الدجاجة والبيضة .. والتاريخ ..!!
لأمرٍ ما خُلقنا أمةً مُفكّرة ..!!
كنت صغيراً وبالكاد بدّلتُ أسناني الأمامية ، بعد أن خلا الصف العلوي من السنّيْن القاطعيْن الأمامييْن ، وأصبحتُ مادةً لتندر الأب والأم والأخوة .. فأبي يسألني ضاحكاً كيف أكل الفأر أسنانك ؟؟ وأخي " اللئيم " الذي يصغرني بسنتين .. يطلب مني – شامتاً – أن أقول كلمة سلام كي ألفظها " ثلام " فيضحك مني .. لم يكن أبي يعاقبه لأنه الأصغر " آخر العنقود " .. كنت صغيراً وحينها سمعت أبي وأحد الضيوف الأعزاء عليه يتحدثان حول من أتى أولاً .. الدجاجة أم البيضة ؟؟!!
لفت انتباهي هذا الموضوع رغم صغر سني .. وأردت أن أسأل والدي أيهما جاء أولاً .. فتذكرت أنني ما زلت صغيراً على طرح أسئلة الكبار .. ولكن والدي شجعني حين رأى الدهشة البريئة فوق ملامحي والتي تفضح خشيتي من غضب الكبار لو مارستُ نوعاً من " الشذوذ " وتطاولتُ كي أتكلم في مواضيع الرجال .. فداعبني ضاحكاً فتجرأت وسألته بدوري فقال :
- أنا أقول أن الدجاجة جاءت أولا .. وعمو سالم يقول العكس ..
ومنذ ذلك التاريخ وأنا أسمع هذا الجدل العميق الآخذ بألباب أفراد الأمة المعطاءة المفكّرة .. أخذت أكبر ويكبر السؤال على الشفاه .. حتى أصبح جدليةً تحتاج استنهاض الأمة لقدح زناد الفكر .. ففي زمن الأتراك " العثمانيين " حدثني والدي أن جدي ( والده ) حدثه أن الرأي الغالب في تلك الأيام هو أن البيضة كانت أولا .. وفي زمن الانكليز " الانتداب " كان الرأي السائد أيضاً انه " في البدء كانت البيضة " .. ثم داهمت الأمة حرب عام 1948 م .. عام ( النكبة ) لتتغير المفاهيم وتصبح أن الدجاجة هي الأصل .. رغم ما ارتُكب من مجازر " شارونية " .. ومذابح " شتيرنية " .. ثم واكب الناس حرب 1956 " العدوان الثلاثي " .. فكان القسم الأعظم منهم يعتقد بل وكان بعضهم مستعداً لقتل أربعة رجال من أجل إثبات أن البيضة هي التي جاءت بالدجاجة إلى حيّز الوجود .. حيث كانت الدجاجة نسياً منسياً داخل " محٍ " أصفر .. لم أكن موجوداً أنا وقتها كي أفند هذا أو أؤيد ذاك .. وبعد انحسار كلِ نهرٍ من دمائنا .. وهدوء كل عاصفةٍ هوجاء تقتل أبرياءنا .. كان الناس ما زالوا مختلفين .. كثير من الأحياء الشعبية .. والالتفافات الحزبية شهدت شجاراتٍ عنيفةً لإثبات أحقية الدجاجة بالوجود الأول .. أو أهمية البيضة ككائنٍ بدأت منه الدجاجة خطواتها الأولى نحو " النقنقة " .. حتى أن بعض الأحزاب السياسية كادت أن تقر في نظمها الداخلية أحد الخيارين " نكايةً " بالأحزاب الأخرى .. وفي كل مرةٍ كان ينتصر فيها أحد الفريقين على الآخر .. ويقنعه " بالبطش " بأحد الخيارين .. كانت النساء تشرع بالزغاريد والزعيق دون أن يفهمن لماذا يزغردن .. ويبدأ الرجال بالهيجان .. وتنطلق من حناجرهم المتخمة صرخات " الله أكبر " ..
