أحدث المشاركات

أمات العربُ؟» بقلم غلام الله بن صالح » آخر مشاركة: غلام الله بن صالح »»»»» مختارات في حب اليمن» بقلم محمد نعمان الحكيمي » آخر مشاركة: أسيل أحمد »»»»» نظرات في رِسَالَةٌ فِي الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَرَاءِ» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» برق الخاطر ... قسم جديد لأعضاء واحة الخير» بقلم د. سمير العمري » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الثعبان الأقرع يداهمني في المنام بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» بعض الحزن موت وبعضه ميلاد.» بقلم ناديه محمد الجابي » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» الغاية لا تبرر الوسيلة» بقلم جلال دشيشة » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» غار النصر في غزة» بقلم احمد المعطي » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» رواية قنابل الثقوب السوداء .. مسلسلة. التالي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» الموشحات الكشكية 1'2'3» بقلم محمد محمد أبو كشك » آخر مشاركة: محمد محمد أبو كشك »»»»»

النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: نصوص و قراءات مُمَيزة

  1. #1
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.76

    افتراضي نصوص و قراءات مُمَيزة

    بسم الله الرحمن الرحيم



    نفتتح هذا الموضوع ليتم فيه إدراج النصوص التي تتم قراءتها في موضوع نصوص في دائرة النقد ، وأية قراءات أخرى يستنسب السيد رئيس لجنة النقد ضمها إليها لتكون.

    هذه الصفحة ستكون مغلقة ولا تحتمل مشاركات وردود الأعضاء



    نصوص و قراءات مُمَيزة


    متصفّح يُمثّلُ مرجعاً لِمَنْ يرغب في الاطلاع على أحدث القراءات النقدية لنصوص روّاد "الواحة" الأكارم


    دمتم بألق

    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد الشحات محمد ; 28-02-2011 الساعة 09:37 AM

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.76

    افتراضي

    قراءة الأستاذ محمد الشحات محمد في قصيدة سحبان العموري
    "عتاب بين النفس و الجسد"




    تمهيد:

    •إذا كان الإنسان هو الكائن الحيّ المُفكّر ، فَمِنَ البديهيّ أن يكون هذا الإنسان عبارة عن جسد مادي محدود (كائن) ، و بوجود الروح (سر الحياة) يصبح هذا الجسد حياًّ قادراً على التكاثر و النمو و العيش و ..خلافه ،
    وحيثُ تلتقي الروح بالمادة (الجسد) تُوجدُ النفس (عقل التمييز) .. ،
    و لفظة "النفس" من الألفاظ المشتركة و المتعّددة المعاني .. ، فقد تُطلق على الجسد و الروح معاً بحكم توجيهها لهذا الجسد الحي ، و قد يُراد بها الروح فقط على سبيل المجاز .. ،
    و من هنا ، فإن روح سر الحياة لا علاقة لها بالاختيار و التوجية ، و إنما هي سرٌ في علم الغيب .. "ويسألونكَ عن الروحِ قلِ الروحُ من أمر ربي" .. أماّ النفس/روح عقل التمييز هي المسئولة عن ذلك التوجيه ، و يتوقف عملها عند النوم أو الممات ، و لذلك لم يذكر الموتُ مقروناً بالروح ، و إنما قُرن بالنفس .. "كل نفسِ ذائقة الموت" ..
    و باختلاف تعامل النفس/روح عقل التميز مع المسئولية عماَّ يدور في الكون و المعرفة و السلوك تختلف نوعية هذه النفس (أمارة بالسوء ، لوَّامة ، مطمئنة ، راضية ، مرضية) ،
    إذن نحن أمام ثلاثية مكونات الإنسان (روح ، جسد ، نفس) ، و إذا كانت الروح تؤدي دورها كسرٍّ للحياة ، فما دورالجسد (الوعاء المادي) و نفس عقل التميز؟ و ما دور الإنسان (بثلاثية مكوناته) لكي يحيا حياةً كريمة؟
    في محاولة لاكتشاف النفس –لا اكتشاف الروح- و إعادة هيكلة الجسد و تشخيص دوره كانت هذه الحوارية في قصيدة "عتاب بين النفس و الجسد" للصديق الشاعر سحبان العموري

    النص :

    ما بي قِوى يا نفسُ فيكِ أحـارُ
    تَقْفينَ سـراً مـا حَوَتـهُ ديـارُ

    لا تُكثري لوماً مقامِعُـهُ بَـرَتْ
    عَظْميْ وقلبيْ جَرَّحَتْـهُ شِفـارُ

    ما عُدتُ أقوى مَشيـة ً لِمَـداركٍ
    عَظُمَتْ و منها باللسانِ ِ مَـرارُ

    إنَّيْ أنا الكهفُ الذي سَكَنتْ بـه
    أحلامُ أهلِ الأرض ِ حيـنَ تُثـارُ

    حُمِّلتُ أوزاراً و لَسْـتُ بقـادر ٍ
    يا نفسُ حَملاً منكِ كـان قـرارُ

    ما كان ذنبـيْ أننـي مُتَهالـكٌ
    فكذا خُلِقتُ مـن التـرابِ أغـارُ

    إن شِئتِني قفصاً أكُنْ بجوارحـي
    أو شِئتِنـي فرسـاً فمنـكِ أ ُدارُ

    إنَّا بنوا الأجسادِ ما عَسَفَتْ بنـا
    إلا حُلومُ بني النفـوس ِ كِبـارُ

    كُفَّ النواحَ أيا قيـودَ مطامحـي
    يا سجنيَ المقدورَ فيـكَ أُُضـارُ

    أقفلتَ باباً دونَ جيشِ ِ مآربـي
    همْ طوعُ عزميْ إنما بكَ خـاروا

    فإذا عَزَمْتُ مَسَكتني و إذا قَنِـع
    تُ أهنتنـي بالله كيـفَ خيَـارُ

    أهوى مُضيّاً لا تُطيـقُ مِراسَـهُ
    قد ضِقتَ ذرعاً والهمومُ صِغـارُ

    قد كُنتَ يوماً في طريق ِ مباذلي
    واليومَ قد خـانَ الزِّنـادَ شـرارُ

    لا و الذي سَمَكَ السما وأقامهـا
    ما عادَ يُرضى في حِماكَ إسـارُ

    أمسكتَ خيلَ الفكرِ غِلتَ لِجامَها
    و إذا مَضيقُكَ قد جَفـاهُ مَـزارُ

    هذا أنا لا مـا تظـنُّّّ بمَخبَـري
    نفسٌ أبت عند الخنـوع ِ تُجـارُ

    أنتِ الأُخيَّـة ُ لا يُـرامُ فراقُهـا
    إنسان ُ نحنُ إذِ السنونُ قِصـارُ

    ما كُنتُ بالباقيْ بِـلاكِ براحـةٍ
    يا نفـسُ أدوارُ الحيـاةِ سِفـارُ

    فلنمش ِ دربَ العُمرِ في صِلَةٍ كما
    خُذِفَت على أيدي الحجيج ِ جِمارُ

    إن كلَّ صبري تُسعدي بمُصابَـه
    وإذا عَزَمتِ أنـا لقَدحِـكِ نـارُ

    فكذلك الإنسـانُ عاصَـرَ وقْتَـه
    كَسْراً و جبـراً والرجـاء دِثـارُ


    •النص بناء كلّي متشابك رغم أنه يتكون من أربعة مقاطع ، وكلُّ مقطع بصوتٍ مختلف لكنه مُمْتزجٌ بِبنية إيقاعية ضمن مكونات البناء الشعري للتعبير عن حالة المتكلّم و الدلالة على التوافق و طبيعة التجربة الشعرية .. ،
    في المقطع الأول يأتي صوتُ الجسد مُتقّطعاً بعد عنفوان ، و كأنه يتلمس تبرير أخطائه بتوجيهات النفس و إدارتها له (منكِ كان قرارُ/منكِ أُدارُ) و يُحاولُ توكيد ذلك بنسب العسف الذي طاله و طال كل "بني الأجساد" إلى تعدّيات طموحات "بني النفس"
    (إناّ بني الأجساد ما عسفت بنا .. إلاّ حلوم بني النفوس كبار)
    و في هذا المقطع يُبَيّنُ الجسد أنّ النفس إذْ تلومه على أنه سبب هلاكها و تُكثر من اللوم "لوّامة" ، فإنما كان الأجدرُ بها أن تٌقرَّ بكونها "أمارة بالسوء" ، و إن كان الجسدُ لا يُنكر دوره في تشجيع النفس ، و أقرُّ ضمنياًّ أنه بإمكانه نهيها عن هذا السوء ، كما هو قادرٌ على نهيها عن لومها له "لا تُكثري لوماً"!

    صوت الجسد:-


    ما بي قِوى يا نفسُ فيكِ أحـارُ
    تَقْفينَ سـراً مـا حَوَتـهُ ديـارُ
    لا تُكثري لوماً مقامِعُـهُ بَـرَتْ
    عَظْميْ وقلبيْ جَرَّحَتْـهُ شِفـارُ
    ما عُدتُ أقوى مَشيـة ً لِمَـداركٍ
    عَظُمَتْ و منها باللسانِ ِ مَـرارُ
    إنَّيْ أنا الكهفُ الذي سَكَنتْ بـه
    أحلامُ أهلِ الأرض ِ حيـنَ تُثـارُ
    حُمِّلتُ أوزاراً و لَسْـتُ بقـادر ٍ
    يا نفسُ حَملاً منكِ كـان قـرارُ
    ما كان ذنبـيْ أننـي مُتَهالـكٌ
    فكذا خُلِقتُ مـن التـرابِ أغـارُ
    إن شِئتِني قفصاً أكُنْ بجوارحـي
    أو شِئتِنـي فرسـاً فمنـكِ أ ُدارُ
    إنَّا بنوا الأجسادِ ما عَسَفَتْ بنـا
    إلا حُلومُ بني النفـوس ِ كِبـارُ


    و في المقطع الثاني يردُّ صوتُ النفس مُتحفّزاً و مُفنّداً ما انتهى إليه الجسد و ناهياً عن هذه التبريرات التي تجعل من الجسد و كأنه يبدو ضعيفاً و تابعاً مُطيعاً للنفس ، فهذا الجسد حالة ضعفه كان يُمثّل العائق أمام تنفيذ ما تطمح له النفس من أعمال خيرٍ كبيرة و فتوحات لإعمار الأرض ، و ضعفُ الجسد في هذه الحالة كان بمثابة قوة ضاغطة على النفس تمنعها من تحقيق مطالبها في الخير ، كما إنّ للجسدِ مناطق قوته التي يستطيع بها مقاومة أمر النفس بالسوء ، فيقمع طموحاتها في هذا الشأن ، و تؤكّد النفس أنّ الجسد بإمكانه أن يكون سجناً لهوى النفس كما كان سجناً لتوجهات الخير ، و للجسد عندئذٍ صلاحية أن يكون حامياً للنفس ، و ليس تابعاً لهلاكها ، بينما هو غير أمينٍ عليها ، و في حالة قيامه بأداء أمانة حمايتها ستصير النفس نفساً "مطمئنة" ، و لأنها ترنو للاطمئنان فقد أتى الاستفهام مقروناً بالقسم في صوت النفس "بالله كيف خيار؟" ، و يليه القسم مقروناً بنفي رضا النفس عن وجودها في حماية الجسد إن ظلّ على سلبيته مُختلقاً التبريرات لقيده لها إذا عزمت على الخير "لا .. و الذي سمك السما و أقامها .. ما عاد يُرضي في حماك إسارُ" ، و القسم يؤكّد أنها "راضية" بما قدّر لها الله –الذي تُقسمُ به- ، و ترجو مساعدة الجسد لها في تنفيذ ما أمر به شرع الله حتى تصل -برضا الله عنها- إلى أعلى درجة من درجات النفس لتكون عندئذٍ "مرْضية" بالعفو حيث لا يخيبُ الرجاء،
    و لا تغفل النفسُ دورها في توجيه الجسد ، فهي إنّما تأخذ من لوم الجسد شكلاً تقومُ بتوجيهه إلى الطريقة التي ينبغي أن يتعامل بها معها ، و التي تتلخصُ في التهذيب لا التعذيب
    و بتنوّع الأسلوب في هذا المقطع ما بين إنشائي وخبري ، و الاستفهام الداعي للعقلانية و العدل ، ثمّ القسم في "بالله" و "و الذي سمك السما" ، و كذلك الربط بين الماضي و الحاضر (قد كنتَ يوماً/ و اليوم ) ، بذلك كلّه يتوقف الجسد منتبهاً ، و خصوصاً عندما هدّدته النفس بأنها لن ترضى بوجودها معه إن ظلّ على هذه الحالة

    رد النفس:-

    كُفَّ النواحَ أيا قيـودَ مطامحـي
    يا سجنيَ المقدورَ فيـكَ أُُضـارُ
    أقفلتَ باباً دونَ جيشِ ِ مآربـي
    همْ طوعُ عزميْ إنما بكَ خـاروا
    فإذا عَزَمْتُ مَسَكتني و إذا قَنِـع
    تُ أهنتنـي بالله كيـفَ خيَـارُ
    أهوى مُضيّاً لا تُطيـقُ مِراسَـهُ
    قد ضِقتَ ذرعاً والهمومُ صِغـارُ
    قد كُنتَ يوماً في طريق ِ مباذلي
    واليومَ قد خـانَ الزِّنـادَ شـرارُ
    لا و الذي سَمَكَ السما وأقامهـا
    ما عادَ يُرضى في حِماكَ إسـارُ
    أمسكتَ خيلَ الفكرِ غِلتَ لِجامَها
    و إذا مَضيقُكَ قد جَفـاهُ مَـزارُ
    هذا أنا لا مـا تظـنُّّّ بمَخبَـري
    نفسٌ أبت عند الخنـوع ِ تُجـارُ


    فيسارع صوتُ الجسد مُستنجداً بصوت الروح (سر الحياة) للعودة بهدوء في المقطع الثالث بعد أن تفهّما ما جبُلت عليه النفس الموجودة بطبيعةالحال نتيجةً لالتقاء المادة (الجسد) بالروح ، و بعد أن استطاعت "نفس التميز" أن تُذكّرهما بأنّ غياب النفس يعني خروج الروح و يُصبح الجسدُ جثّةً هامدة ، و مِنْ ثَمَّ فلا غِنى عنْ أي الأطراف الثلاثة ، و ما ينبغي إلاّ التعاون للأخذ بالأمر الشرعي إذْ لا دخل للأطراف بالأمر القدريّ ، و الذي تُمثّله في هذه الحوارية الروح باعتبارها سرّ الحياة ، و هذا ما قدّره اللهُ لها ، و بالتالي تتحوّل جلْسة إلقاء التهم و التبريرات بين الجسد و النفس إلى جلسة عتاب و حماية لكليهما ، و بقبول من الطرفين لحضور الروح الودّي و المُقدّر تواجدها لاستمرار الحياة ، و احتواء الأزمة بين النفس و الجسد ليتّفق كلاًّ منهما على القيام بدوره الشرعيّ .. ، فالروحُ تبدأُ بتهدئة النفس كونها الأخت التي لا يُرام فراقها ، لأن الإنسان لا يكون له وجود إلاّ باجتماع ثلاثيته (روح ،جسد ، نفس) ، و يؤكّد الجسد أنه بغير أخته "النفس" لن يكون براحة ، و يقرّ بأن الحياة عبارة عن رحْلات دوّارة مابين الخير و الشرِّ ، ثمّ تُذكّر الروح بأنه لا غنى عن الجسد في الخير كذلك ، و تستشهدُ بوضع الجمار بين إصبعي اليد (السبابة و الإبهام) لترميها هذه اليد بسرعة لرجم الشيطان ، و رمي الجمرات من شعائر الحجّ ، و إذا كانت اليدُ جزءاً بسيطاً من الجسد ، فإن لها أهمية قصوى في تنفيذ الركن الخامس من أركان الإسلام ،وهو الحج الذي يعود الإنسان بعد تأديته لرحلة هذا الركن كيومٍ ولدَته أمّه ، و يُواصل الجسد عزمه على التطهّر ، فهو يحمي النفس بعدم طاعته لأهوائها ، و إنما بتشجيعها على ما يتوافق و الخير ، و كذلك تحمي النفس الجسد بما لها من قدرة على التمييز بين الخبيث و الطيب ، فتلتزم بالطيّب حتى و إن كان الجسدُ تُغريه تبريراته الشكلية أو العضلية لأن يقوم بالسوء ، و على النفس أنْ تُوجّه الجسد إلى هذا الطيّب ،
    و بينما يتبادلُ الجسد والروح أطراف الحديث إلى النفس تستمعُ تلك النفس و تعقل أنه بهذا التفاعل الجهادي يكون ميثاق التواصل رمزاً للمصالحة حتى تمضي الحياة بطقوسها المُقدّرة سلفاً للإنسان

    صوتا الجسد و روح سرّ الحياة :-

    الروح (سر الحياة) :-

    أنتِ الأُخيَّـة ُ لا يُـرامُ فراقُهـا
    إنسان ُ نحنُ إذِ السنونُ قِصـارُ
    الجسد:-

    ما كُنتُ بالباقيْ بِـلاكِ براحـةٍ
    يا نفـسُ أدوارُ الحيـاةِ سِفـارُ
    الروح:-

    فلنمش ِ دربَ العُمرِ في صِلَةٍ كما
    خُذِفَت على أيدي الحجيج ِ جِمارُ
    الجسد:-

