اقْتَرَبَ النَّهَارُ مِنْ مُنتصَفِهِ في يَومٍ صَيفيٍّ حَارٍّ يَكادُ لولا بَعضُ ظِلٍّ وَقَرٍّ مِن مُكَيِّفِ هَواءٍ لا يَستَقِرُّ أنْ يُوغِرَ صُدُورَ البَّشَرِ وَأنْ يَزيدَ فيهَا المَللَ والضَّجرَ. رَغم ذَلكَ كانَ طَابورُ المُرَاجِعين يَطُولُ بَدَلَ أنْ يَقصرَ وَالمعَامَلاتُ تَتَكدَّسُ على مَكتبَهِ يَنظُرُ إِليهَا شَزرًا وَقَهرًا حَتَّى إذَا بَلَغَ الصَّمْتُ مِنْهُ الحُلقُومَ صَرَخَ في المُرَاسِلِ الذِي يَنقلُ إِلَيهِ كُلَّ تِلك المُعَاملاتِ أَنْ كَفَى.

كانَ مُديرًا لِقِسمِ التَّوثِيقِ والتَّدوينِ وَكَانَ عَلَيهِ أنْ يُوَقِّعَ بِالاستلامِ عَلى كُلِّ مُعَاملةٍ تَصِلُّ مَقَرَّ الإدَارَةِ العَامَّةِ للمَشَاريعِ ثُمَّ تَحويلهَا للقِسْمِ المُخْتَصِّ. أَمْسَكَ قَلمَهُ يُوَقِّعُ عَلى المُعَاملاتِ مُتَذمِّرًا مِنْ كُلِّ مَا حَولهُ. لَمْ يَكُنْ يُرضِيهِ شَيءٌ ؛ هُوَ يَرَى أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ لا يُحِبُّ الرَّتَابةَ وَلا التِّكْرَارَ ، وَلا يَرضَى أنْ يَكونُ أَسِيرَ نِظَامٍ إِدَاريٍّ قَائِمٍ وَرَهِينَةَ عَمَلٍ رَتِيبٍ كَئِيبٍ. تَذَكَّرَ كَيفَ كَانَ يَتَذَمَّرُ مِنْ تَوجِيهَاتِ جَدِّهِ النَّاصِحَةِ بِأَمْرٍ أَو بِنَهْيٍ ، وَكَيف كَانَ يَمقتُ مُدَرِّسِ النَّحْوَ وَالقَوَاعِدِ ، وَكَيفَ كَانَ يَنْزَعجُ مِنْ التَّشَدُّدِ فِي الالتزَامِ بِمَواعِيدِ الحُضُورِ وَالانْصِرَافِ أَيَّامَ الدِّرَاسَةِ بَلْ وَحَتَّى هَذِهِ الأيَّام. كَانَ يُؤمِنُ بِالحُرِّيَةِ وَالانطْلاقِ وَالتَّحَرُّرِ مِنْ كُلِّ قَيدٍ وَالتِزَامٍ إِلا بِمَا يَقتَنعُ بِهِ رَأيُهُ ، فَفَلسَفَةُ الحَيَاةِ عِندًهُ أَنَّهَا لِلأحيَاءِ فَمَنْ سَبَقَ قَضَى وَمَنْ لَحقَ اقتَضَى وَمَنْ عَاشَ فَلَهُ مِنْ عَيشِهِ أَيَّامَهُ لا تَزَيدُ وَلا تَعُودُ.