إحدى عشرة سنةً مرت كالسحاب .. بعدها اندلعت حرب عام 1967 م حيث ابتلع الاحتلال ما تبقى من " فلسطين التاريخية " .. قفز العرب عن أنهار دمائهم .. وتجاوزوا جثثهم الملقاة في شوارع " الشرف " .. وكان الأمر الأهم .. ماذا نسمي الهزيمة الجديدة ؟؟!! .. فقد ضاقت التسميات علينا لكثرة " انتصاراتنا " .. فاتفق العرب ( بالإجماع ) - ولأول مرة في تاريخ الجامعة العربية - على شيء .. وهو تسمية " زوبعة " عام 67 .. " بالنكسة " .. وقضي الأمر .. لكن الأمر الذي لم يُقضَ .. هو جدلية " الدجاجة والبيضة " .. فبعد ( 67 ) أصبحت الكفة تميل لصالح الدجاجة .. وأنا أكبر .. والسؤال يكبر معي .. وأدخل المتاهة تلو المتاهة ..!!
على الضفة الأخرى من العالم .. كانوا يفطرون على البيضة مسلوقةً .. ويتغدون على الدجاجة فرّوجاً شهياً .. وينسون الأمر .. ثم يفكرون بأشياء تافهة .. كالمخترعات .. .. وبرمجة الحاسوب .. والبحث عبر الغابات عن الأفاعي والتماسيح .. وأمورٍ أخرى لا تهمنا .. كغزو الفضاء .. والعولمة .. وطبقة الأوزون ..
تم اجتياح لبنان عام 1982 م .. وذبح " شارون ( صبرا ) .. وذبح " الكتائب " ( شاتيلا ) .. ولم يًقنع أي طرفٍ الطرف الآخر بإعطاء الأولوية للدجاجة أو للبيضة ..
واندلعت الإنتفاضة الأولى دون نتائج مُرضية عن تحديد من كان أولاً .. واُجهضت الانتفاضة الأولى ولا يزال الجدل دائراً .. وصافحنا اليهود في ( أوسلو ) قبل أن نثبت صحة أحد الأمرين .. واشتعلت السواعد السمراء غضباً في انتفاضة الأقصى " الثانية " .. دون نتيجة تريح الأمة فيما يتعلق بالدجاجة وبيضتها أو البيضة ودجاجتها .. وأنا أكبر .. ويكبر السؤال معي ..
بعد صدور كتاب " الأنثى هي الأصل " .. للدكتورة " نوال السعداوي " أقتنعت أن الدجاجة هي الأصل .. أليست أنثى ؟ ولكن جاء من يقول أن " نوال السعداوي " .... ( كافرة ) .. وملعونة .. ولا تأخذوا برأيها .. وصدقناهم ..
امرأةٌ كانت تجر بيدها طفلاً .. وتحمل في حضنها طفلاً .. وفي بطنها طفلاً .. كانت ترفع صوتها في وجه جارتها " ذات الرداء المبرقع " .. محاولةً إثبات صحة طرح زوجها بأن الدجاجة هي التي " خلّفت " البيضة وكتاكيتها .. وتكذيب طرح زوج الجارة المناقض ..
في برنامج ( الاتجاه المعاكس ) .. احتدم النواح حول الموضوع .. وأكثر من متصلٍ عبر الهاتف والانترنت أكدوا أن الخيار الأول أدق .. وأكثر من متصلٍ عبر الموبايل أكدوا العكس ..
أحدهم ويحمل شهادة دكتوراة فخرية من جامعة لويزيانا في ( أميركا اليونانية ) .. في التداوي بالحشيش رفض أن تكون البيضة هي أولاً .. وآخر يحمل شهادة الدكتوراة في علم النفس التربوي من إحدى جامعات ( الصين الهندية ) رفض التبرير السخيف للدكتور الأول ..
وما زلت أكبر وما زال السؤال يكبر معي ..
أظنكم تعتقدون أن السؤال الذي يكبر معي هو من جاء أولاً .. الدجاجة أم البيضة ..
لا يا أخوتي .. أنا بعيد عن هذا السؤال كثيراً .. ولكن الموضوع ولّد عندي السؤال الذي ما زال يكبر ويتضخم ويتعفن أكثر من مرة .. وهو :
كم نحتاج من الهزائم كي نثبت أحد الخيارين ؟؟!!
أحييكم بأحسن منها ..!!
23 / 12 / 2009