    إن كلَّ صبري تُسعدي بمُصابَـه
    وإذا عَزَمتِ أنـا لقَدحِـكِ نـارُ


    * وقد يقول قائل إنّ المقطع الثالث كان على لسان الجسد فقط ، أقولُ : ولِمَ لا يكون للروح صوتٌ ، و بما يجعلُ لصوت الجسد أهمية إذْ وجود الصوتين معاً يؤكّد حياة هذا الجسد؟ و لم لا تكون نظرةً مُغايرةً لا يرفضها النصُّ حتى لو لم يقصدها مؤلّف النص؟
    و قد يقولُ آخر: فلماذا إذن هنا غاب صوت النفس؟ أقول: و منْ قال أن النفس هنا غابت أو غاب صوتها؟ ، ألم توجد النفس بالتقاء الجسد والروح؟ و هاهما هنا .. ، و بالتالي فوجود النفس في هذا المقطع وجودٌ طبيعي ، و أماَّ عن صوت هذه النفس ، فهو موجودٌ بوجود النفس ، و ما ظهور صوتي الجسد والروح إلاّ مُنطلقاً من إيمان النفس بهذين الصوتين و التأمين عليهما ، فكأنهما قالا ما يُرضي النفس .. أليست النفس هي ما تسمع و تعي و منها روح العقل و التميز؟

    و هنا يأتي صوتُ النفس نيابةً عن الإنسان (روح ، جسد ، نفس) في المقطع/الصوت الرابع لإعلان هذه المُصالحة بين النفس (روح سر الحياة ، روح عقل التميّز) و الجسد على أن يلتزم كلا طرفي المُصالحة بالتعاون مع الآخر دون تجاوزٍ ، و إنْ حدث هذا التجاوز العيب من أحدهما ، فعلى الطرفين العمل على تصحيح المسار و جبر الكسر أملاً في الرحمة الكبرى ، و بذلك يكون الرجاءُ غطاءً و ستراً لكل عيب (فكذلك الإنسان عاصرَ وقته .. كسراً و جبْراً ، و الرجاء دثارُ)

    صوتُ النفس نيابةً عن الإنسان :-

    فكذلك الإنسـانُ عاصَـرَ وقْتَـه
    كَسْراً و جبـراً والرجـاء دِثـارُ


    و بهذه الذروة في الدراما التصاعدية داخل النص ، و اضطراد النفس الشعري به يُوفّقُ الشاعر في الوصول إلى خاتمة للنص الشعري تتوافق مع الخاتمة المطلوبة في نص الحياة


    ** موسيقى النص

    الموسيقى هي المظهر المحسوس لبنية القصيدة و حركتها بما يُتيحُ إمكانية التعبير عن أدقّ المشاعر و أعمق الأفكار و أوسع الدلالات .. ، و تنقسم الموسيقى إلى ظاهرية و أخرى داخلية ..
    فأماّ الظاهرة في قصيدة "عتاب بين النفس و الجسد" تتحدّد بالتزام مبدع النص "سحبان العموري" بالشكل العمودي للقصيدة و توظيفه لثاني البحر الكامل التام بوزنه التقليدي الموروث لتفجير دلالة عميقة موحية من خلال هذا الإطار التعبيري ، كما يلتزم بحرف الراء المردوفة المضمومة رَوياًّ بما تختصّ الراء بالتطريبِ و أماّ حركة رفعها تتوافع مع سمو و رفعة الإنسان ، و هكذا فإن الرؤية الشعرية هي التي خلقت القافية ، و يعتمد الشاعر في دفقته الشعرية على البناء الدرامي المتنامي عبر المقاطع ، مِماَّ يجعل النصّ أكثر تماسكاً وتآلفاً ، و تتواصل رؤية الشاعر حتى تصل إلى النتيجة الحتمية للعتاب بين النفس و الجسد ، و هي المصالحة تهذيباً لا تعذيبا
    و أماَّ عن الإيقاع الداخلي ببنيته الصوتية واللغوية لابدّ له أن يتوافق مع السياق العام للمعاني ، و هذا ما حفلت به قصيدة "عتاب بين النفس و الجسد" ، و على سبيل المثال لا الحصر:-
    - الاستفادة من الامتداد الزمني لحروف المد مثل ألف المد التي تسبق راء الرويّ ،و الواو في سنون/خنوع/هموم/قيود
    - الاستفادة بالتكرار للألفاظ و الجمل مثل تكرار لفظة "شئتني" ، "يا نفس" ، "النفوس" ، وكذلك تكرار التوكيد مع الإيقاع الداخلي في جملتي "قد ضقتَ ذرعاً" و "قد كنتَ يوماً" ، و تتكرر أدوات النداء "يانفس" ، "أيا قيود" للتنبيه و لفت النظر ، كما يتكرر معنى العبارتين "ما بي قُوى" و "ما عدْتُ أقوى" لتوكيد اعتراف الجسد بالضعف حتى وإن كان –وهماً- ذات يومٍ قوياًّ!
    - الاستفادة من تكرار أصوات الحروف مثل صوت حرف النون سواء كان الحرف مكتوباً أو عبارة عن التنوين (الإنسان ، كسراً ، جبراً ، نحن ، السنون ، يوماً ، مُضياًّ ، حملاً ، أوزاراً ، اللسان) ، و كذلك الاستفادة بالهمس في صوت السين مثل نفس/سنون/الإنسان/كسراً/سفار/تُسعدي/سمك السما
    - تجاور الحروف بما هو أقرب للجناس بين الكلمات مثل "عظمي"/"عَظُمَتْ" ، "عزمتُ"/عزمتِ و كذلك بين "بنوا/ بني" و "بنا"
    - تماثل الجمل أو التوازي الإيقاعي بين الجمل مثل "إن شئتني قفصاً" و "أو شئتني فرساً" ، و في هاتين الجملتين الشرطيتين يتكرّر الفعل "شئتني" بما يؤكّد توجيه النفس للجسد حسبما تشاء ، و كذلك ففيها من التوازي الإيقاعي ما يشدّ الأذن و يزيد من التأثير ، و من الهندسة الإيقاعية فيها نجد الترصيع حيثُ التوافق الوزني و القوافي الداخلية
    - الترصيع كما هو بين جملة "فإذا عزمتُ مسكتني" و جملة "وإذا قنعتُ أهنتني" ، و كذلك التصريع في أول بيت من القصيدة


    ** الترميز و الصور:

    يظلُّ الشعرُ لغة الترميز و التصوير ، و في قصيدة العموري "عتاب بي النفس و الجسد" تأتي الصورة الكلّية طيّعة دون تكلّف أو اصطناع ، فها هو يُشخّص الجسد و النفس ، و يؤكّد أنّ لهما صوت حتى تكون تلك الحوارية الشعرية إذْ يقول :"إننا بنوا الأجساد" ثم يقول "ما عسفت بنا إلاّ حلومُ بني النفوس" ، و من الصور الجزئية الاستعارة في قول الشاعر "خان الزناد شرار" و الكناية في حكمة قوله "أدوار الحياة سفار" ، و كذلك تتوالى الصور الجزئية مثل "جيشُ مآربي" ، "خيل الفكر" ، و المقابلة بين "إن شئتني قفصاً" و "أو شئتني فرساً" ، و القفص هنا كناية عن الضيق و قلّة الطموح ، بينما الفرس كناية عن الجموح والانطلاق ، و كذلك تشبيه الجسد بالكهف ، و في تشبيه الصلة و التعاون بين الجسد و النفس بالصلة بين المادي (الأيدي و الجمار) و الروحي (الإيمان ورمي الشيطان) في رحلة الحج ، و استدعاء تلك الرحلة بصفتها أعلى درجة يرجوها الإنسان إذا كان الج مبروراً ، فسيعود الإنسان طاهراً من ذنوبه و هنا توكيد على أن الأمل قائم في رحمة الله .. ، و يعدُّ البيت الذي يقول فيه العمري :
    "فلنمش دربَ العمر في صلة كما ... خُذفتْ على أيدي الحجيج جمارُ"
    هو بيتُ القصيد ، و يتنافس مع البيت الحكمة في خاتمة النص حيثُ يقول:
    "فكذلك الإسان عاصر وقته .. كسراً و جبراً و الرجاء دثارُ"


    ** الكلمة الشاعرة:

    الكلمة الشاعرة تنبثق من الفكر و الوجدان ، و في الانتقال من موقف شعوري لآخر تنصهر الغايات في الوهج الأكثر وضوحاً ، و تتبادل الكلمات الشاعرة التناغم و الانسجام ، و قد بيّنت قصيدة "عتاب بين النفس و الجسد" حرَفية شاعرنا "سحبان العموري" في اختيار المفردات و الكلمة الشاعرة و كيفية توظيفها ببناءٍ دلاليٍّ يتوافق مع السياق العام ، و مثالٌ على ذلك فعل "حُمّلتُ" مبني للمجهول لغموض من يُحمّل الجسد أوزاراً ، و كذلك في البيت الأخير فعل "عاصر" جاء ماضياً رغم أن السياق الطبيعي أن يكون مُضارعاً لأن الإنسان يُعاصرُ وقته ، ولكنّ الشاعر أتى به ماضياً لإقراره بأنه مُقدّرٌ سلفاً في علم الغيب ، و ذلك توكيد على الإيمان بالغيب
    و إذا كان الجسد يُريد توضيح ما اختصّ به "إني أنا الكهف" ، فكذلك تُبيّن النفس ما تتميز به أيضاً "هذا أنا .. نفسٌ أبت عند الخنوع تُجار"
    و حول اختيار الجمع لكلمة الُحلم برفع الحاء و تسكين أو رفع اللام بمعنى ما يراه النائم و يبغي تفسيره و تحقيقه يأتي الجمع مرةً بكلمة أحلام و مرةً أخرى بكلمة حُلوم ، و في الأولى أراد الشاعر كل أنواع الأحلام خيرها وشرها ، بينما في الثانية أراد أن تكون لجمع الأحلام التي تكون سبباً في العسف بالأجساد ..!
    و في عبارة "والذي سمك السما" لم تُحذف همزة السماء للوزن الشعري ، و إنما لتوافق السرعة مع اقتصار الشعراء و أهمية الحدث ، كما تأتي كلمة "كبارُ" مرفوعة في عبارة "حلوم بني النفوس كبار" ، و كأنّ لفظة كبار هنا صفة للحلوم على اعتبار أن تركيب الجملة هو "حلومٌ كبار من بني النفوس" ، و كذلك يُمكن أن تكون لفظة "كبار" مرفوعة على أنها فاعل باعتبار الجملة ما عسف بنا إلاّ أن يحلم كبارُ النفوس" ، أو "ما عسف بنا إلاَّ أن حلمت كبار النفوس" ، و لا يُمكن أن تكون لفظة "كبار" صفةً لبني النفوس حيث أن بني النفوس مُعرفة ، و لفظة كبار نكرة
    و هكذا تتعانق الكلمة الشاعرة مع الإيقاع البارز المُتمثل في اختيار البحر و القافية المُوحدة و الإيقاعات الداخلية لتشكيل فسحة داعمة لإيقاع القصيدة كَكُلّ بتوظيفٍ واعٍ لما لها من تأثير .

    ** تحية إلى الصديق الشاعر "سحبان العموري" ، و لرائعته الفلسفية "عتاب بين النفس و الجسد"


  3. #3
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة الأستاذة ربيحة الرفاعي لقصيدة الشاعر د. سمير العُمري

    "كفّ و إزميل"





    لست بناقدة ولا أنا ممن يجيدون النقد أو يعرفون حتى مصطلحاته، ولكني حين أقرأ الشعر أحسه وأعيشه وأغرق في قيعان معانيه لأتأمل من جماله، وبهذا الذي أمارس وجدتني هنا أمام قصيدة بهرني تفوقها، فكأنها أم القصائد التي قرأت منذ وعيت بهذا الجمع بين دفتيها لكل ما قرأته وما أعرفه عن ألق الشعر عبر عصوره منذ الشعر الجاهلي وصولا الى اللمسة الحداثية الملتزمة التي لا تعريه من عذوبة موسيقاه وأناقة خطوه على صفحة البحور الفراهيدية، بتفوق غير عادي وشاعرية جمعت كل أغراض الشعر العربي في قصيدة واحدة وبانسيابية غير معقولة، فقلت نقرأها معا ونتأمل هذا الجمال بروح الشاعر وحس الانسان بعيدا عن تعقيدات النقد التي نتركها لأهلها.

    قصيدة من كل العصور
    أزعم أني قرأت هنا زخما من جماليات الشعر في كل حرف وفي كل كلمة وفي كل تركيب، وكأنما تعمد الشاعر تضمينها ألقا يشهد بقدرته أو يحكي إمكاناته، فأودق الغزل وشعر الوجدان والفخر والهجاء والمديح والرثاء والدعاء ، وهطل بحالة فريدة في الشعر العربي في قصيدة يفوح منها عبق كل أزمنة الشعر العربي لفظا وتركيبا وصورا فأنت تحس بروح الشعر الجاهلي في بناء القصيدة ومعناها، حيث تتألق حكمة زهير بن أبي سلمى وصور امرئ القيس وسلاسة طرفة وسهولة انسياب معانيه وجمالية استهلال المعلقات تتجلى في جرس القصيدة متناغما مع مشهدها الافتتاحي، حيث يرتفع الستار عن الحبيبة موضوعا تدور في فلكه بواكير بوح الشاعر كما كانت الأطلال أو الحبيبة مشهدا افتتاحيا لشعراء فرشوا لنا درب القصيد قلائد متلألئة
    أُفَـتِّـشُ الـشُّـهْـبَ عَـنْـهَا وَهْيَ غَـائِـبَـة = وَأَفْـرشُ القَلْـبَ مِنْـهَـا وَهْــيَ تَــأوِي لِــي

    وتقرأ هنا ما يحاكي بل ويباري بهجائيته شعراء العصر الأموي ولربما بز جريرا والفرزدق في ذلك إذ تراه يمعن في مهجوه تقريعا دون أن يسقط في سفاسف، أو ينسب إليه شتم مباشر
    أَطُاعِنُ الدَّهْرَ عَنْهُمْ كُلَّ نَابِيَةٍ = فَيَطْعَن القَومُ فِي فِعْلِي وَفِي قِيلِي
    يَعِيبُ فِيَّ الحَسُودُ القَدْرَ مُمْتَعِضًا = كَمَا يَعِيبُ قَصِيرٌ فَارِعَ الطُّولِ

    والفخر المستتر
    هَـذَا الـزَّمَـانُ الــذِي يَشْـقَـى النَّبِـيـلُ بِـهِ = بِـالـطَّيِّـبَـاتِ وَيَـهْـنَـا ذُو الـعَـقَــابِـيلِ
    أَكُـلَّمَـا غَـاظَ حُـسَّـادِي جَـنَـى رُطَـبِـي =رَمَــوا نَـخِـيـلِــي بِـتَـسْـفِيهٍ وَتَـسْـفِيـلِ


    وتكاد تقرأ هنا العصر العباسي في رقة غزل أبي العتاهية وحكمتة وموعظتة ، وعقلانية أبي تمام ،وجزالة لفظ البحتري التي جمعت الفصاحة والسلاسة .
    يَـا لَهْفَـةَ الـرُّوحِ طِـيـرِي حَيثُـمَـا رَحَـلَـتْ = فَـإِنْ بَلَغْـتِ مَـدَارَ الصَّفْـوِ فَاحْـكِـي لِــي
    يَـا حَـبَّذَا سَـاعَةٌ أَغْـفُـو عَـلَـى يَـدِهَـا = وَالـرُّوحُ مَا بَينَ تَـدْلِـيــهٍ وَتَـدْلِـيـلِ
    مُـرِّي عَلَـى خَاطِـرِي مَـرَّ النَّسِيمِ عَلَى =خَـدِّ الأَصِيلِ وَعُفْرَاتِ الـرَّآبِـيـلِ

    ****
    هَـابِـيــلُ مَـاتَ وَلَـمْ يَــمْــدُدْ يَــدًا لأَخٍ = بِالسُّـوءِ لَــكِنَّنَا أَبْـنَاءُ قَــابِـيلِ
    وَقَـــدْ عَـلِـمْـتَ بِـــأَنَّ الـعِــرْقَ نَـسْــلُ أَبٍ = فَكَيـفَ تَـأْمَـلُ مِنْـهُـمْ يَــا ابْــنَ مَقْـتُـولِ؟

    ****
    عَــمَّ الـبَّـلاءُ فَـمَـا أَبْـقَـى الـمَــدَى سُـبُــلا = لِـلـعَـارِفِــيــنَ وَمَــا أَلْقَى بِمَدْلُولِ
    تَـقُــودُنَــا أُمْـنِـيَـاتُ الـعَـجْــزِ شَــاحِـبَةً = إِلَـى غَدٍ خَـائِرِ الأَنْفَاسِ مَـجْـهُـولِ


    وانظروا إلى هذا البيت الذي لا يقوله إلا من عاش في زمن زهير وامرئ القيس ..
    مَـنْ يَنْشُـدُ الظَفْـرَ فِـي عَـرْجَـاءَ مُقْعِـيَـةٍ= وَيُنْشِبُ الظُفَـرَ فِـي النُّجْـبِ المَرَاسِيـلِ؟

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيوفيها بساطة ووضوح الشعر الأندلسي وبعدها عن التعقيد والمحافظة على رقة وعذوبة الألفاظ والعبارات دون تفريط بالصنعة اللفظية فكأنك تقرأ بشار بن برد
    مَـاذَا جَنَيـتُ مِــن التَّحْلِـيـقِ فِــي لُغَـتِـي = غَـيـرَ الجِنَـايَـةِ مِــنْ هِـطْــلٍ وَمَـطْـلُـولِ؟
    يَنْسَـاقُ بِالحَـمْـدِ عُجْـبًـا كُــلُّ ذِي بَـطَـرٍ = وَيَشْـتَـرِي الـمَـدْحُ بَخْـسًـا كُــلَّ مَـخْـتُـولِ


    بل وفيها تشكيل من مدارس العصر الحديث كلها
    من صور شعرية مبتكرة
    مُرِّي عَلَى خَاطِرِي مَرَّ النَّسِيمِ عَلَى =خَدِّ الأَصِيلِ وَعُفْرَاتِ الرَّآبِيلِ

    وانزياحات رشيقة غير مجحفة بمعنى المفردة
    حَتَّامَ أَعصرُ أَيامِي مُكَابدَةً = وَأَحْتَسِيهَا بِتَسْوِيفٍ وَتَسْوِيلِ؟
    لمن أغني؟ فَرَاشَاتُ المُنَى احْتَرَقَتْ = وَحَطَّمَ اللَيلُ أَنْوَارِي وَقِنْدِيلِي


    ومع أن شاعرنا ليس حداثيا بالمعنى المتداول للمصطلح، غير أنه رائد تحديث مثابر وحريص في الوقت ذاته على الأطر التي تحمي الشعر من الخروج على جنسه وأصوله ونكهته المحببة على مر العصور، ومن هنا جاءت هذه المعلقة زاخرة بالإبهار والابتكار تأتلق بانزياحات وتقابلات وصور شعرية غير تقليدية دون خروج ولو محدود على وضوح المعنى وترابط الفكرة وموسيقى المفردة وانسجام جرس القصيدة وحسها.

