أتطلع بشوق من نافذة سيارة الأجرة المتهالكة ، هاهو الطريق الضيق الموصل إلى قريتى المستكينة وسط الحقول و غلالات رقيقة من الضباب
عشرون عاما لم تغير شيئا البتة ، لازال النهر الواسع على يسار الطريق يجرى فى رحلته الأبدية ولا زالت الأشجار تنتصب شامخة على يمينه
وهاهم القوم الساعون خلف بهائمهم فى رحلة البحث عن أرزاقهم
وصلت السيارة إلى مدخل القرية فترجلت وسرت على الدرب المعشوشب الجميل
عند نهايته يقع بيت جدى العتيق ، وأمامه دكان العم سالم
هاهو الرجل يجلس أمام دكانه وقد حنت السنون ظهره
وقفت أمامه وألقيت عليه السلام فرفع رأسه و حدجنى بنظرة كليله ورد السلام
قلت
…. ألا تذكرنى يا عم سالم ؟
…. من ؟
…. أنا كريم ، كريم عبد الرحيم بدران
هتف
…. حفيد الشيخ بدران يا أهلا وسهلا
احتضننى ووجهه ينطق بالدهشة ثم دعانى للجلوس وصاح بصبى دكانه لإحضار الشاى
….. أين أنتم منذ وفاة جدك يرحمه الله لقد أغلقتم البيت و لم نركم فى القرية بعدها أبدا
…. إنها الحياة لقد سافرت للعمل بالخارج وقضيت سنوات طويلة متنقلا من بلد إلى بلد
….. ماذا عن والدك ؟
…. لقد توفى منذ عشر سنوات
….. رحمه الله
توجهت إلى هدفى مباشرة وسألته
….. أريد أن أرى ضرغام عبد الباسط
….. ضرغام !!؟
….. نعم …. هل لا يزال بالقرية
……نعم لا يزال موجودا
….. هل تزوج ؟
أطرق قليلا وقال
…. لا يا ولدى ، لم يتخلص من الذكرى أبدا
…. وأين هو
….. ستجده فى مكانه الذى يجلس فيه كل يوم ، عند حافة النهر بعد جامع المارودى
….. حسنا سأذهب لأراه
….. لا بد أن تلبى دعوتى للغذاء ، لن أتركك تذهب إذا لم تعدنى بالعودة
ما أجمل نفوسكم يا أهل قريتى الحبيبة ، كم افتقدت نقاء قلوبكم وأنا أصارع غيلان الحياة
وعدته خيرا و انطلقت باتجاه جامع المارودى ، لا تزال تلك البيوت الطينية تحف الأزقة الضيقة من كل جانب ، ولازال الأولاد الصغار يعدون خلف الدجاجات وهم يتصايحون فى سعادة آمنة
انسلخت من بين البيوت إلى فضاء الحقول الواسع ، ملأت صدرى بهواء طال شوقى إليه
من بعيد لاح الجامع بلونه الأبيض ومئذنته الخضراء ، مررت به إلى درب حجرى يكاد يكون مظلما من شدة إحاطة أشجار عتيقة به ، التوى الدرب بزاوية حادة تخطيتها فوجدت نفسى أمام النهر الواسع ولمحته جالسا على صخرة أمام النهر وقد أولانى ظهره يتأمل الماء المنساب فى رقة وهدوء
هاهو ضرغام رفيق الصبا والشباب ، رفيق المعركة والنصر ، رفيق الآلام والدموع
إلى جانبه العكاز الذى لازمه بعد إصابته فى المعركة ، عاد البطل منتصرا ولكن بساق واحدة
ولم تكن هذه خسارته الوحيدة ، فقد تلقى طعنة غادره عندما قتل اللصوص زوجته وهم يحاولون سرقة البقرة التى كانت كل ما تملك هى وزوجها الغائب على جبهة القتال
عاد من المعركة ليجتر أحزانه باقى العمر
بصوت مختلج ناديت
….. ضرغام
التفت إلى بحركة سريعة وهتف
…. من !! كريم بدران !!!!!!!!!!
أستند إلى عكازه وقام فتعانقنا بشوق كبير
جلسنا وأخذت بتأمله كم تغيرت يا ضرغام ، لم يبق من الأيام الماضية سوى لمعان عينيك الحادتين
سألنى
…. أين كنت وماذا فعلت طوال هذه السنين
…. سافرت إلى الخارج ، لقد ضاقت بنا البلد الذى حققنا له النصر والإباء
….. وكيف كانت الأحوال
….. عشنا كمطاردين فى كل مكان ، فى كل بلد حططنا به عوملنا كمرض لا يرجى منه شفاء ، عدنا فوجدنا أرضنا تلفظنا أيضا ، لا مكان لنا هنا أوهناك
……. إذا أنتم أيضا دفعتم الثمن مرتين
…… نعم ولم نجنى سوى الغدر والحقد والشماتة والسراب
….. هل رأيت جزاء النصر الذى جنيناه !! الجرذان التى اختبأت لحظة المعركة زيفت كل شئ وأنقلب الأبطال خونة منهزمين
….. لكن قضيتنا كانت عادلة بلا مراء
….. القضية عادلة ولكن لا عدل يسكن القلوب ، أنظر إلىّ لقد فقدت كل شئ ، زوجتى وطفلنا الذى كانت تحتضنه بين أحشائها وقطعة من جسدى و أعز الرفاق
…. محسن عبد التواب.. لم يغب عن ذاكرتى أبدا مازلت أهتز كلما تذكرت إرتعاشة جسده الأخيرة ورأسه على صدرى ودمائه تدفق على التراب
…. لقد كان أسعدنا حظا دفع الثمن مرة واحدة ولم يعش ليرى زمن بطولة الجرذان
……..
تذكرت يوم عودتنا إلى القرية ، كان خبر وصول سيارة الجيش ببعض العائدين يزلزل القرية فيخرج الجميع مهرولين لمقابلة العائدين عند مدخل القرية ، باحثين عن أخبار الأولاد والأزواج
كنت عائدا أنا وضرغام ، ارتمينا فى أحضان أمهاتنا وهن يجهشن ببكاء الفرح بعودتنا ولمحت أم محسن عبد التواب وقد توقفت تنظر إلينا بنظرة ضارعة تسأل عن وحيدها ، نكسنا رؤوسنا وجاوبتها دموع من قلب حزين
ذهلت ورفعت يديها كمن يتقى طعنة قاتله ثم هوت بهما على خديها تلطمهما بعنف مروع وجنون
تندت عيناى بالدموع للذكرى التى لا تمحى وأطرقت إلى الأرض
انتبهت على صوت دقات منتظمة فرفعت رأسى كان يمضى مستندا على عكازه داقا الدرب الحجرى
أخذت أرنو إليه وهو يبتعد رويدا رويدا ……. حتى غيبته الأشجار العتيقة و الضباب