، فلا أحد يملك صلاحية التخلّي عن حق أي فرد عراقي أو أي ذرّة من ذرات تراب العراق أو ثرواته ومستقبله..
3- التخلّص من ذلك الخليط الخطير ما بين أعمال مقاومة مشروعة ومفروضة وأعمال عنف غير مشروعة ومرفوضة وشديدة الضرر بالمقاومة وبالعراق..
4- إيجاد البدائل أمام كلّ من انحرفت به الطريق أثناء الاحتلال ليسير مجدّدا على طريق وطني عربي إسلامي مشترك..

5- طرح الرؤى السياسية الشاملة للميادين الداخلية والخارجية، بما يتجاوز الفتن الطائفية، والقومية، والحزبية، وسواها، ويرسّخ المواطنة أساسا جامعا لكافة أهل العراق، والسيادة والاستقلال والوحدة أركانا لا مساومة حولها أو حول أي منها مع أي جهة من الجهات، والأخوّة رابطا مشتركا مع جميع الأقطار العربية والإسلامية له الأولوية على كلّ ماعداه من علاقات مع أيّ طرف دولي، والعدالة الاجتماعية محورا لصناعة مستقبل العراق على أساس رفاهية كل فرد بغض النظر عن مختلف الانتماءات ورفاهية المجتمع كوحدة قطرية واحدة في المنظومتين العربية والإسلامية..
6- رفض أي شكل من أشكال بقاء الاحتلال الأجنبي، عبر اتفاقات غير شرعية، أو قواعد أجنبية عدوانية من حيث أصل وجودها وإن لم تطلق قذيفة واحدة، أو صيغة من صيغ التعاون مع أجهزة المرتزقة والمخابرات الأجنبية أيّا كانت "الصفة الرسمية" المزوّرة لعملها، أو امتياز من الامتيازات المالية أو الاقتصادية على حساب الشعب وثروته والبلد وبنائه..

7- إعطاء الأولوية لكلّ خطوة توحّد أبناء العراق بكافة انتماءاتهم، وتضمن حرياتهم وحقوقهم واقتسام المسؤوليات والواجبات بينهم دون استثناء أي جهة أو طائفة أو فئة أو حزب..
8- اعتبار الإخلاص للعراق ووحدته وتحريره وبنائه هو المعيار للتعامل مع جميع الأطراف، داخل لعراق وخارجه.

___________

* باحث ومفكر سوري