    قصيدة باهرة فيها خطوط من الشعر متباينة ، فما تعملق بجزالة اللفظ ومتانته وفخامة الأسلوب فحاكى أبي عمرو الشيباني وابن الأعرابي وأبي عبيدة، وما ترقق لفظا وتيسر معنى فحاكى ابن هانئ وما اعتمد الطرافة في المعنى بلفظ مستعذب رصين يحاكي الفرزدق والجاحظ
    ************************************************** ****************

    البناء العام للقصيدة
    كعادتة فرش شاعرنا ساح القصيد بتراكيب وألفاظ مبتكرة رائعة السبك تباهي في دنيا الحرف برشاقتها وتميزها لغة ونحوا، وتطرب الذائقة لانتظامها في تلاعب جرس موسيقي وجدته غير مسبوق بتفاوت إيقاع القصيدة وتبدل جرسها بتبدل الفكرة والمشاعر بين بيت وآخر، وتناغم مذهل في الانتقال من فكرة لأخرى دون إخلال بسبك ولا ضعف في انسجام المفردات والجمل الشعرية، بما يشهد بتميز القدرة الشعرية للكاتب وتمكنه من توظيف مبهر لمفردته وتشكيلاته اللفظية.

    فلو سألت لمن مجد الحياة لمن = فَخْرُ الأُبَاةِ؟ لَقَالَ الحُمْقُ: لِي لِي لِي

    فيا لجمال هذا التركيب وهذا الترديد كبلبل غريد في قوله الذي لا أحسبه مسبوقا "لي لي لي" وفيه ما فيه من تأثير على مستوى النغم والجرس الموسيقي ولكن فيه ما فيه على مستوى رسم الصورة التامة لكل تصرف أحمق وكل نفس تسارع في التفاخر بما ليست له أهل وتسارع في الطعن بمن هم أهل تقدير وتكريم كأنهم يحسبون أن القول يكفي أو أن القدح يرفع وهذا يذكرني بقول شاعرنا العمري في قصيدة قرأتها ولا أتذكر اسمعها يقول:
    أتظنُّ طعنَكَ في الجَليلِ عليكَ يرفعُ من جَلالِكَ؟

    ثم لننظر إلى قوله المبهر هنا
    وَإِنَّهَا لَو أَدَامَتْ حَثَّ خُطْوَتِهَا = أَحْيَتْ كَلِيلَ الخُطَى فِي سَاقِ مَشْلُولِ
    أَمْ جُلَّنَارٌ سَقَانِي الطُّهْرَ نَشْـرَ فَمٍ = فَأَنْبَتَ الشُّكْرَ فِي وُجْدَانِ مَذْهُولِ؟

    سنلاحظ أنها خرجت بمهارة حافظت على التوازن البنائي ووحدة الموضوع في قصيدة شمل مضمونها محاور شتى حظي كل منها بمساحة من النص تكفي لإفراده بقصيدة مستقلة، وكعادة الشاعر ظل مغدقا على عباراته الشعرية فيضا من المحسنات البديعية لا يبلغه بذلك الزخم غير شاعر يمسك في كف حَرْفه خِزامة أنف القصيد باحتراف، وبها رسم لنا أخيلة وصورا نقلتنا في البيت الواحد من فضاء لآخر ، نتأمل مشاهد انسانية يحلق فيها الحس عاليا لينهمر ودقا يتغلغل في الأرواح ويرسم لها خطوط تفاعل مع نص القصيدة وحسها.


    يَا أَنْتِ مَا أَنْتِ؟ إِلا أَنْ تَكُونَ أَتَتْ = مِنْ عَالَمِ الغَيبِ فِي وَحْيِ القَنَادِيلِ
    أَمَا هَلَكْتَ شَهِيدَ العَفْوِ مِنْ ظَمَأٍ = وَأَنْتَ تَنْضَحُ صَبْرًا بِالـغَرَابِيلِ؟

    أما ألفاظ القصيدة ومفرداتها فشهادة بمعجم لفظي ثري ومردود لغوي مبهر رفد الشاعر بزخم من المفردات الأدبية السامقة حشدها في مطولة يعز في مثلها هذا النجاح بتجنب الألفاظ المبتذلة والملحونة، وجاءت الألفاظ ساحرة بدلالاتها وعمق معانيها، وبرغم حمولتها الكبيرة من ألم وعتاب بل وغضب استوجب تقاربا ومشاكلة وائتلافا في تخير المفردات وتحري انزياحات معانيها، فلم يفقد هذا النص الفاره التناسب مركبا يحمل مفرداته الى منازلها، والتناسب كما نعلم من أجمل المقاييس الجمالية في فن الادب
    مُرِّي عَلَى خَاطِرِي مَرَّ النَّسِيمِ عَلَى =خَدِّ الأَصِيلِ وَعُفْرَاتِ الرَّآبِيلِ
    لِمَنْ أُغَنِّي وَفِي عَينِ المَدَى غَلَسٌ = وَفِي المَرَايَا عَرَايَا فِي السَّرَاوِيلِ؟


    هنا ، في كف وإزميل تغوص في تفاصيل حسية وملامح خيبة وألم وخذلان تكاد لوضوح الصورة تحياها معايشة ، وتحملك المفردة بدلالاتها وحسن توظيفها في بيان قسوة التجربة وحدة الجرح الذي أحدثت لاستشعار ألمه وكأن الطعنة نالت من خاصرتك أنت، فتقرأ تطبيق مقولة شيخنا الإمام عبد القاهر الجرجاني بأن اللفظ خادم للمعنى، حيث زخم من المعاني والأفكار والمشاعر الجياشة تمور عبر أبيات القصيدة /المطولة ولا تجد في مفردة منها لفظا يحيد عن المعنى أو يجنح لتفاسير وتأويلات مغايرة.

    ولعل من حشو القول أن نعود للحديث عن التمكن اللغوي للشاعر في معلقة حوت أحس البلاغة من اتساق البناء واعتدال الوزن واشتقاقات اللفظ وتألقت فيها المحسنات البديعية والصور البلاغية التي اتسعت فضاءات خيال الشاعر في رسمها وتشكيلها فجاءت لوحات فنية مميزة، والانزياحات السلسة التي اجتنبت الإجحاف بأصول المعاني فجاءت منسابة مقبولة كماء الغدير
    بِقَلْبٍ بِمَاءِ الطُّهْرِ مَغْسُولِ
    طَرْفٍ بِصِدْقِ العَهْدِ مَكْحُولِ
    فَإِنْ بَلَغْتِ مَدَارَ الصَّفْوِ
    بَوْحُ أَقَاحٍ فِي مَيَاسِمِهَا
    فَزَمِّلِينِي إِذَا اهْتَاجَ الأَذَى حَرَضًا
    تَأْكُلُ الخُبْزَ مِنْ شِعْرِي وَتَنْقُرُنِي


    **************************************************

    سمو المعاني وهدف الرسالة
    هنا تعرف معنى أن يكون للشعر رسالة تأثيرية يهدف الشاعر من خلالها لصوغ معالم جديدة لمجتمعه وأمته، معالم يرتقي فيها الحس وتسمو القيم النبيلة ويتعلم المرء فن كبح جماح شياطين أثرته وحرصه، فهو ينهمر في قالب من العتاب بوصف معالم الخير والنبل منسوبا لنفسه لوما على النقيض
    فيصف علاقته بالقوم من حوله
    أَطُاعِنُ الدَّهْرَ عَنْهُمْ كُلَّ نَابِيَةٍ ....
    وَأَسْتَحِثُّ إِلَى العَلْيَاءِ هِمَّتَهُمْ ....


    ويصف الموقف الصحيح من الصديق والشكل السوي للعلاقة معه
    وَكُنْتُ فِيكَ بِلا عَينٍ وَلا أُذُنٍ =عِنْدَ الوُشَاةِ وَلَكِنْ عِنْدَ تَعْوِيلِ

    ويعيب سوء الخصال من نميمة وغيبة وعجز وتواكل
    وَقُلْتَ: قَالَ وَقَالَتْ ، لا عَدِمْتُ أَخِي = مَا ذَاكَ إِلا لِرَبَّاتِ الخَلاخِيلِ
    تَقُودُنَا أُمْنِيَاتُ العَجْزِ شَاحِبَةً = إِلى غدٍ خائِـرِ الأَنفَاسِ مـجْهُولِ


    ويعيد حسن الخلق في كل أمر لالتزام تعليم الاسلام دينا ونمط حياة
    بَعْضٌ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ طَوْعَ شَهْوَتِهِ = إِلا الذِينِ اتَّقُوا فِي هَدْيِ تَنْزِيلِ
    مَا مِنْ وَفَاءٍ وَلا خِلٍّ وَلا مِقَةٍ = إِلا بِبَرٍّ بِحَبْلِ اللهِ مَوصُولِ


    واستشهاد عبقري بسورة الفيل
    فَـإِنْ أَتَـيتَ تَـجْدْ صَفْحًـا بِلا عَـتَبٍ = وَإِنْ أَبَـيتَ فَـرَتِّـلْ سُـورَةَ الـفِـيلِ
    حيث يوائم مضمون سورة الفيل مقصودالرسالة هنا بما ينطوي عليه أصلا من نصح وعظة وتوجيه جعل في التوكأ عليها يوصل بصورة منصفة وواضحة تقريعا لمن أبى واستكبر
    وبيت واحد من الشعر يوجز صفحات وصفحات تحكي قصة مد يد مبسوطة بالفضل، ومهيئة لمزيد من الخذلان، بصدر حمل تشخيصا لملامح الخلق القويم للكرام بالعفو والصفح دون إيذاء، وعجز اتخذ من المنهج الرباني في النصح والترفع سبيلا ثابتا لا يميد ولا يحيد

    وبذكاء وتميز جمع الشاعر بين نمطين لبداية الشعر عند الأقدمين هما بث شكواه والبوح بهواه متغزلا بالحبيبة، فإذا بالقصيدة التي ختمت رسالتها بالاستعانة بالله لما يلاقي الشاعر من خذلان وتضييع حق من الأهل والأخ والصديق، قد بدأت أصلا بنفس الحس وهو الشكوى/ العتاب من ثقل الحبيبة وأثرتها
    أَبْكِي اشْتِيَاقًا إِليهَا وَهْيَ تَبكِي لِي = وَأَشْتَكِي مِنْ أَذَى الدُّنْيَا وَتَشْكُو لِي
    فالحبيبة هنا وبرغم ما أغدق عليها الشاعر من صفات صنعها الحب ونطق بها التحبب، كانت في حقيقتها شبيهة بالصاحب الذي خذل وظلم، فهي أنانية تحكمها أثرة وذاتية اهتمام حدا يشقيه ويؤلمه
    نَاشَدْتُكِ اللهَ لا تُشْقِـي الذِي اقْتَرَفَتْ = فِيهِ الخَطَايَا ضَلالاتُ التَّمَاثِيلِ

    **************************************************

    نظرة عامة
    وفي العودة على القصيدة مرة ومرة، تتأكد لك قيمة الفكرة الأدبية الراقية بأن الشعر ليس مجرد "غزو انفعالي لحواس القارئ"، فهو آلية لغزو العقول والأفكار وإعادة لقراءة القيم واستقراء ثقلها في المجتمع وأثرها على الوعي الاجتماعي والممارسة الانسانية، وهو بالتالي أداة للتأثير فيها وإعادة صياغتها وتشريبها للفكر الانساني للارتقاء بالفرد والأمة، ومن هنا تجد بأن وعي الذات لدى الشاعر جاء مؤطرا بوعي الواقع العام لمحيطه، على كافة المحاور التي تحكم هذا المحيط ثقافيا واجتماعيا وتاريخيا ودينيا، وترى في القصيدة رسالة تغيير واضحة يضع الشاعر فيها ذاته على مشرحة التوصيف، لبث صور شعرية تخلق في داخل القارئ ذاتا أخرى مستنسخة من وحي القصيدة، تعيد على مسامع روحه انفعالاتها ومضامينها، وتتعهدها في أعماق تلك الروح غرسة إصلاح فتجادله بوحي منها في شأنه، تعيب العيب وتدعو لمعاني الخير والحق والجمال وتنجز أولى خطوات التغيير المنشود
    وحين يتكامل هذا الوعي الانساني والبعد الرسالي السامي مع قدرات شعرية محلقة عاليا في سماء الابداع والتمكن، يكون الهطول الإعجازي لمطولة تباري ولعلها تبز أروع ما كتب الشعراء على امتداد عصور الشعر ...
    وأزعم بيقيني أن هذا لا يفعله إلا شاعر العرب.

    عرفْتُ طعْمَ الندى بالصومِ مُرْتَجَلاً .... و النورُ منطقةٌ أرنو إلى فيها

  4. #4
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة الأستاذ رفعت زيتون في نص "بر العقوق" للأديبة كاملة بدارنة


    ..



    رغم وفرة النصوص الكبيرة التي تنتشر في الواحة
    وفي أقسامها المختلفة إلا أن هناك نصوصا تأبى إلا أن تفرض الرجوع إليها مرّات
    إما للقراءة أو التعليق أو التحليل ونصوص كاتبتنا من هذا النوع من الكتابات
    التي تلتصق وجدانيا بالقارئ ربما لأنها تتغلغل في عمق مشاعره تداعبها
    وتلامس مواضع نزفها وألمها .

    (بِرّ العُقوقِ )

    دائما تركّز الكاتبة على اختيار عناوين خاصة تلخص الفكرة من ناحية وتدخل القارئ في الرغبة في الولوج
    لمعرفة ماذا تريد الكاتبة من هذا العنوان .
    والعنوان رغم غرابته إلا أن لسان حاله يتحدث عن مكنوناته
    فهو البرّ والعقوق الذي أكثر ما يأخذنا إلى التفكير بالوالدين والأولاد
    وربّما أن تقديمها لكلمة البرّ يجيب على كثير من التساؤلات التي طرحت
    وذلك لأنّ الكاتبة تهتم بكل التفاصيل الصغيرة وتكتب عن دراية وعلم وهي التي تعرف أن تقديم كلمة على أختها في العنوان إنما له هدف خاص
    وهو أن هذه الكلمة هي الأهم في تسلسل الأهمية للكلمات . وبالتالي فأستطيع أن أرجّحَ كقارئ أن الكاتبة تميل إلى أن الذي كتبت له أقرب إلى البرّ منه إلى العقوق .

    (أَيُّها المُعَشِّشُ في خَلايا الفِكْرِ والرّوحِ ضارِبًا فيها أَطْنابَ مُسْتَعْمَراتِ الأَشْواقِ إِلَيْكَ ،
    تَجوبُ فيها فَتَجْعَلُها رَوْضَةً غَنّاءَ، تَعْزِفُ طُيورُها أَلْحانَ فَرَحِ لُقْياك ... وَتُغادِرُها فَتَنْعَبُ غِرْبانُ التَّحَسُّرِ فَقْدَ مُحَيّاك)
    ...