انتَبَهَ فجْأَةً عَلى المُرَاسِلِ يَمُدُّ إِليهِ بِيَدٍ رَاجِفَةٍ وَرَقَةً وَاحِدَةً فَأَمسَكَها بِمَللٍ وَأَرسَلَ لَهَا بَصَرَهُ بِكَسَلٍ ، فَمَا لَبثَ إِلا قَليلا حَتَّى ارتَسَمتْ عَلى وَجهِهِ وَلأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنذ أيَّامٍ بَعْضُ مَلامِحِ انفِراجٍ أَدْنَى إِلى الابتِسَامِ. كَانَ خَبَرُ حُضُورِ الوَزيرِ وَلفِيفٍ مِنِ المَسؤُولينَ وَكِبَارِ الصَحَفِيينَ الحَفلَ السَّنَوِيِّ الذِي سَتُقِيمُهُ الإدَارَةُ فِي مَوعِدِهِ المُحدَّدِ بَعْدَ أسبُوعَينِ فُرصَةً رَآهَا سَانِحَةً لِيؤَكِّدَ للجَمِيعِ أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ وَأَنَّهُ يَستَحِقُ الفَوزَ بجَائِزَةِ التَمَيُّزِ في الأدَاءِ ، بل ويَستَحِقُ أَكثرُ مِنْ هَذَا المَنصبِ الذِي يَقْبَعُ فِيهِ ، وَأَهَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُثْبِتَ لِلمُدِيرِ العَامِ وَأَمَامَ الحَشْدِ الكَبِيرِ أنَّهُ أَفضَلُ بَذْلا وَأَكمَلُ عَقْلا مِنْ مُدِيرِ شُعْبَةِ التَّخطِيطِ وَالتَّطوِيرِ هَذَا الذِي يُدْنِيهِ مِنهُ وَيُقَرِّبهُ إِلَيهِ وَيَثِقُ بِهِ.

كَانَ الحُضُورُ كَبِيرًا وَقَدْ تَعَلَّقتِ الأنظَارُ بِالمُصطَفِّينَ خَلفَ المَنَصَّةِ مِنْ مُدَراءِ الأقْسَامِ لِيُقَدِّمَ كُلُّ مُدِيرٍ مِنْهُم تَقييمًا وَتَقوِيمًا لِخِطَّةِ قِسْمِهِ وحَصْرِ الإنْجَازاتِ وَمُناقَشةِ آلِيَّاتِ التَّدْبِيرِ وَالتَّطوِيرِ بِمَا يَتَّفِقُ وَالقَوَاعِدِ العَامَّةِ وَيرتَقِي بِالمُستَوَى شَكْلا وَمَضْمُونًا. شَعَرَ بِمَوجَةٍ مِنِ الرِّضَا تَجْتَاحُهُ وَهُوَ يَرَى جُلَّ العُيُونِ وَقَد اتجهَتْ صَوبَهُ تَرْمقُهُ بابتسَامَةٍ حَارَ فِي تَفسِيرِ مَعنَاهَا. لَقَدْ شَعَرَ حِينهَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْدَعُ نَفْسَهُ وَبِأَنَّهُ بِحَقٍّ جِدَّ مُختَلِفٍ ومُتَفَوِّقٍ عَنْ غَيرِهِ ، واقتَنَعَ بأَنَّهُ سَيكُونُ نَجْمَ الحَفلِ لا مَحَالَةَ خُصُوصًا بَعدَ أنْ يُلقِي كلِمَتهُ وَيُدْهِشُ الحَاضِرِينَ بِأسلُوبِهِ وَرُؤيَتِهِ.

تَوَالَتِ الكَلمَاتُ لا يُلقِي لَهَا بالا وقَدْ غَرِقَ فِي شُعُورِهِ العَارِمِ بِمُتعَةِ التَّمَيُّزِ مِنْ خِلالِ كُلِّ تِلكَ النَّظَراتِ التِي أَصَرَّتْ أَنْ تَمْنَحَهُ الجُزْءَ الأَكبرَ مِنْ التِفَاتَاهَا وَابتِسَامَاتِهَا. نَظَرَ حَولَهُ ثُمَّ إِلى زُمَلائِهِ المُديرِينَ فَسَخِرَ فِي نَفسِهِ منْهُم حَدَّ الرِّثَاءِ وَقَدْ لَبِسُوا الحُللَ الرَّسْمِيَّةِ يكَادُونَ يَخنِقُونَ أَنفسَهُم بِربطَاتِ العُنُقِ المُنْسَجِمَةِ مَعْ أَلوانِ الحُللِ بِرَتَابَةٍ وَتَقَارُبٍ يَكَادُ يُصِيبُهُ بِالغَثَيانِ. حَاولَ أَنْ يَستَمِعَ لبَعضِ مَا يَقُولونَ فَزَادَ فِيهِ مَا قَالُوا ذَلكِ الشُّعُورَ بِمَا أَبدوا مِنِ التزِامٍ بِالمَنهَجِ العَام وَأفكَارِ التَّطْوِيرِ المَنْهَجيِّ التَّقْليدِيَّةِ وَحَتَّى تِلكَ اللغَةِ المُستهلَكَةِ التِي يَستَخدِمُونَهَا فِي تَوضِيحِ مَا يَقْصدُونَ بِشِكْلٍ فَجٍّ وَمُبَاشِرٍ.