    تبدأ المخاطبة لهذا المتّهم بالبرّ أو العقوق ولسنا في صدد الحكم على ذلك في البداية رغم محاولة التكهّن كما كان في عرض فكرة العنوان
    ولكنّنا نقرأ في بداية حديثها مكانة هذا الذي تحدّثه ومدى تمكّنه من نفسها
    وذلك من خلال اختيارها لمفردات مثل " المعشش " و " خلايا الفكر والروح " .
    كأن لسان حالها يقول أنّ هذا البارّ \ العاقّ وليكن هذا رأينا فيه ريثما نصل
    إلى النتيجة التي تريدنا الكاتبة أن نصل إليها وربما لا تريدنا أن نصل إليها لتبقى في بطن خيالها
    ونبقى نحن في حيرتنا ليس لهدف الحيرة بقدر ما أنها تريد ربما أن تسقط النصّ على القرّاء كلّ حسب إحساسه بها أو تجربته الشخصية .
    إذن أعود فأقول أن كاتبتنا توحي باستخدام هذه المفردات والجمل أنّ هذا البارّ \ العاقّ قد تمكن من نفسها وروحها وفكرها
    وكلمة " المعشش " ترمز دون شكّ إلى أمرين الأول أنها تشبّهه بالطائر وهذا الطائر لم يأتِ للزيارة فحسب
    وإنما ليتّخذ من هذه الخلايا مسكنا ومأوى والعشّ هو مكان لوضع البيض فهو مكان فيه الأمان والدفء والوطن
    وهذا الطائر المرحّب به قد ضرب أوتادَ هذه العلاقة التي أرادتها الكاتبة وهي الشوق فكان كمن جاء مستعمرا المكان.
    كل هذه الكلمات التي استخدمتها لها دلالاتها التي تفيد التّجذّر عميقا في
    تربِ النفس والتّمكن من تلابيب الفكر استعمارا ولكنه استعمارٌ تحبّه الكاتبة ولا ترفضه وهذا يدل على أن هذا الطائر ليس من صنف الجوارح
    بل هو أشبه بالحمامة التي تسرّ رؤيتها القلوب ويطرب هديلها الآذان .
    وأقول أنه مرحّب به هذا الطائر بدليل ما يفعل وجوده في النفس والرّوح
    فهو يحولّها إلى روضة غنّاء , والروضة اخضرار وحياة وجمال
    غنيّة بالثمار والأعشاب والزهار .
    أما الأمر الثاني الذي توحي به كلمة " المعشش " فهي الملازمة والاستقرار
    فالعشّ لا يفارقه الطير لوجود صغاره فيه إلا لجلب الطعام فهو لا يكاد يفارقه.
    وتنتقل الكاتبة إلى عقد مقارنة كبيرة وجميلة ترسم المكان بريشتها فيها كما تريد هي وتجعل هذا الطائر البارّ \ العاقّ والذي بدأتُ ألغي عنه فكرة العقوق
    تجعله هو العنصر الأهم في شكل ولون المكان وفي كيفية رؤيتها أيضا لهذا المكان بحيث جعلته يتحكّم في عينها ونظرتها ورؤيتها ,
    فالمكان روضة غنّاء ما دام في هذا العشّ , والمكان يصبح قفرا موحشا بمجرّد مغادرته وغيابه عنه ولو للحظات ,
    وهي تعلم أنه لن يغيب الا لحظات بناءً على ما تقدم من حديث , ولكنها في هذا الغياب البسيط يدخل العتم والخوف والوحشة .
    وهنا تستوقفني مفرداتٌ أجدها لأول وهلةٍ متناقضة مع سابقاتها ككلمة "تغادرها " وكلمة " الفقد "
    فكلا الكلمتين تفيدان الترك والرحيل دون العودة
    وهنا التناقض, حيث كان فهمي لما سبق من مفردات استخدمتها الكاتبة يتطلب استخدام مفردات أخرى غير المغادرة والفقد لتصوير الحالة
    بحيث تسمح تلك المفردات للطائر بالعودة . إلا إذا كانت الكاتبة وهذا ما أظنه أنها أرادتْ بذلك إظهار حقيقة أخرى تفرض نفسها في الواقع .
    فما كان من تمكن واستعمار لهذا الطائر كان في خيال الكاتبة وفكرها
    وما كان من مغادرة وفقد كان في الواقع وبذلك جمعت بدقة وحنكة ودراية بين الموقفين وهما الواقع والخيال , وهذا محضُ افتراضٍ ليس إلا .

    (رَسَمْتُ مَلامِحَكَ التي غابَتْ طَويلًا ، فَتَجَسَّدَتْ أَمامي وَجْهًا جَميلًا أَغوصُ في عَيْنَيْهِ وَقْتَ غاراتِ أَحْزاني، وَأَخْتَبِئُ بَيْنَ أَمْواجِ الزُّرْقَةِ،
    التي يُطَهِّرُني ماؤُها مِنْ بِراثِنِ الشَّكْوى، وَيَقيني آلامَ زَفَراتِ الحَسْرَة ... لكِنَّكَ، تَمَلُّ سِباحَتي سَريعًا، وَيَقْذِفُني مَوْجُ عَيْنَيْكَ إِلى الشّاطِئ؛
    لِأَجِدَ عَيْنَيَّ قَدْ غَطَّتْهُما صُفْرَةُ الرِّمال، وَمُنِعَتا مِنْ رُؤْيَةِ الجَمال؛ فَأَجْلِسُ عَلى صَخْرَةِ الكَآبَةِ وَأَنا أَخَشى خَطَر الانْزِلاقِ إِلى الأَعْماقِ،
    وَأَسْمَعُ هُتافَ نورِ البَصيرَةِ يُناديني؛ لِيَضَعَ بَيْنَ يَدَيَّ مَجاديفَ زَوارِقِ الإنْقاذِ، فَيَزْدادُ حَنَقي،
    وَأَتَمَنّى لَو أَعَدْتَني إِلى شاطِئِ أَمْواجِ عَيْنَيْكَ لِأَرْتاحَ وَأَسْتَكينَ ...لأنّك الزّوْرَق الوحيد الذي أبغي... )



    لا زلنا في جحيم الغياب والحسرة في سطور كالسفينة تأخذنا فوق موجٍ عالٍ تارة وضعيف منهار تارة أخرى ,
    ولكنها هذه السطور تأخذُ بأعيننا الآن لمتابعة مشهد آخر من الصراع وكان البحر والشاطئ ساحة له ولكنه ليس أيّ بحر ولا أيّ شاطئ ,
    إنّها عيناه هذا البارّ \ العاقّ في مزج غير عادي .
    تتحدّث السطور عن رسم والرسم غير المشاهدة فهو نقل إما عن حقيقة أو خيال مما يزيد الحيرة في النصّ حيث الحديث عن الملامح ,
    والملاحم لا تكون إلا لمن لا نعرفه محاولين أن نرسمه في دماغنا أو عن من كان بيننا ثم غاب فطفقنا نستذكر تلك الملامح المرسومة أصلا في دماغنا .
    وبعدها يأتي ما يبدأ بحلحلة أول حلقات اللغز كيفما أقرأه وذلك من خلال جملة "
    فَتَجَسَّدَتْ أَمامي وَجْهًا جَميلًا أَغوصُ في عَيْنَيْهِ وَقْتَ غاراتِ أَحْزاني "
    فاستخدام كلمة " تجسّدت "
    أي أن هذه الملامح بعد رسمها تجسّدت وجها جميلا وإذا عدنا إلى فكرة أن اختيار المفردة كان بدقّة متناهية
    وبالتالي كان اختيار كلمة " تجسّدت " ليس عبثيا وتذكرني بالآية الكريمة عندما تمثّل الرّوح لسيدتنا مريم العذراء بشرا " فتمثّل لها بشرًا سويّا "
    ولكن هنا لم أجد تعوّذا بعدما تجسّد وجها لسببين أن هذا الوجه كان جميلا كما أريدّ له أن يكون
    والسبب الآخر أنه من صنع ريشة الفنان وبألوانه , تلك الألوان التي دخلت في هذه الفقرة لتوجه الأنظار إلى قضية أخرى سأعود إليها بعد قليل .
    أعود إلى ذلك الوجه الجميل الذي أصبحتُ أقترب من القناعة أنه وهم في الخيال إذا أخذنا الكلمة على محملها كما فهمناها من القرآن الكريم
    حيث تحدّثت الآية عن الروح والرّوح المذكورة في الآية إنما هي من العالم الميتافيزيقي أو الآخر أو ما يسمى قرآنيا الملكوت
    ( وهو غير الملك فالمُلك ما كان محسوسا وماديا والملكوت ما كان غيبيا ) .
    الحزن هنا أتى على شكل غارات والغارات فيها التدمير والخوف القهر رغم أنها لا تكون مستمرّة وبين الغارة والأخرى فسحة
    إلا أن هذه الفسحة دائما تكون في انتظار الغارة القادمة فيكون وقت الغارة أهون .
    وعند الغارة يختبئ الناس خشية الإصابة فليجأون إلى مكان هو الأكثر أمنا
    فكان اختيار الزرقة في العينين وهو اختيار موفق تشبيها للعينين بالبحر والبحر فيه من العمق ما يحجب حتى الضوء
    فهل هذا الهروب يشمل هروبا من الضوء والناس وكلّ ما من شأنه أن يفضح الخوف والدمع ؟ ربما !
    وهذا ما لم أقرأه ولكنني توقعته وأحسسته ولو أن ظاهر الهروب سببه كان كما ذكر شيء آخر وهو التطهير,
    والتطهير لا يكون إلا من ذنب فأي ذنب اقترِفَ هنا , إنه الشكوى والشكوى ليست ذنبا إذا كانت لله ربّ العالمين
    كما قال سيدنا يعقوب " وأشكو بثي ...... "
    فهل كانت الشكوى لمجرد التفكير بحق القدر في رسم طريق الإنسان ؟ أمْ كانتْ غير ذلك ؟ يبقى الجواب معلقا .
    هذا العاقّ \ البارّ يملُّ ضيفه ( ولهذا قدمتُ الآن العقوق على البرّ ) يملّه كما ملّ بطن الحوتِ يونس فقذفه إلى الشاطئ .
    وأيضا هنا استخدام موفق للألوان وهذه لفتة ذكية في الاستخدام والمقارنة فالأزرق لون الهدوء والسكينة التي وجدتها في عينيه كالبحر
    والصّفرة لون الوهج والنار والاضطراب والقلق وهو لون رمل الشاطئ حيث ألقاها
    فكانت الرمال حجابا وسدّا بين الحبيب والحبيب . وربما أجدُ هنا شيئا عن إلصاق صفة العقوق في هذا الحبيب .
    وكما في البداية كان الاختيار موفقا كان هنا فالكآبة قاسية كالصخر وسببها الحسرة التي أعادت ذكرها ليس تكرارا ولكنه تأكيد حال .
    وأقرأ بعد ذلك بين السطور صراعا بين النفس اللوامة والنفس الأمّارة بالسّوء وهو صراع بين الرضى والرفض سيظهر نتيجته ربما في آخر هذا النص الكبير .
    وإن كان كذلك فإنني أقرأ هنا سطورا لقلم روحانيّ متصوّف هبّت عليه رياح اللمز والوسوسة من الشيطان ليبتليه أيصبر أم يكفر .
    ويبدو أن الابتلاء كان عظيما في هذا الموقف لدرجة أنه خلط الأمور على هذا القلم فذهب يتحدث عن الشاطئ كأنه برّ الأمان
    (وَأَتَمَنّى لَو أَعَدْتَني إِلى شاطِئِ أَمْواجِ عَيْنَيْكَ )

    وهذا يتناقض مع ما سبق حيث كانت الزرقة والبحر هما الأمان والشاطئ هو مكان صفرة الرمل وصخرة الكآبة
    ولو كانت الجملة ( وأتمنى لو أعدتني إلى زرقة امواج عينيك أو بحرها أو فقط أمواج عينيك) لكان ذلك أصحّ ذلك أن خرجت منها العودة تكون إليها .

    (عَلَّقْتُ صورَتَكَ جِدارِيَّةً عَلى حائِطِ قَلْبي؛ كَي يُغَذّيها دَفْقُ المَحَبَّةِ؛ وَكَي تَكونَ الطَّبيبَ الذي يُجري لَهُ القَسْطَرَةَ إذا ما تَراكَمَتْ فَوْقَ شَرايينِهِ
    زُيوتُ الشَّوْقِ إِلَيْكَ؛ وَلِتُحافِظَ على وَتيرَةِ دَقّاتِهِ إِنْ شَوَّشَها ضَغْطُ مَحَبَّتِكَ ...

    انتَظَرْتُكَ في بُهْمِ لَيْلِ الأَفْكارِ نَجْمًا هادِيًا، تُمْسِكُ بِتَلابيبِ الفِكْرِ، وَتُهديهِ الطَّريقَ السَّوِيَّ؛
    لِكَثْرَةِ ما يَرِدُ جَحيمَ المَشاعِرِ الذي يَحْرِقُهُ بِشُهُبِ الحَنين، وَيُبْعِدُهُ عَنِ اليَقين، فلا يظْهَرُ ولا يّبينُ ... )



    صورتين جميلتين أضيفتا لهذا الحبيب وهما الأولى صورة الطبيب الذي يداوي الألم والجراح ,
    ولا نفكّر بالطبيب إلا لوجود العلّة والمرض , وهذا اسنتاج لما آلتْ إليه الأمور بسبب هذا البعد من الألم والمرض وليس أيّ ألم ولا أيّ داء فهو ما كان قاتلا .
    أما الصورة التالية فهي صورة النجم الذي هو مصدر الضوء والدفء في ليل بهيم أرخى سدله بسبب الغياب
    والفقد وهنا استنتاج آخر يدل على ما وصل إليه الحال من التّوهان والضياع , الذي لا يكون في المجتمع الحضري المنير
    بوسائل الإنارة التي تهدي السالكين وكأنّ الموقف كان في ليل صحراوي معتم , وشديد البرودة رغم حرارة الشوق والحنين .
    وهنا صراع آخر بين الشكّ واليقين ينتهي لصالح اليقين وجميل أن نقرأه هنا
    للاستدلال به على نتيجة المعركة النهائية في هذا الصراع النفسي الغريب .
    وربّ سائل يسأل أين وجدتَ انتصار اليقين فأقول وجدته باستدعاء النجم الذي ما هزمه يوم ظلام فالنجم من جند اليقين والظلام من جند الشكّ
    وهما فريقان قد ورد ذكرهما في هذه المعركة .

    (أَرَّقَتْني الوَحْدَةُ وَغَرَسَتْ غيلانُها أَظْفارَها في أَحْشائي، فاسْتَحْضَرْتُ طَيْفَكَ لِلإقامَةِ والتَّطبيبِ ... وَما هِيَ إلّا دَقائِقُ حَتّى يَخْتَفي حُضورُكَ ؛
    رُبِّما هازِئًا أو خائِفًا مِنْ مُواجَهَةِ غيلانِ الوَحْدَةِ التي تُغْمِدُ خَناجِرَها في دُروعِ السَّعادَةِ، إِنِ اقْتَرَبَتْ مِمَّنْ تَلُفُّهُم بِرايَةِ تَعاسَتِها ، وَتَتْرُكُها تَنْهَشُ كِياني وَتَحْتَلُّ أَفْكاري، وَتُوَلّي ...

    سَهَّدَتْني المُتَمَنَّياتُ قابِضَةً عَلى حُروفِها، وَمُحْكِمَةً الإِمْساكَ بِميمِها وَتائِها؛ لِئَلّا تَدورَ عَلَيْهما الدَّوائِرُ فَتَفْلَتا وتَسْقُطا، وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوّهْمِيّ... )



    سلسلة أحداث ترسم ملامح اللحظة في مقابلة مؤلمة بين موقفين الأول موقف المحتاج للشيء الفاقد له وموقف من يملكه ويبخل به
    وأظنّ أن هنا بيت القصيد ربّما وأقول ربّما كي لا أجهض فكرة الاستمرار وأقول ربّما كذلك لأننا لم نصل إلى النهاية فلعلّ هناك تكون الإجابة ,.
    فحالة الأرق والسّهد في ( أرقتني , سهّدتني ) والحاجة إلى الخروج منها ومن ثم التّمسك بأن هذا الحبيب هو السبيل أعتبره البرّ بعينه
    لأنني وجدت فيه الإصرار على أنّ هذا الحبيب هو الملجأ في النوازل , بينما كان موقفه عكس التوقعات عندما لم يُجِرْ من استجار ومن هو الأحق بهذه الاستجارة
    كما جاء في (يَخْتَفي حُضورُكَ , وَتَتْرُكُها تَنْهَشُ كِياني , وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوّهْمِيّ ) وهنا يكمن العقوق فكان البرّ من الطرف الأول
    والعقوق من الطرف الثاني وهو الحبيب المغادر .
    وأقرأ في فقرة (سَهَّدَتْني المُتَمَنَّياتُ قابِضَةً عَلى حُروفِها، وَمُحْكِمَةً الإِمْساكَ بِميمِها وَتائِها؛
    لِئَلّا تَدورَ عَلَيْهما الدَّوائِرُ فَتَفْلَتا وتَسْقُطا، وَتُلْغي المَنِيّاتُ بَهاءَ وُجودِك الوّهْمِيّ)
    قدرةً كبيرةً على اللعبِ بأوراق الحروف وخلطها
    كأنها ارقاما تطرح منها وتضيف لها كما شاءت من الحروف لتصنع أفكارا جديدة مستحدثة
    فهذا الاستخدام للجناس بين المتمنيات والمنيات وهذه الصورة الإبداعية التي جعلت للمتمنيات يدا من حديد تقبض على حرفين مهمّين إن أفلتا فقدت الكلمة
    معناها وذهب المعنى إلى ضدّه فأصبحت المتمنيات منيّات فأي قلم هذا الذي يستطيع أن يُقلّب الحروف بين أصابعه هكذا ليرسم الصور ؟ ...

    (اخْتَطْتُ مِنَ اللَّهْفَةِ لاحْتِضانِكَ، عَباءَةً حَريرِيَّةً تَلُفُّني وَإِيّاكَ، وَتَمْتَصُّ وَهَجَ الشَّوْقِ فَيُدَثِرُني نَسيجُها، وَيَبْسُطُ نُعومَةَ خُيوطِهِ...
    لكِنَّكَ، أَبْقَيْتَ اليَدَيْنِ في رَجْفَةٍ، تَحْتَضِنانِ شَوْكَ عَباءَةِ النَّكْسَةِ التي زَمَّلَني بِها صَدُّكَ ...

    عَزَفْتُكَ لَحْنًا تَرْقُصُ عَلَيْهِ مَشاعِري، فَرَقَصْتَ عَلَيْها، وَعَزَفْتَ أَلْحانَ الاغْتِرابِ والجَفاءِ، وَحَوَّلْتَ الطَّرَبَ إِلى حُزْنٍ وَعَناءٍ ...

    هاتَفْتُكَ عِنْدَما هاجَتِ الحَواسُّ وَماجَتْ، وَعِشْتُ فَوْضى شُعورِيَّةً عارِمَةً أَتْعَبَتْني؛ فَسَمِعْتُ حَشْرَجَةً زادَتْ مِنْ حالَةِ الهياجِ،
    وَأَقْعَدَني القَلَقُ عَلى كُرْسِيّ الدُّعاءِ لَكَ بِأَنْ تُرَدَّ لِصَوْتِكَ المَوْجاتُ التي تُريحُكَ، وَتُداوي قَلَقي ... وَأَقْبَعُ مُنْتَظِرَةً سَماعَ صَوْتٍ تُشَنَّفُ بِهِ الأُذنان، وَتُخْمَدُ نيرانُ الأَشْجان...

    تَوَهَّمْتُكَ في صَيْفِ الأَفْراحِ عَريسًا تَدعوني لِرَقْصَةٍ "زورْبِيّة" تُنْسيني تَقَرْفُصَ وَجُمودَ الشِّتاءِ وَصَقيعَهُ،
    وَتُرْسِلُ أَفْراحي مُحَلِّقَةً في سَماءِ البَهْجَةِ... لكِنَّكَ، أَبْقَيْتَ عَواطِفي مَقْرورَةً، وَطُموحاتي مَحْمومَةً بِحُمّى القُعودِ في زِوايا اللافَرَحِ ...

    ناجَيْتُكَ في صَباحاتِ الأَعيادِ مُفَرْقِعًا الفَرَحَ، وَعازِفًا أَلحانَ الطَّرَبِ ،وَمُضيئًا لِفانوسِ السَّعادَةِ، وَناثِرًا الحَلْوى عَلى مُرّي،
    وَمُسْتَبْدِلًا نَعيبَ البومِ الذي حَطَّ على شَجَرَةِ فِكْري، بِعَنْدَلَةِ العَنادِلِ الجَميلَةِ ... مَرَّ طَيْفُكَ وَلَمْ أَسْتَطِعِ الإمْساكَ بِهِ . )



    سلسلة أخرى من الأفعال الماضية لكنها هنا لم ترسم اللحظة كما سابقاتها ولكنها ترسم هواجس النفس في تلك اللحظة
    في مجموعة كلماتٍ لها ذات الجرس الموسيقي الذي له وقع الهزّة كمن يمسك بذراعيٍ آخر ويهزه حين يخاطبه ,
    ورغم أنّ هذا الحبيب البارّ هو من الوهم المحال إلا أنّ الحديث كان بلغة المخاطب ولو أني كنتُ أودّ لو كانت أولى هذه الفقرات " توهمتك "
    لانسجامها مع فكرة الوهم في سابقتها وكذلك لأنّ هذا التوهّم يأتي بمن نريد فنجعله حقيقة ثمّ يكون التحدّث معه .
    وكان الاشتغال على اللغة في الفقرة الأولى من مجموعة الفقرات واضحا في هذا الربط والتوافق
    بين كلماتها (اخْتَطْتُ ، عَباءَةً حَريرِيَّةً تَلُفُّني ، فَيُدَثِرُني نَسيجُها خُيوطِهِ ، زَمَّلَني ) بما يخدم الفكرة المرجوّة
    وربما لتنطلق إلى الفقرة القادمة التي أعتبرها تفسيرية لما قبلها عندما بدأت تفكك خيوط اللغز وأول هذه الخيوط جملة " أي بنيّ" .

    (أَي بُنَيّ ... تَخَيَّلْتُ.. هَمَسْتُ.. قُلْتُ.. نادَيْتُ.. صَرَخْتُ.. هاتَفْتُ.. هَذَيْتُ..
    ناجَيْتُ طَيْفَكَ وَاسْمَكَ يَوْمَ تَحَلَّقَ الأَبْناءُ حَوْلَ أُمَّهاتِهِم مُحْتَفِلينَ جَذِلينَ، فَلَمْ تَسْمَعْ، وَلَمْ تَلْتَفِتْ، وَلَمْ ...
    وَارْتَدَّ الصَّدى يُلاطِمُ جَنَباتِ روحي وَإِحْساسي، وَاحْتَضَنْتُ خَيْبَةَ أَمَلِ مَجيئِكِ بِذراعَيّ القَهْرِ،
    وَأَطْبَقْتُ شِفاهَ قُبُلاتِ الوَهْمِ عَلى الجَفافِ؛ شاكِيَةً مُحالَ التَّرطيب وَبُعْدَ التَّرْحيب ) ...


    " أي بنيّ " إذن هذا هو الحبيب البارّ \ العاقّ الذي كان له كلّ الهتاف والشّوق والمناجاة (تَخَيَّلْتُ.. هَمَسْتُ.. قُلْتُ.. نادَيْتُ.. صَرَخْتُ.. هاتَفْتُ.. هَذَيْتُ.. ناجَيْتُ طَيْفَكَ )
    فكان هذا أول أبواب العبور إلى الفهم فهو الابن إذن .
    وتتالى انهيارات السدود وتبدأ الأبواب المؤصدة للنصّ بفتح نفسها بنفسها عندما يوصف هذا الابن بأنه طيف
    وبأنه ما كان إلا خيبة أمل توحي بالفقد أو عدم الوجود ولهذا عدة وجوه لا أود حصرها ما لم يُشرْ النصّ إليها
    وما يهمّ أنه غير موجود وذلك يتأتى من استخدام كلمات ( الطيف , الوهم , ارتداد الصدى , ذراعي القهر , محال الترطيب وبعد الترحيب )
    فهذا لا يكون لموجود أبدا , خصوصا أن هذا الطيف كان قد مرّ ولكن دون الإمساك به وربّ قائل يقول
    أنّ هذا المفقود لم يكن موجودا أصلا بدليل أنه عندما مرّ فإنه لم يمرّ كطيف
    ولم يكن سوى خيال لا حقيقة , وأقول ربما كان هذا الأقرب ولكنه ليس الاحتمال الوحيد .

    (وَبَقيتُ واجِمَةً وَقَدْ أَخْرَسَني عُقوقُكَ الذي أُسامِحُكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ القَدَرَ أَقْعَدَكَ عَنْ بِرّي حينَ عَقَني بِتَغييبِكَ عَنّي لِحِكْمَةٍ شاءَها...
    حِكْمَةٍ بَذَرَتْ في داخِلي بِذْرَةَ يَقينٍ أَخْبَرَتْني وُرَيْقاتُها التي أَيْنَعَتْ بَعْدَ حينٍ، وَنَجَحَتْ في الوُقوفِ بِوَجْهِ الرّيحِ ، أَنَّ تَقَبُّلَ عُقوقِكَ هُوَ بِرُّ بِرَبِّ العالَمين...
    وَهُوَ البِرُّ العَظيمُ... وَأَنَّ عَقْلانِيَّةَ اليَقين تُحَتِّمُ أَنْ تُهْزَمَ شَهْوَةُ الحَنين ).


    وأظنّ أن هذه الفقرة تلخص ما كان وتضع الإصبع على موضع الجرح
    وكذلك تظهر حقيقة البرّ وسبب العقوق فهو القدر الذي قررّه وأصدر حكمه مسبقا بتغييبه رغما عنه وهذا هو العقوق الجبريّ
    أو كما صُوّرَ بأنه عقوق القدر ليس لأن القدر عاقّ وإنما لأن القدر كان سببه .
    فهو عقوق لأنه لم يبرّ كما يبرّ الأبناء ولكنه لم يبرّ بسبب الاغلال التي وضعتها الاقدار في يديه وتلك الحواجز التي حالت دون قدومه ليقوم بفعل البرّ ,
    وبالتالي كانت المسامحة لأنه لو أتى لكان بارّا كما أرادت ريشة الكاتبة عندما قدّمت البرّ على العقوق .
    هذه كانت قراءة متواضعة في نصّ كبير وربّما يكون لي مساهمة أخرى أضع فيها بعض الملاحظات على النصّ كدراسة مبسّطة جدا
    متناولا الإفكار والاسلوب والمفردات والعاطفة والخيال وغيرها .

    ..

    بقلم م : رفعت زيتون
    1 \4 \2011
    القدس

    .

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة الأستاذة كاملة بدارنة للقصة الشاعرة "على ثراها"
    لـ ربيحة الرفاعي






    قصّة للون أدبيّ جديد استوقفتني .. وكنت قد علّقت عليها، وأودّ نقل ما كتبت لمنتدى النّقد مع بعض الإضافات ؛ كي يطّلع عليه الإخوة القرّاء، ولأنّها قصّة تستحقّ قراءة سطورها وما بين تلك السّطور .. فشكرا للأخت ربيحة وللأستاذ محمّد الشّحات صاحب الفضل في وجود هذا اللون من الأدب في منتدانا

    مفتاح النّصّ أو عتبة النّصّ هو العنوان
    عنوان القصّة : (على ثراها ) شبه جملة تبدأ بحرف الجرّ على، وشبه الجملة لا يكتمل معناها إذا جاءت منفردة، وغير متّصلة بجملة ويفيد حرف حرف الجرّ في هذا السّياق معنى الاستعلاء والفوقيّة يقف على ثراها . والثّرى هو التّراب النّدي... الهاء حلّت محل كلمة كانت في الأصل مضافا إليه، لكنّ القارئ لا يعرف الكلمة . فالعنوان يثير في ذهنه تساؤلات كثيرة؛ لأنّ مكان الثّرى غير محدّد ، ومن سيقف على هذا الثّرى غير معروف . ففي العنوان تعميم ، والعتبة يكتنفها الغموض ، ورغم ذلك سندخل النّص كي يزال الغموض!

    على أملٍ بأن غدا سيحمل نكهة أحلى[

    بداية تبعث على التّفاؤل المستقبلي بنكهة حلوة .
    يبدأ النّص ّ أيضا بحرف الجرّ (على) ويفيد هنا المصاحبة _ بمصاحبة الأمل، إنّ الغد سيحمل نكهة أحلى ..الحاضر يقول إنّ هناك نكهة حلوة، ولكن المستقبل سيحمل نكهة أحلى.
    (يحمل) فعل مضارع يدلّ على الاستمراريّة، واقترن بسين التّسويف التي تدلّ على التّنفيس ، ومعناها الاستقبال
    ، ومع الأمل؛ فإنّ هناك يقينا بأنّ النكهة ستكون أحلى
    في الغد وهو المستقبل خاصة إذا اقترن بالطّهر ..

    []توضأ ثم سار نحو البيت بخطوة عجلى []

    ]يصارع فكرة التضييع كيف "أتى الذي ولّى"[/


    الوضوء هو طهارة الجسد قبل أداء المقدّس- وهو الصّلاة ، ويستلزم النّيّة . وهنا جاء الوضوء لدخول مكان يرتبط بالقدسيّة (البيت) ، وبخطوة عجلى ( الحثّ على الإسراع) ..
    الوقت يداهم من يخطو ، وفي داخله صراعات وتساؤلات بسبب تضييع ما ضاع،أو ربّما مضى بخطوة عجلى يقاتل فكرة تضييع ما سيذهب لاسترداده، وقد أتى بعد أن ولّى .. أي كان وعاد، ولا يرغب في عودته!...ولكن أراها صراعات داخليّة؛ لأنّ الجمل اللاحقة جاءت معطوفة على هذة الجملة ... لا تزال الفكرة غامضة!
    الفعلان توضّأ وسار في الزمّن الماضي الذي سنرى لاحقا أنّه يسيطر على النّص – ورد فعلان بصيغة المضارع (سيحمل ويصارع)، والأفعال الأخرى في الماضي – كون الأفعال وردت بصيغة الفعل الماضي؛ فإنّها توحي بالانتهاء .. لكن في هذا النّصّ، الزّمن في الماضي والحدث في المستقبل، وهو يفيد تحقيق الفعل. وقد ورد ذلك في القرآن الكريم " وسيّرت الجبال فكانت سرابا" . " أتى أمر الله ( سيأتي) ... والقصّة بدأت على أمل .. إشارة إلى أنّه سيحدث وإن وردت الأفعال في الزّمن الماضي ...

    []وكيف القوم باعوا القدس في ترنيمة القتلى[/]

    وضحت الصّورة، وكشف النّقاب عن المغطّى .. إنّها القدس .. على ثرى القدس .. أصبح المفتاح في يدنا. باع القوم القدس، وجعلوا من بيعها ترنيمة ( كلمات وأشعار مغنّاة، وترتبط بالدّيانة المسيحيّة) _ ربّما هنا إشارة لمسؤوليّة المسلمين والمسيحيين عن ضياع القدس أو بيعها مثلما ورد- تنشد عن القتلى. أي باعوها وبكوا عليها وعلى قدسيّتها!
    وكيف أتى بنو صهيون كيف استأسدوا في الناس تنكيلا وكيف بغزة الثّكلى أقام العزل والتجويع

    يستمر الصّراع والتّساؤل حول القدس، ومجيء من استأسد ونكّل بالنّاس .... وتجويع وعزل غزّة الثّكلى ( شريط صور وأحداث غطّى سنوات قهر وذلّ عديدة)

    [B]والإقدام ما كلّ، وعند الباب غازل غص زيتون على كتف الجدار أقام واستعلى،
    تأمله بإعجابٍ وفي ظل استدارة أمه الخضراء أغرق في تسابيح قبيل العصر ثمّ بظلّها صلّى [/]


    الأمل رفرف لواؤه بالإقدام – الجهاد – عند الباب –الباب معرفة ، مكان محدّد ومعروف .. وقف عنده وغازل غصن زيتون... ثمّ صلّى بظلّها
    نهاية رائعة زاد من بهائها التّثليث – عدد الاكتمال –
    لقد صلّى بظلّ البركة الإلهيّة " زيتونة مباركة" ... مستديرة _ الاستدارة رمز الكمال والتّناغم وعدم الانقسام ... خضراء – رمز الحياة الدّائمة والخلاص ... هذا الثّالوث هو ثالوث الاكتمال الذي يفرض بيئة الاغراق في التّسبيح ، وهو الحمد والشّكر والتّنزيه .. والزّمن هو العصر أو قبيل العصر ... استحضار لسورة " العصر" التي يغلب عليها طابع الإنذار : " إنّ الإنسان لفي خسر" .. ومع الإنذار كان باب الأمل مفتوحا للذين" آمنوا وعملوا الصّالحات .."
    إنّ اختيار وقت العصر جاء موفّقا؛ لأنّ العصر هو بداية نهاية اليوم .. وقت الضّغوطات لإنهاء ما بدئ في أوّل اليوم ..
    فما هو فيه يستلزم إجراء حسابات (إنّه في خسر) ويجب التّفكير في الرّبح ؛ لذلك غازل غصن الزّيتون وهو رمز البركة . والمغازلة هي الكلام الطيّب مع من نحبّ، ولن يجد من يحبّه أفضل من الله وبركته ، هذه البركة المتجسّدة والمقيمة باستعلاء على كتف الجدار الذي يجب اختراقه؛ كي لا يبقى في خسر ... فالكتف هو الجزء العلويّ من الجسم .. والبركة قيمة علويّة، وطالما غازلها؛ فإنّها ستبقى حبيبته التي يعمل على الاحتفاظ بها .. والحفاظ جاء بالصّلاة : إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" .. أجد هنا إشارة بالتّذكير الدّائم ( كتابا موقوتا) لاختراق الجدار وتحرير المقدّس للذين" آمنوا وعملوا الصّالحات " كي ينعموا براحة الصّلاة التعبديّة . " أرحنا بها يا بلال "
    للصلاة في النّهاية دلالتان : الجهاد والعبادة ( الرّاحة والاستقرار) .
    ومن النّهاية الجهاديّة نعود إلى العنوان : على ثراها، فالتّراب مبلّل بالماء الطّهور،أو( ماء الجهاد) إشارة إلى قدسيّة وطهر المدينة!
    آمل أن أكون قد أعطيت النّصّ حقّه.