سَمِعَ كَأَنَّ المَجْدَ يُنَاديهِ حِينَ هَتَفَ مُقَدِّمُ الحَفلِ بِاسمِهِ فَتَقَدَّمَ لِلمنَصَّةِ وَالعُيُونُ لا زَالتْ تُطَارِدُهُ بِتلكَ الابتِسَامَةِ. تَلَعْثَمَ كَثيرًا يَبْحَثُ عَنْ لُغَةٍ جَدِيدَةٍ مُختَلِفَةٍ وَأَفكَارٍ مُخَالِفَةٍ حَتَّى استَطَاعَ أَخيرًا وَبِالكَادِ أنْ يُفهِمَ الحُضُورَ بِأَنَّهُ يَرفُضُ مَنْهَجَ التَّقلِيدِ وَاتِّبَاعِ الأُطُرِ وَأَنَّهُ يَقتَرحُ أنْ يَكونَ مِعيَارُ الأدَاءِ بِيَدِ المُوظَّفِ نَفسِهِ لِيرسُمَ بِهَذهِ الحُرِيَّةِ حَالةَ إِبْدَاعِيَّةً تَنْعَكِسُ إِيجَابًا عَلى الأَدَاءِ العَام لِلمَشَارِيعِ. صَمَتَ ينتَظِرُ هاَلةً مِنِ التَّصْفِيقِ فَهَالَهُ أنْ المُصَفِّقِينَ لَهُ كَانُوا قِلَّةً يجْلِسُونَ فِي آخِرِ القَاعَةِ يَلبسُونَ قُمْصَانًا قَصِيرَةَ الأَكمَامِ مَثلَمَا كَانَ يَلبسُ. التَفَتَ مضْطَربًا يَبحَثُ عنِ تِلكَ العُيُونِ التِي كَانتْ تَرمقُهُ بابتسَامَاتِهَا فَوَجَدَهَا قَدِ انقَلَبتْ عَنهُ وَعَنْهَا إِلى نَظَرَاتٍ جَادَّةٍ مُعجَبَةٍ وتَصفِيقٍ مُجَلجِلٍ لِمُدِيرِ التَّخْطيطِ وَالتَّطويرِ يتَسَلَّمُ الجَائِزةَ ويُجِيبُ علَى أَسئِلةٍ دَقِيقَةٍ للصَّحَفيينَ مُوَضِّحًا لَهُم أَهَميَّةَ الاتِّكَاءِ عَلى مَورُوثِ الوِزَارَةِ وَالالتِزَامِ بِأُطُرِهَا المُنَظِّمَةِ مَعْ إِيجَادِ حَالَةً مِنَ الوَعيِ العَام بِالوَاقِعِ لِتَطويرِ آليَّاتِ أَدَاءٍ نَاجِعَةٍ وَمُنسَجِمَةٍ مَعِ الأهدَافِ وَالتَّطَلعَاتِ دُونَ انقِلابٍ عَلى الذَّاتِ وَلا انكِفَاءٌ عَلى الإنْجَازَاتِ.

وَلأنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ يَومًا أنْ التَّمَيُّزَ الحَقِيقَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالاخْتِلافِ عَنِ الأَشبَاهِ لا الاخْتِلافِ مَعِ الأَشبَاهِ ثَارَ حَتَّى أَزبَدَ وَأَرعَدَ مُتَطَاوِلا عَلى صَاحِبِ الجَائِزَةِ فَمَا التَفَتَ إِليهِ أَحَدٌ سِوَى أَصحَابُ القمْصَانِ قَصِيرَةِ الأَكْمَامِ ، وَغَاظَهُ مِنهُ أَنَّهُ لا يَأْبَهُ بِهِ ، وَلَكِنْ غَاظَهُ مِنهُ أَكثَر تِلكَ الحُلَّةُ الرَّسمِيَّةُ التَّقلِيدِيَّةِ التِي زَادَتهُ وَسَامَةً وأَنَاقَةً وَهَيبَةً.

******