  6. #6
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة محمد الشحات محمد في قصيدة القدير/د. سمير العمري "برزخ الحفظ"






    دعوة للتفكِّر و قراءة في "برزخ الحفظ"
    محمد الشحات محمد

    * نجح حوار الثقافات عبر الشبكة العنكبوتية فيما لم تنجح فيه توصيات المؤتمرات، وموائد المفاوضات ، وفرقعة الندوات ، و حتى إعلانات تنظيم الأسرة والبحث العلمي .. ، وقد كشف "حوار الثقافة العنكبوتي" عن تنويعات من درر الأفكار والاكتشافات و الابتكارات ، كما بيَّن لكلِّ قارئٍ و مُحلِّل أسباب الظواهر التي انتشرت في الآونة الأخيرة مثل محاولات التغييب و التغريب ، واحتقانات التفكير الخاضع لظروف متنوعة ، و أساليب التعتيم والسرقات ، وكيفية التغلب على كلِّ المشكلات في ضوء عصرنة التجريب ، و من خلال أسرة عالمية واحدة تحترم خصوصية الهوية العادلة لكلّ عنصر فيها ، وتقف ضدّ كل الادّعاءات وافتراءات الإرهاب بكافة أنواعه .. ، وكما نجح بنسبةٍ عالية حوار الثقافات عبر الشبكة العنكبوتية في شتى المجالات ، فقد أعلن عن طفرة في كشف أجناس أدبية جديدة ، و أكد على الدعوة للتفكِّر في كل حروف الأحداث الدائرة .. ،

    والدائرة بصفة عامة تضم عدد من نقط التماس يساوي عدد النقط المُكوِّنة لمحيط هذه الدائرة .. أي عدد لا نهائي من نقط التماس تلك ، ويكون لكل نقطة تماس من الدائرة مايقابلها من الأشكال المتماسة مع هذه الدائرة والدائرة التي نقصدها هنا هي "العلاقات الإنسانية" ، أما نقطة التماس الموجودة على محيطها هنا هي قصيدة نُشرتْ على الشبكة العنكبوتية مؤخراً للشاعر القدير د. سمير العمري بعنوان "برزخ الحفظ" ،

    دافع الكتابة :

    وكان الدافع لكتابة هذه القصيدة و نشرها على "العنكبوتية" كما فهمت من النص والسياق هو مرور "د.العمري" بتجربة مؤلمة غير مسبوقة بالنسبة له حين افترى عليه بعض من طعموا من شعره وشربوا من إبداعه وتتلمذوا على يديه تهمة سرقة شعره حين وجدوا بعض أبيات قليلة في نص قديم مرتجل في سجال وبعض تناص مع بعض ابيات شعرية قديمة تداخلت بين ذاكرته وقريحته ، فأصابته فجيعتها لعدة ساعات ، حتى تذكَّر ما جاء في الشريعة ، والتفَّ حوله عدد من المُنصفين ، و المنتصرين للحق ، وكانوا سبباً لأن يتهيأ من جديد ، ويلتزم بما ألزمته به الشريعة ، و ما فرضه عليه قلم إبداعه ، و حيثُ أسكنته قيمته الأدبية ، و قامته المشروعة .. ، مؤكداً على دوره في إثراء الحركة الأدبية العربية ، وبما يُتقن من لغتين غيرها .. ، وبما استفاد من مأثور الموروث ، وخبرات ، و ترجمات ، فضلاً عن النزعة الدينية التي تُحرِّكه ، و تلزمه بالتريُّث و أخذ الأسباب الصحيحة في التعامل مع مثل هذه المفاجآت غير المحمودة شكلاً ، لكنها قد تكون في جوهرها تحمل من الخير الكثير مؤمناً بقوله تعالى "قل لن يُصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا" و مطبقاً للتوجيه الإلهي " .. وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم" .. ، و من هذا المنطلق يتحرك بالأسباب حتى يُثبتَ حقه أو براءة قدرته ، ثم يعفو مُتخذاً القدوة من خير خلق الله صلى الله عليه وسلم في موقفه مع أهل مكة بعد فتحها .. ، و لأنه شاعر في المقام الأول كانت قصيدته "برزخ الحفظ" أول ردِّ فعل على الوسيلة التي استخدمها خصومه للنيل منْه ، وهْي الطعن في قدرته الإبداعية ، ومحاولة تشويه الحقائق باستخدام شائعة فظيعة يُمكنُ أنْ تجعل كل مَنْ حوله يبتعدون ، وكانت الشائعة عبارة عن استغلال "التناص" في قصائده ، والناجم عن كثرة قراءاته وحفظه من أشعار الرموز نسبة كبيرة ، و قد قَلَبَ خصومهُ موضوع التناص إلى "سرقات" ، وكأنها مقصودة ، رغم أن التناص في حدِّ ذاته وارد ، وفارقٌ كبير بينه و بين التلاص ، ورغم ذلك حاول "د.سمير العمري" إقناعهم بأنه لم ولن يقوم بالسطو على إبداعات الآخرين ، ودعاهم إلى التفكّر بعقلانية ، حيثُ أنه إذا كان قاصداً لذلك الأمر ما تناصتْ نصوصه مع نصوص شعراء محفوظة أعمالهم ، و سبقوه على أرض الإبداع بقرون ، وإنما كان قد ظهر مثلاً أحد الأبيات للشعراء المغمورين ، و عندئذٍ قد تأتي شبهة السرقات الأدبية ، أماَّ وجود أبيات لعظماء تاريخ الأدب و الشعر دون غيرهم ، فهو يجعل من هذه الشبهة الذميمة لا محلّ لها من إعراب كينونته ، وكينونة كل العقلاء، و هكذا استمرَّ بِخلقه الذي اكتسبه من شريعته ، و تم صقله من خلال أدبياته استطاع التغلب على هذه المشكلة ، و تجمع حوله محبوه ، وكان لهم حق التوضيح ، فكانت قصيدته الغراء "برزخ الحقظ" ..


    العنوان:

    ** و في دعوة للتفكِّر في قصيدة "برزخ الحفظ" للشاعر الدكتور سمير العمري – نبدأ بالعنوان الذي تكون من لفظتين (مضاف و مضاف إليه) ، ولكل منهما معانيها القاموسية .. ، فأما اللفظة الأولى (برزخ)لها أربعة معاني ، واللفظة الثانية (الحفظ) لها ثلاثة معانٍ أخرى .. ، ليكون عدد الاحتمالات –رياضياً- للمعنى المقصود من العنوان أثني عشر احتمالاً ، مضافاً إليها المعاني الأدبية الناجمة عن السياق والاتساق في النص ، والمعاني التي تتولد من أثر الإيحاءات واختيار المفردة ودلالات العلاقة بين لفظتي العنوان .. ، وهذه المعاني الأخيرة لاحصْر لها لأنها تعتمد على رؤى المتلقي للنص الأصلي ، والذي هو بطبيعة الحال لهُ رؤاه التي قصدها المبدع ، وكذلك مايعنيه تعريف المضاف إليه ..

    و لنبدأ في قراءة مكثفة لما يرسله لنا العنوان من معانٍ مختلفة :

    البرزخ له أربعة معاني ، فهو الحاجز الذي يفصل بين شيئين/الموت و البعث/بحر و آخر/فصي الغدة الدرقية ، فمن قرأ بالمعنى الأول (الحاجز بين أي شيئين عموميين) لابد أن يُدرك المقصود من هذين الشيئين ، وهما ما يتبين من إدراك مايلي هذه اللفظة سواء المضاف إليه أو القصدة مثلاً ، فمَن قرأ لفظة "البرزخ" على أنه الحاجز بين الموت والبعث أي القبر فكأن مبدعنا هنا يذكرنا بالعظة التى ينبغي أن تؤخذ من القبور ، و التي أوصى بها الرسول الكريم .. ، و من قرأ "البرزخ" على أنه الحاجز بين بحرين ، فنجد هنا إسقاط على الفارق بين العذب و المالح رغم تجاورهما ، فإن الحاجز/البرزخ يفصل بين هذا وذاك ،كما يفصل –افتراضياًّ- بين الأبيض و الأسود في حجري العقد (و ستُبيّنه الصورة الكلية للقصيدة) ، و أما مَن قرأ هذه اللفظة كذلك طبياًّ على أنها الحاجز بين فصي الغدّة ، فإن الشاعر هنا يوجه خطابه لكلِّ ذي فكر علمي ، أو يتأمّل القدرة في نفسه/خلْقه حيثُ أن هذا الحاجز الدرقي يحتل المكان الأوسط من القصبة الهوائية ، مماَّ يؤكد أهميته لاستمرار الحياة .. ،و منْ الأربعة معاني السابقة أيّ منها التي يقصدها المبدع؟ وأيّ من الاحتمالات الأثني عشر؟ وأي الدلائل والإيحاءات التي تنجم عن العلاقة بين لفظتي العنوان؟

    للتعرف على الإجابة ننتقل إلى ما أُضيفتْ إليه لفظة "برزخ" لنرى أن المضاف إليه هنا هو لفظة "الحفظ" ، و لْنبدأ بالمعنى الأول العمومي للبرزخ ، وهو الحاجز بين شيئين ، ونقرأ معاً أول ثلاثة احتمالات .. ، وكما كان من مرادفات أو تأويلات لكلمة "برزخ" ، فهناك مرادفات متعددة لكلمة "الحفظ" .. ، فهي تعني الحراسة ، و الحرز/الحوط ، و الوعي/الضبط بالعلم و الكلام ، فإن كان المعنى المُراد هو الحراسة ، فيكون معنى العنوان هنا هو "حاجز الحراسة" .. ، وما هذا الحاجز؟ أيعني المبدع به القميص الواقي الذي يرتديه عِلْية القوم حتى لايصيبهم جاهلٌ أو مغامر أو متهور ، أو مأجور ، أوحتى الثائر سواء بحق أو بغيره؟
    و في المعنى الثاني للحفظ ، وهو حاجز الحرز/الحوط .. أيكون المقصود هنا أن وجود هذا الحاجز يحمي أيضاً من إية ضرر يقوم به مخلوق أياًّ كان وضعه؟
    أما في المعنى الثالث يكون المعنى هو "حاجز الوعي بالعلم و الكلام" .. ، و هل في هذه التركيبة كناية عن أهمية عدم الخلط بين الأمور و التأويلات ، مثل الخلط بين الحق و الباطل .. ، بين حُسْن النية و سوء القصد ، ..؟

    وقبل أن ننطلق إلى أبيات القصيدة .. لابدّ أن نُشير هنا إلى ما يُمكن أن نطلق عليه "شخصية النص" عند الدكتور سمير العمري لأن ذلك سينطبق على جسد هذه القصيدة ، وباقي أعماله، و يُعدُ مدخلاً لقراءة "د.العمري" عموماً

    شخصية النص :

    التشكيل الجمالي:-نجد التفكير في اختيار اللفظة الموحية ، والتركيب الدقيق للجملة الشعورية ، وكذلك التصوير ، و استخدام البديع دون تكلّف ، وإن كانت فيه الصنعة ..
    يأتي الجناس الناقص بين "قمح" و "قرح" وكذلك بين "روح" و "ريح" ، "فجيعة" و "وجيعة" ، "ذريعة" و "شريعة" .. ، والمقابلات و التضاد مثل تجاور حجريّ العقد رغم اختلاف ألوانها بين الأبيض و الأسود ، الجمر و الإطفاء ، سخط و رضا ، .. والكنايات و التورية وهكذا
    الموسيقى :- يلتزم بالشعر العربي الأصيل ، و الألفاظ ذات الحروف المتجاورة أو المتنافرة تبعاً لفونيمات الأصوات و مستوياتها المطلوبة للمعنى المقصود علواًّ و انخفاضاً فضلاً عن المقابلات والعلاقات المُمَوْسقة ، أما اختيار الرويّ ، فقد كان الـ "فاء" باعتبارها أول حرف من "فجيعة" ، والتي ذُكرت أيضاً في أول شطر ، وأماَّ حركة الفتح التي اكتسبتها "فاء" الرويّ ، و إطلاقها مع حذف همزات الكلمات المنتهية بالهمزة ، فذلك كان بقصد إعلان سموّ و علوِّ من تعرَّض لهذه الأزمة ، وللتخفيف عنه بعد توضيح الأمر ، ومَنْ هو ذا ؟ هو الـ"أنا" و الـ"أنا الآخر" أو الذات الشاعرة للدكتور سمير العمري ..،
    كما أن اختيار البحر الطويل كذلك لم يأتِ عبثاً ، بل لأنه أول البحور المركبة ، ويبدأ بالوتد المجموع (//ه) ، و الوتد أقوى من السبب (/ه) لذا وجب تقديمه ..
    اعتزاز المبدع بنفسه :- يتبين اعتزاز "العمري" بنفسه رغم ما يتعرض له من انقلابات ، وشجاعته الأدبية إذا بَدَر منه خظأ بادر فأصلحه ، وشجاعته كذلك في مواجهة خصومه بالفكر و الإبداع ، فهنا كاف المخاطبة لنفسه في أول بيتين من القصيدة ، ثم استحضار ذاته أمامه في المرآة ليحدثها ، ويعرف ماهية قدْره و قَدَره ، ثم يذكر مَن وقفوا بجانبه ، وبأسمائهم في قالب شعري خالد ، وفي إطار توكيد "العمري" على ريادته .. ، ومع ما قدْ تجْلب له هذه الريادة من المشكلات والخصوم ، فإن دوره الرائد يعتبرها إحدى ضرائب التميز ، ويفرض عليه ماتفرضه شريعته ، وهو النصيحة .. "إن الدين النصيحة"
    النزعة الدينية :- ذكر د. سمير العمري لفظة "الشريعة" صراحةً ، وفي هذا إجمالٌ يأتي تفصيله في أبيات القصيدة ، وسيظهر جلياًّ مدى تأثره بالقران والسنة .. يقول:-
    المأثور و الموروث :- يستفيد "د.سمير العمري" من الموروثات الشعبية و الأقوال المأثورة ، ولديه إمكانية عمل تركيبة بنسب معينة لعدد من الموروثات و المأثورات لمعالجة موقف معين أو حدث ما ، وقد استفاد في ذلك بطبيعة عمله كصيدلي ، مع خبراته و احتكاكاته بقئات مختلفة و مجالات متنوعة
    التداخل بين شخصية النص وشخصية "د.سمير العمري" :- دوماً تجد نصوص "العمري" تتجه في مسارها نحو القيم الدينية السامية مثل الإيثار، العدل ، الجمال ، الرضا ، الولاء ، الانتماء ، والنصح ، والتواضع ، واحترام العقل والبحث العلمي بأسلوب أدبي رفيع ، مع وضْع كلٌ حسب قدْره ومقدرته في المنزلة التي تليقُ به
    الإيمان لإتمام الرسالة:- بعد توضيح الأمر في قصيد ينساب بسلاسة لغوية أخاذة و تصوير مُدْهش ، يؤكد "د.العمري" على إتمام رسالته ، وتطوير هدفه الرئيسي ، وهو "رابطة الواحة الثقافية" و التي أبداً لن تهتز بأي انقلابات مادامت تتحرك في إطار الشرع ومشروعية الكتابة
    التجديد والانسياب اللغوي الأخاذ:- رغم تمسك الدكتور سمير العُمري بأصل اللغة ، و عامود الشعر إلاَّ أنه يأتي بلفظة غير قاموسية ، لكنها قابلة لإدخالها في المعجم ، وذلك بتوظيف قائم على التفكير و الشاعرية .. ، وبالتالي نجد القاموس اللغوي "العمري" في حالة تجدّد مستمر ، وانسيابية أخاذة
    التنوع الأسلوبي : يتنقل "د.سمير العمري" بين الأساليب المختلفة ، و كلَّما تنوعّت الرسالات المرجوة ، يزيد النفس الشعري ، والتنوع الأسلوبي مابين إنشائي ، خبري ، و توظيف شعوري مختلف لعلامات الترقيم

    و إذْ نحن بصدد التفكيرٍ في احتمالات المقصود من العنوان ، وبعد معرفة شخصية النص عند "د.سمير العمري" ننتقل إلى القصيدة ذاتها ..

    القصيدة :

    يستهلُّ د. سمير العمري قصيدته و مُستخدماً "كاف" المخاطبة بقوله :-

    إِنَاؤُكَ مِنْ قَمْحِ الفَجِيعَـةِ قَـدْ أَجْفَـى وَمَاؤُكَ مِنْ قرْحِ الوَجِيعَـةِ قَـدْ جَفَّـا
    وَوَجْدُكَ مِـنْ رِيـحِ الذَّرِيعَـةِ جَمْـرَةٌ وَغَيثُكَ مِنْ رُوحِ الشَّرِيعَـةِ قَـدْ أَطْفَـا



    يُكلِّمُ ذاته/ الـ أنا و الـ أنا الآخر ، يُعرِّف الـ "قمح"(وهو النبات العشبي الذي يُتخذ منه الدقيق) بإضافته إلى "الفجيعة"(المصيبة المؤلمة) ، وكأنه يؤكِّدُ على أن المكسب/البر لا يأتي إلاَّ بعد خسارة ، أي يُمكن تحويل الخسارة إلى مكسب ، ثم يستخدم "قد" لتوكيد الفعل الماضي الذي يليها ، واختياره لهذا الفعل سببَّ إشكاليات عديدة منها : أن الفعل الثلاثي الأصلي إما "جفَّ" بمعنى يبس ، أو "جفا" بمعنى بَعُدَ وغلظ و اخشنّ ، ولفظة "أجْفى" التي أتي بها المبدع إماَّ أن تكون فعلاً ، ولكنّه فعلٌ متعدي يلزمه مفعولٌ به .. نقول "أجفى الشيءَ/أبعده" ، وفي البيتِ لم يأتِ بمفعولٍ به ، و عندئذٍ ننتقل إلى "أجفى" الثانية ، والتي تأتي كأسلوب تفضيل على وزن أفعل .. يقول المصطفى الكريم صلوات الله وسلامه عليه :"أجفى الناس مَنْ ذُكرْتَ عنده و لم يصلِّ عليّ" ، و شاعرنا هنا لم يأت بها كأسلوب تفضيل ، وذلك لعدم إضافتها (أجفى الناس) أو لعدم وجود لفظة "مِنْ" للمقرنة والأفضلية (س أجفى من ص) ، و أما إذا تأملنا مُبتدأ الجملة "إناؤكَ" ، فإنه كان يلزم للإناء الفعل الخماسي "اجتفّ" بمعنى شُربَ كلّه ، وعلى ذلك فقد أراد المبدع بلفظة "أجفى" فعلاً رباعياًّ يُمكن تأويله لكلِّ المعاني السابقة ،
    و في الشطر الثاني من البيت الأول يبدؤه بـ "الماء" يؤكِّد أنه "جفّ" من "قرْح الوجيعة" .. ، و"القرح" هو مابَدَتْ بهِ جروح ، و "الوجيعة" هى الموجعة .. ، ويقصدُ هنا أن الماء قد جفَّ من الجرْحِ الموجع .. ،
    و في هذا السياق و اتساق المعني يكون المقصود من البيت الأول أن "د.سمير العُمري" المبدع الشاعر يكلم "د.سمير العمري" الإنسان ليؤكد له وصْف الحالة/تشخيصها أن الإناء قد استغلظ واشتدَ بهذه الفجيعة والتي قد تكون خيرا ، وقد تكون شراًّ ، وبناءً عن كيفية الاستخدام لهذا الإناء و ردّ الفعلً ، وكذلك بالنسبة للماء الذي جفّ .. هل ستنتهي الحياة ، أم يكون الصبر ؟
    و في ضوء تشخيص الحالة أيضاً يؤكد في البيت الثاني أن "الذريعة"/الوسيلة التي كانت سبباً في حالتي الماء والإناء كانتْ وسيلة شديدة التأثير فجعلتْ من "الوجد"/ الحزن جمرةً إذا استخدمها للردّ لأحْرق مَنْ صنعوا هذه الوسيلة بأشدِّ منها .. ، ولكن .. هنا يتم تدارك أمر الانتقام وهذه المحرقة بماذا؟ بالغيثِ الذي يُنطلق من "روح الشريعة" ، فَيُطفئُ كلّ شرٍّ ، فلا المبدع الإنسان المُصاب ينتقم بشرٍّ إيماناً بما جاء في الشريعة أن الله لنْ يترك مَن ادّعى و ظَلم ، وتسبّب في هذه الحالة المُحزنة ، وكذلك لن يترك سبحانه و تعالى مَنْ ظُلم و عاني جرّاء ما فعله المُدّعون الظالمون ... ، كما أن الشريعة هنا تُتيح لمن ظُلم أن يأخذ بالأسباب الصحيحة ، وبعيداً عماَّ يُغضب الله حتى يُبرأُ ممّا تعرَّضَ له ، و من بين هذه الأسباب يكون القلم حين يُسجِّلُ مداده هذه القصيدة لإظهار الحقيقة ، و وصف الوضْعِ ، و فكِّ شفرات الخلط والادّعاءِ ، وَمِنْ ثَمَّ أيضاً إبراز صورة مَن انتصروا للحق ، وكشْف مَن أخذهم الباطل في سراديب مُظلمة .. ، وأيضاً تدعو الشريعة إلى أخذ الأمور بأحسنها ، وترفض التصيَّد و اتباع الشبهات ، كما تؤكد الشريعة أن مَن دهاه أمرٌ دون قصد ثم أصلح ، وأثبتَ حُسْن النية ، فإن الله يغفر له ، ويبدّل السيئات إلى حسنات ، فما بال مَنْ تعرَّض للأذي ظُلماً و عدواناً و صبر .. ،

    يقول "د.سمير العمري" :-

    أَلا أَيُّهَا السَّـارِي عَلَـى دَرْبِ هِمَّـةٍ تَعزُّ عَلَى الشَّكْـوَى وَتَفْخَـرُ بِالأَكْفَـا
    هُوَ العَهْدُ فَانْزَعْ نَزْغَةَ السُّخْطِ بِالرِّضَـا وَرُدَّ اللَيَالِـي بِالمَحَـبَّـةِ وَالزُّلْـفَـى
    فَحِلْيَةُ مَنْ يَسْمُو عَلَـى الغَيـظِ حِلْمُـهُ وَلَيسَ شَدِيـدًا مَـنْ يُنَازِعُهَـا العُنْفَـا
    وَكُلُّ إِنَاءٍ مِنْ هَـوَى النَّفْـسِ نَاضِـحٌ فُصُبَّ مِـن الإِبْرِيـقِ أَعْذَبَـهُ رَشْفَـا


    ويتبين هنا الاعتزاز بنفسه ، وبالدرب الذي يسير عليه ، وهو "درب الهمة" ، كما أنه مَن تعزُّ/تندر عنده الشكوى ، بل يفتخر دوماً بالأكفأ ، وهو مَنْ أخذ على نفسه عهداً بأن ينزع الطعنات/النزغ بما تجلبه من سخط أو جلبها السخط عليه ، فما هو إلاّ مَن يجب أن يتخلص منها بالرضا .. سواء برضاه هو بما قدّر الله ، أو برضا الله عليه ، أو بالرضا الناجم عن اتخاذ الموقف السليم في وقته و العفو عند المقدرة .. يقول تعالى:"وإماَّ ينزغنك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله" ، كما أنه من علامات المؤمنين وعباد الرحمن في القرآن الكريم "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس و الله يُحبُّ المحسنين" ، و يقول عز وجل "فادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة وليٌ حميم" .. ، كما أن الشاعر هنا يتأثر بالحديثين الشريفين "الحلم سيد الأخلاق" و "ليس القويّ بالصرعة ، إنما القوي مَن يملك نفسه عند الغضب" .. ، والشاعر يؤكد على المحبة و المنزلة/الزلفى ، ويستفيد أيضاً من المثل الذي يقول "كل بئرٍ ينضح مافيه" .. ، فإذا كان الخصوم أساءوا ، فهذا من معينهم ، ولا يعني أن يرد شاعرنا بنفس أسلوبهم لأنه من معينٍ أرقى ، ولذلك يختار لنفسه "الإبريق" كي يصبَّ منه "أعذبه رشفا"
    و حول هؤلاء الذين لا يتطورون ، و أغلقوا على أنفسهم ، حتى إذا مارأوا العلا صار مُلتصقاً بالمبدع ، و كأنه أدمنه بخمرٍ مُسكر انقلبوا عليه مُنشقين حسداً و حقداً .. يقول:
    عَجِبتُ مِن الأَيَّامِ مَـا انْفَـكَّ دَأْبُهَـا يَـدُورُ عَلَـى ذَاتِ الوَتِيـرَةِ لا يَغْفَـى
    أَفِي اليَومِ مَا فِي الأَمْسِ وَالأَمْسِ فِي غَـدٍ وَمَا عَرِفَـتْ إِلا الغَيَاهِـبَ وَالعَصْفَـا
    تَدُورُ بِذَاتِ الكَـأْسِ مَـا بَيـنَ نَاقِـمٍ وَبَينَ ظُنُونٍ قَـدْ شَقَقْـنَ لَنَـا جَوْفَـا
    كَـأَنَّ العُـلا لَمَّـا تَسَاقَـى مُدَامَتِـي سَقَى أَلْفَ نَفْسٍ مِـنْ تَمَيُّزِهَـا زَعْفَـا


    وكأن هذا العلا سقاهم سماًّ قاتلاً/زعْف ، فداروا مابين "ناقم" و "ظانٍ" ، وبنفس الوتيرة ، ويعجب لأمرهم ، وكأن كبيرهم لا يعقل أن الأيام تتوالى ، وشأنها ثابت المتغيرات "كلُّ يومٍ هو في شأنٍ" .. ، و في ذلك دعوة لكلِّ ذي عقل ... ، أماَّ مَنْ سار على وتيرةٍ واحدة مع المتغيرات التي تدور حوله ، لكنه شغل نفسه باصطياد عيوب الآخرين –إن كان بهم عيوب- عن نفسه الأمّارة بالسوء ، ولم يتح لنفسه فرصة التفكر أو الغفوة للاستراحة من ظنونه و اتهاماته التي يلقي بها مَن علا قدرهم ، وهو بذلك غير راقٍ و لا مُتحضر ، ويخالف الشرع باتهاماته القائمة على الظن وسوء النية "إن الظنَّ لا يُغني من الحق شيئاً".. ،

    و أما الظنون هذه و أفعال الناقمين على شاعرنا قدْ أثرتْ فيه حتى تسببت في شقوق اتسعت وانخفضت في باطنه/جوفه كما اتسع وانخفض من الأرض
    و هنا نجد الفعل "يغفى" ، وبينما الفعل الأصلي الثلاثي هو "غفا" ومضارعه "يغفو" نجد أن الشاعر "د. سمير العمري" يأتي به على أصل فعل رباعي ، و"أغفى فلانٌ" تعني أنه غفا ، و مضارعه بالواو أيضاً و نادراً ما يأتي بالألف .. !
    و في مقابلة عقلانية شاعرية بين موقفه من فعل خصومه و هجائهم له يُبين "العمري" أنهم إذا مدّوأ إليه بالكفين سوءاً ، فسوف يمدُّ لهم كفاًّ ، وقد عرَّف كفيهم ، و نكَّر كفّه هو ، وذلك لأن كفيهم الآن لايمُدان إلاَّ بالواقع الأليم ، أما هو فسيمدُّ كفاًّ بالردِّ ، وكفاًّ بالعفو ، و قد يحتمل المعنى تأويلاً آخر .. إذْ أن خصومه يمدّون كلا كفّيهم ، فهو بكفٍّ واحدة يمكن أن يردَّ كيدهم ممّا يؤكد ثقته بنفسه وقوته أمام ضعفهم و مهاتراتهم .. ، وهناك تأويلٌ ثالث لاستخدام "العمري" التكير في لفظة "كفّ" ، وهو أن العمري يعرف كيف يكفيهم ، و لا يمتدوا في غيهم .. يقول:-
    وَقَالُوا هَجَاكَ القَومُ مَـا أَنْـتَ فَاعِـلٌ فَقُلْتُ: سَلامًا لا أَمـسُّ لَهُـمْ طَرْفَـا
    هُمُ الصَحْبُ وَالأَحْبَابُ لا مِثْلَ صَاحِبٍ يُعَبِّقُ أَنْفَ العَيشِ مِـنْ نُصْحِـهِ عَرْفَـا
    وَكَمْ طَائِـرٍ أَقْلَـى مِـنَ النَّقْـرِ إِلْفَـهُ فَذَابَ حَنِينًا لَـمْ يَجِـدْ عِنْـدَهُ إِلْفَـا
    فَـإِنْ مَـدَّتِ الكَفَّيـنِ مِنْهُـمْ جِنَايَـةٌ فَمَا الفَضْـلُ إِلا أَنْ أَمُـدَّ لَهُـمْ كَفَّـا
    وَإِنْ قَدَحُوا بِالصَّدِّ فِـي القَـدْرِ مَـرَّةً فَقَدْ مَدَحُوا بِالـوُدِّ فِـي قَدْرِنَـا أَلْفَـا


    و تؤكد هذه الأبيات مدى نفاقهم ، فهم "إن قدحوا بالصدِّ مرةً ، فقد مدحوا بالودِّ ... ألفا" ، وشبه الجملة "في قدْرنا" تؤكد علمهم بقدْره و مكانته ، كما تُبين الأبيات مدى "دبلوماسية" العمري وإحقاقه للحق في قوله "سلاماً .. هم الصحب و الأحباب" ، كما تظهر الحكمة و الحنكة في قوله "... لا مثل صاحبٍ يعبّق أنف العيش من نصحه عَرْفا" ، والعَرْف هو مايستعمل للرائحة الطيبة .. ، وكذلك تصويره للطير الذي يظل ينقر في إلفه حتى لايجد له إلفا .. ، و ماهذا الجناسُ بين إلفا و ألفا .. ، و التلاعب اللفظي الطيّع لتنسكب الحروف مع المعاني في قارورة "الفكر قبل الشعر" ..!

    و لا يغفل "د.سمير العمري" أن أشعاره تعمل على المُصالحة بين الفكر و الوجدان .. ، فهو إذْ يمتاز بالفكر الناضج هو أيضاً مَن له قلبُ ، وعاطفة هذا القلب توازي العقل في التعامل مع مُدبِّري هذا الحدث المؤلم يقول :-

    وَلِي قَلْبُ عِرْفَـانٍ عَصَـرْتُ شِغَافَـهُ سُلافَ وَفَـاءٍ مِـنْ عَلائِقِـهِ صِرْفَـا
    تُرَاودُهُ الأَحْـدَاثُ مِـنْ كُـلِّ مِرْيَـةٍ فَمَا مَالَ عَنْ نَهْـجِ الوَقَـارِ وَلا خَفَّـا
    إِذَا غَرِمُـوا أَعْفَـى وَإِنْ ظَلَمُـوا عَفَـا وَإِنْ سَقِمُوا عَافَـى وَإِنْ شَتَمُـوا عَفَّـا
    وَإِنْ نَكَثُوا وَافَـى وَإِنْ غَـدَرُوا وَفَـى وَإنْ طَلَبُوا أَوْفَـى وَإِنْ بَخَسُـوا وَفَّـى


    وبالنظرة السريعة لهذا المقطع تجد تجاور الألفاظ ذات الحروف المتقاربة بطريقة مدهشة ،
    تأمل معي صديقي القارئ الحميم تجاور كلمات : أعفى ، عفا ، عافى ، عفاَّ .. ، وكذلك وافى ، وفَى ، أوْفى ، وفّى .. ، و تأتي سمة العطاء ضمنية ، ولم يُصرِّح بها لفظاً ، إنما سلوكاً طبيعياًّ ، وهذا السلوك تُحركه عاطفة القلب الذي جبل على العرفان والوفاء ، ولم ينحرف عن الوقار الذي انتهجه ، ولم يُنقص من التزامه بهذا النهج مهما راودته الأحداث بحلوها و مُرِّها ..
    و بوقار المبدع الواثق يصف "العُمري" نفسه قائلاً:-

    مُحِيـطٌ أَنَـا لِلشِّعْـرِ قَاعِـي مُمَـرَّدٌ وَمَائِيَ مِنْ عِطْـرِ الزَنابِـقِ أَو أَصْفَـى
    وَصَيدُ مَجَالِـي جَـاوَزَ المَـدَّ وَالمَـدَى وَبِنْتُ خَيَالِي لا يُحَـاطُ بِهَـا وَصْفَـا
    وَمَا كُنْتُ أَرْضَى الحَـرْفَ إِلا نَسِيجُـهُ حَرِيرٌ بِأَحْـدَاقِ الجَوَاهِـرِ قَـدْ حُفَّـا
    أُغَنِّي ؛ وَمَا فِي النَّـايِ إِلا حُشَاشَتِـي تَرَانِيـمَ قَلْـبٍ لا أَكِـلُّ بِـهِ عَزْفَـا
    بِشِعْرٍ سَرَى فِي الصَّدْرِ كَالبَدْرِ فِي الدُّجَى يُلامِسُ فِي الوجْدَانِ بِالنُّورِ مَا اسْتَخْفَـى
    وَفِكْرٍ جَرَى فِي الدَّهْرِ كَالنَّهْرِ فِي الحِجَا يُطِيبُ لأَهْلِ الرَّأْيِ مِـنْ نَبْعِـهِ الغَرْفَـا


    يصف نفسه –مع تواضعه- بأنه المحيط للشعر ، والمحيط في كافة الأشكال الهندسية هو الإطار الذي يحتوي و تتشكَّل به هذه الأشكال ، و لقد اخترت الشكل الدائري في قراءتي لهذه القصيدة لأنها تدور حول حدثٍ بعينه ، وزاخرة بتقنيات القصيدة الحديثة والتي عُرفتْ في "مسطرة النقد الشعرية" رغم تمسكها بالشكل العمودي ، كما إن هذه القصيدة "برزخ الحفظ" تزخر بتعدد الأغراض داخل إطار/محيط واحد هو "غرض العُمري" .. ، ففي القصيدة مايُمثل أغراض الوصف ،الفخر ، والحماسة ، والتسامح ، والوطني/الواحة ، والعاطفي ، والديني و .. وغيرها ، فالشاعر هنا يُعلنُ أن أفكاره جاوزت "المدّ والمدى" ، كما أن صوره الخيالية لا يستطيع الوصف أن يُحيط بها ، ولايرضى بالحرف إلاَّ إذا كان نسيجه من حرير محفوفٍ بالجواهر ، يغني من القلب و لا يكلُّ ، فالشعر عنده بيسري إلى الصدور مباشرة لأن الموروث الشعبي يؤكد أن "ماخرج من القلب دخل القلب" ، كما أن أفكاره وحُجَّته تروقُ لأهل الرأي ،فيغترفون منها ..!

    ويستمرُّ "د.العُمري" في التلاعب باللفظ و الموسيقى الداخلية –استعراضياًّ- مثل الجناس بين "في الصدر كالبدر" و "في الدَّهر كالنهر" ، كما يصف ماءه/إبداعه بعطر "الزنابق" ، ثم يعلو تدريجيا ليقول "أو أصفى" من هذا العطر ، ليضطرد النفس الشعري ، و تتوهج الرغبة في الإعلان عن نفسه أمام مايدّعيه هؤلاء الخصوم ضعاف النفوس و الحجا ، و مريضي القلوب ، و غير المبدعين حقاً إذا ما قورنوا به .. ياللردّ المُعلقة !
    و قد يرى بعضهم أن هذه الحماسة في الردّ قدْ شملت الجميع ، خصوماً و أصدقاء ، قريبين إلى نفسه أو بعيدين .. ، و ربما أحسَّ أحد المقرَّبين إليه بالإهانة ، أو استشعر تهويلاً في الوصف ، فأضمرشيئاً في نفسه ، وخصوصاً أن "د.العمري" أقرَّ بوجود تناص في أشعاره مع نصوص لشعراء سابقين ، ويبدو أن "د.العمري" الشاعر المُفكّر قد تنبّه لهذا التأويل .. ، فأجلّ الحديث عن نفسه ، وأخذ يخاطب الجميع بعقلانيته الشعرية المعهودة ، بطرح عدة أسئلة تخاطب عقل المتلقي ، و تمنع التشويش على تصوراته الذهنية .. يقول :-
    فَكَيفَ يُنِيبُ العَبْدَ مَـنْ كَـانَ سَيِّـدًا وَكَيفَ يَسُومُ النِّصْفَ مَنْ يَمْلكُ الضِّعْفَا
    وَلَو كُنْتُ مَخْبُولا لَمَا كُنْـتُ جِئْتُهَـا فَكَيفَ وَقَدْ كُنْتُ الحَكِيمَ الذِي يُقْفَـى
    وَلَكِنْ دَهَانِي بَـرْزَخُ الحِفْـظِ للِأُلَـى وَإِبْدَاعِ نَظْمِي بِامْتِـزَاجٍ وَقَـدْ أَغْفَـى
    أَمَا اخْتَلَطَتْ بِيضُ اللآلِـي وَسُودُهَـا؟ فَكَيفَ جَرَتْ فِي السِّلْكِ وَانْتَظَمَتْ صَفًّا؟


    يبدأ طرح أسئلته بسؤال شكله عام ، وجوهره يؤكد وصفه لنفسه .. ، إذْ يتساءل بحرفية شديدة تجعل المتلقين يتساءلون معه "كيف لِمن كان سيدّاً يُنيبُ عنه عبداً" ، توظيف كان هنا ليس مجرد أنه فعل ماضي ناسخ ، وإنما للإقرار بالسيادة .. ، ويتبع هذا السؤال بآخر ، وهو "هل من المعقول أن يطلب من كان يملك الضِّعف مِمَّن يملك النصف .. أي أن المدّعين لا يملكون إلاَّ ربع مايملكُ شاعرنا ، فهل يُمكن لأصحاب "الرّبع" مَنح أصحاب "الكلّ"؟ ، و ما إن يستميلُ إليه الناس يعود لأسئلته ، ولكن بشكل مباشر حول نفسه ليصل بالعقل و مشاركة فكر الآخرين معه إلى براءته مماَّ اتهمه خصومه .. "ولوكنتُ مخبولاً لما جئتها" ، والهاء هنا قد تعود على هذه الأبيات التي تناصت مع أشعاره ، أودُسَّتْ فيها ، وقد تعود الهاء هنا إلى هذه القصيدة التي نحنُ بصددها ..، ثم يتساءل :- كيف له أن يقصد القيام بما أسموه سرقة أو "امسك حرامي" ، وهو الحكيم الذي يُقتدى به ، ويقتفى أثره ، وهو قافية القصيدة التي هي جرسها الموسيقي الأول .. ، وهنا يستخدم كلمة "لكن" للاستدراك و لفت الأنظار إليه حتى يُظهر سبب ما حدث ، و يؤكد أن السبب هو كثرة حفظه لأبيات السابقين ، وكان هذا الحفظ سبباً في إصابته بداهية الامتزاج ، وإن كانت مشروعة في عالم الكتابة .. إلاّ أنها تمثل بالنسبة له "داهية"/مصيبة لأنه كان بإمكانه أن يأتي بمثلها أو بأفضل منها ، أو على كل الأحوال كان قد وضع حولها قوساً لبيان التناص ، وهذا لن يُنقص من شأنه أو شأن قصائده شيئاً ، لأن التناص أيضاً ليس عملية سهلة ، و إنما يأتي في اتساق السياق العام للقصيدة .. ، لكنها كانت سهْواً ، وتم تداركه ، و مايؤكد حُسْن النية هنا و تعظيمه لأصحاب النصوص الأصلية قوله عنهم "الألَى" دون أن يأتي بعدها بأي توصيف لهم مثل "رحلوا" مثلاً ، "تسببوا في هذه المشكلة" وخلافه .. ، إنما "الألى" هكذا فقط للدلالة على أنهم معروفون ، ولا يُمكن أن يفكر السارق في سرقتهم ..،
    ثم يُصور أن نظمه الإبداعي هو الذي غفا بالامتزاج .. ، ليختم فقرة التساؤات هذه بسؤالٍ له وقْعه الخاص بتوافقه مع طبيعة الحدث ، و لا يُدين شاعرنا .. يسأل : "أما اختلطت اللآلئ و انتظمت صفاً في العقد رغم اختلاف ألوانها ، ولم يُنقص هذا الاختلاط ، وتغيير الألوان مِن كونها أحجار كريمة ..!
    و يُنهي هذه المقطوعة التساؤلية بإسلوبها الإنشائي ، و يبدأ في التوضيح بأسلوب خبري/"تقريري" يوجبُ على المرءِ أن يستخدم العقل ليصل بالدليل لأن ليس كل مايظهر على السطح كفيلٌ أن يُبين الحقيقة التي قد لا تأتي إلاَّ بالغوص و التعمق التفكَّري ، وكذلك لأن ليس كل الناس متساويين في بساطة طرق التفكير ، وإنما منهم بسطاء التفكير ، و على نفس السياق يؤكد "د. سمير العمري" أنه يوجد مَنْ هو "عفّ القصد" ومن هو "كان ذا حقدٍ" ، وكلاهما يختلف .. ، فالأول لا يقذف و لا يسب من أخطأ سهْواً ، أما الثاني يتصيّد و كأنه –واهماً- يتحرَّى أن الأرقى يُساومُ الأدنى .. يقول:
    إِذَا دَارَ قَصْـدُ المَـرْءِ دَارَى رَشَــادهُ وَسَاقَ دَلِيلَ العَقْلِ فِي الحُكْمِ وَاسْتَكْفَـى
    وَمَا كُلُّ مَا يَبْدُو مِـن الأَمْـرِ ظَاهِـرًا كَفِيلٌ بَأَنْ يُجْلَى الصَّوَابُ بِـهِ كَشْفَـا
    فَمَنْ كَانَ عَفَّ القَصْدِ صَـدَّقَ وَاتَّقَـى وَأَدْرَكَ أَنَّ السَّهْـوَ لا يُوجِـبُ القَذْفَـا
    وَمَنْ كَانَ ذَا حِقْدٍ عَلَى الشَّأْنِ وَالسَّنَـا تَحَرَّى الثُّرَيَّـا أَنْ يُسَاوِمَهَـا الخَسْفَـا


    وساخراً من هذا الحاقد يقول "العمري" :-

    يَظُنُّ بِرَجْـمِ النَّجْـمِ بِالوَجْـمِ شُهْـرَةً وَيَحْسَبُ أَنَّ الشَّأْفَ فِي صَدْرِهِ يَشْفَـى


    يبدأُ البيتَ بكلمة "يظن" مماَّ يؤكّد أنّ هذا الحاقد على خطأ ، ولذلك يؤكد "د.العمري" أنه نجم ، ولا يؤتي رجمه بأي ثمرة للراجم ، حتى وإن وَجمَ/ سكتَ هذا النجم، فلن يحظى بالشهرة في المقابل مَنْ رَجم .. ، ولن يشفى قرْح صدره لأنه حاقدٌ و ناقمٌ بطبعه ، والعياذ بالله
    و على النقيضِ تماماً نجد أن مَن رضوا بما قسمه الله ، رضي الله عنهم و أرضاهم ، و في القول المأثور : "أنه إذا قدّر الله لنعمة أن تنتشر قد يُسلِّط عليها لسان حاسد" .. ،
    يقول شاعرنا:-
    أَرَانِـي كَـأَنَّ اللهَ بِالخَيـرِ خَصَّـنِـي فَقَيَّضَ لِي الحُسَّـادَ تَخْدِمُنِـي عَكْفَـا
    كَسَونِي كِرَامَ القَومِ تَسْخُـو بِفَضْلِهَـا وَعَرَّوا لَئِيمَ النَّفْسِ يُبْدِي الـذِي أَخْفَـى
    وَإِنِّـي أَمُـدُّ الـكَـفَّ للهِ سَـاجِـدًا بِشُكْرٍ وَقَدْ أَهْدَى الكِـرَامَ لَنَـا صَفَّـا



    و حقّ للشاعر "د.سمير العُمري" أن يفتخر بما قدّرهُ الله ، وسلّط عليه لسان الحاسد ، فتجمع الكرام ، و أيدوا الحق ، و لماّ انتصر "العمري" وجَب عليه أن يخرَّ ساجداً لله حمداً و شكراً على أن نصره ، و أهدى له كراماً و قفوا بجانبه .. ، وهذا الحدث يتكرر كثيراً ، ولكن المهم مَنْ تنفعه العِبرة ،
    و لأن الله عز وجلّ قال في كتابه العزيز : "و لا تنسوا الفضل بينكم" ، كما أن القول المأثور يقول "مَنْ لم يشكر الناس لا يشكر الله" ، فقد بدأ "د. العمري" في سرد أسماء الذين ناصروه ، وسماتهم حتى وصل إلى خاتمة النص بتفاؤلٍ لتوكيد أن شموس النور في " الواحة الثقافية" ستعلو ، و يسري دعاة الخير مستظلين بها ، و قدْ كوّنوا حلفاً مترابطاً ، ومعتمدين على الله الذي لا يُخيّب رجاء مَن استعان به ، وَ مَنْ أوجده الله فَمَن يلغي وجوده؟

    يقول "د.سمير العمري" ، وحتى نهاية النص :-

    بِحُرٍّ سَلِيـلِ المَجْـدِ مِـنْ آلِ غَامِـدٍ وَلَو قَامَ فَـرْدًا لِلجُنَـاةِ فَقَـدْ كَفَّـى
    وَهَذَا نَدَى مَحْمُودَ قَـدْ زَادَنِـي أَخًـا وَهَذَا جَلالُ الصَّقْرُ قَدْ فنَّـدَ السُّخْفـا
    وَكَانَ شَذَى الإِنْسَـان مِـنْ أُمِّ ثَائِـرٍ فَرِيدٌ وَمِنْ أُخْتِـي وَفَـاءَ أَرَى العَطْفَـا
    وَمَازِنُ هَذَا البَـرُّ ذُو الـرَّأْيِ عَاضِـدًا وَسَالِمُ صِنْوُ النَّفْسِ قَـدْ عَطَّـرَ الأَنْفَـا
    وَفَضْلُ الخُدَيدِي سَابِـقٌ غَيـرُ لاحِـقٍ وَزِيدَانُ ذُو الإِحْسَانِ بِالوُدِّ قَـدْ أَلْفَـى
    وَأَسْمَعُ مِـنْ زِيبَـارِ لِلفِكْـرِ صَوْلَـةً فَيَحْلُو لِعَقْلِ الحُرِّ مِـنْ كَرْمِـهِ قَطْفَـا
    ونَادِيَـةُ الإِصْـرَارِ هَـمًّـا وَهِـمَّـةً وَجُهْدُ رَنِيمِ الصِّدْقِ لَمْ يَعْـرِفِ الخلْفَـا
    وَزَاهِيَـةٌ بِالحَـقِّ وَافَـتْ فَأَنْصَـفَـتْ وَوَافَقَ فِيهَـا المَنْطِـقُ الدِّيـنَ وَالعُرْفَـا
    وَزَهْرَاءُ وَالشَّحَّـاتُ وَالخَالِـدِي مُنَـى وَمَرْحَةُ وَالغَنَّامُ قَـدْ أَنْصَفُـوا الحَرْفَـا
    جِهَـادُ وَعَبْـدُ اللهِ وَالشَّهْـمُ عَـايِـدٌ وَيَحْيَى وَنَجْوَى وَالحُسَينِيُّ مَـنْ أَضْفَـى
    وَرِيـمُ ، ثُرَيَّـا وَالعَطِـيَّـةُ والــذِي يُحَدِّثُ أَهْلَ الحَقِّ حُسْنًـا وَمَـنْ قَفَّـى
    سَتَعْلُو شُمُوسُ النُّورِ فِي وَاحَـةِ العُـلا وَيَسْرِي دُعَاةُ الخَيرِ فِـي ظِلِّهَـا حِلْفَـا
    وَمَنْ كَانَ رَبُّ النَّـاسِ فِيهِـمْ حَسِيبَـهُ فَلَنْ يُزْدَرَى فِي القَدْرِ يَومًا وَلَـنْ يُنْفَـى



    و يبقى ..
    كانت هذه القراءة المُكُثفة التفاصيل لقصيدة "برزخ الحفظ" للشاعر القدير الدكتور سمير العمري رئيس رابطة الواحة الثقافية ، ومدير عام ملتقاها ..
    دامت أوردة الإبداع في تماسٍ مع شرايين الفكر الشعوري ، ودائرة أحداث حوار الثقافات عبر الشبكة العنكبوتية حتى يصبَّ النهر في منبعه ..
    تحياتي و تقديري

  7. #7
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءتي في قصيدتي "الخط الأحمر"



    يقول النص :-



    أحببتك سراً فى الألوانْ
    أحببتك " رضوى " عولمةً
    فى خصخصة الإنسانْ
    وسجلا مدنيا أستخرج منه بطاقة أشعارى
    وأدون ذاكرتى عبر الدش وعبر النت ، وعبر النسيان
    رضوى
    أحببتك أمى " مؤمنةً " ، أحببتك آسيا ، مريم و الزهراء
    و" مزايا " الـراء
    لمعت فى عينيك سطور الشغب الأخضر
    رسمت كلمات الضوء على الجدران
    قالت :-
    " إن كنت عروسا فاحملنى ،
    اخلعنى من بطن الأرض السمراء
    اجعلنى أغنية ، شاعرة ....وأهم الأنباء
    اقرأ نيلا ....سينًا ...، جاتـاً وفراعين
    ودعاءً من كن فيكون
    ولتكشف عن كشر وطنى فى باب التنوين
    اقرأ " أيلول " النار
    وجنون قطار
    وليكتب جمهور العلماء
    المَهر عزاء
    المُهر عزاء "
    قدساً أحببتك فاتحةً .... باب النصر
    أحببت تراتيل البيت المنهار
    وأزحت الهيكل فى الأخبار
    ورفعت كتاب الوردة و الصبار
    حان العصر
    سقطت فى جسدى أوردتى
    ودمى يقطع شريان الدار
    فعرفتُ الكونَ أُطلِّـقُه علِّى أختارْ
    رضوى .......
    قد أعرف أنك سيدتى
    قد أعرف أن الشمس تغيب وتشرق خلف النهد
    و الحب يقين مشكوكٌ لا يزرع إلا فى رحم اليدْ
    و الخط الأحمر أكد أنى مذبوحٌ ، وغصونى تصلب إيقاع المدْ
    قدْ أعرفُ أشياءً شتَّى
    وأُعصفرُ وجهى حين أُدغدغ لَيْلى المُمتدْ
    قد أعرف كل صباحات الدنيا ، ومفاتيح السدْ
    لكنى لم أعرف أبداً .. كيف يكون الردْ



    1- النص في بنيته الشعرية ينقسم إلى ثلاثة من المقاطع والأحوال

    أ- الحالة الأولى:-
    تبدأ من المفتتح (أحببتك سراً في الألوان) وتنتهي عند (فعرفتُ الكون أُطلِّقه .. علِّي أختار) وهي حالة إطلاق التعميم في كون وفضاء النص، وهو يحمل فعلاً قد تم ولكنه مازال مستمراً في (أحببتك – قرأتُ – عرفتُ) وعلى هذا فهو إطلاق للمعنى والشكل
    ب- الحالة الثانية :-
    تخصيص التعميم (تكرار قد) وهي حالة تؤكد حقيقة الوجود وصراع التضاد،بل والجمع بينهما في وجود الإنسان الشاعر، فالشاعر في ذاته إطلاق، وفي علاقاته بالآخر نسبي
    ج- الحالة الثالثة :-
    وهي مختتم النص (لكني لم أعرف أبداً .. كيف يكون الرد)
    وهي حالة الإقرار بالقصور في إدراك الغايات العظمى فيما وراء تأملات ما وراء النص

    2- النص قسمان :-
    ا- القسم الأول:
    يمثل حركة الكلي في صورة الشكل فنياً وفي المضمون والمجاز الدلالي للمعنى ويبدأ من : (أحببتكِ سراً) وينتهي عند (علِّي أختار)
    ب- القسم الثاني
    ويمثل حركة النسبي في تكويناته الدالة والمُصوَّرة والموظفة تماماً لتتوائم مع جمال اللقاء بين المتناقضات والمستقرة في شكل ومعنى الوجود الإنساني للشاعر

    3- (رضوى) ...
    لم ترد إلا بعد مفتتح عاشق مُتيم بأجمل أدوات الفن التشكيلي والتي مثلَّت ( سراً في الألوان)
    *ما رضوى هذي ؟!
    إنها تتكون من أربعة حروف :-
    *حرف الراء ذو الإيقاع الموسيقي الهادر والممثل لمساحة صوتية
    تطريبية متسعة،
    *حرف الضاد وهو بيت القصيد الأول والمحوري للقصيدة، فهو
    إسقاط على لغة الضاد وهي العربية الفصحى
    ** أما الواو والياء فكلاهما حرف علة، وحروف العلة لا توجد إلا في لغة الضاد، فهو اختيار دقيق وموظف تماماً لخدمة القصد الشعري
    وإذا رددنا حرفي العلة إلى الأصل تأتي الألف، ومن ثَمَّ تتحول (رضوى) إلى (رضا) وهنا تحمل لغة الضاد جمالاً وكمالاً أخلاقياً يعني القناعة، فضلاً عن استدعاء الإشارة السريعة للألف المقصورة والمنقوصة في " العربية"، بالإضافة إلى امتلاكها حركة التنوين وهي من سمات اللغة العربية، وعبر قصيد قصير ومكثف تأتي الألفاظ المنونة ( سراً –عولمةً – سجلاً مدنياً – عروسا – أغنيةً شاعرةً فاتحةً – يقينٌ مشكوكٌ – أبداً )

    4- قضية أولى :- ( سراً في الألوان)
    - الألوان هي أداة الفنان التشكيلي في رسم الصورة للمعنى الشعري، وهي إما ألوان بسيطة تكون ألوان الطيف، وإما مركبة لامتزاج خصائص ودلالات الألوان
    والمعنى أني أتعبد وأتهدج في قدس الألوان،فهي لغة معبرة للأصم والأبكم فضلاً عن فونيماتها الصوتية المعبرة أيضاً من خلال القصيد حتى لا يُحرم من روعتها الكفيف ؛ وكأنها لغة جمعت كل أشكال وأحوال المتلقي

    - (أحببتكِ رضوى عولمةً) :- والعولمة هنا لا تعني الإسقاط السياسي والاقتصادي، ولكنها تعني عالم لغة الضاد، فهي استعارة الواقع في إبداع أدبي، ثم يؤكد هذا السياق الذي يمثل واقع الحياة بتجريده وتوظيفه لخدمة المعنى، وبالضبط في (خصخصة الإنسان) لا تعني الخصخصة هنا المراد الاقتصادي، بل تؤكد خصوصية الإنسان، ومن ثم تلتقي العمومية في فضاء العشق بذاتية الشاعر وهي من مواطن الجمال في صياغة السياق

    - ( وسجلاً مدنياً) والمقصود به هذا الكتاب الذي " لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"، فهو تاريخ الإنسان سيد هذا الكون ..، وهذا جانب أول، أما الثاني فيعني أن لكل إنسان شاعر ديوانه الذي هو كينونته المتفردة خلقاً وخُلُقاً، تلك الكينونة التي تمثلها مجموعة قيمه الجمالية
    ولجمال الاشتقاق في تضفير وغزل لغة السياق الشعري وعلى مستوى الصورة والمعنى في ( أستخرج منه بطاقة أشعاري) ..، فهناك علاقة بين السجل المدني والبطاقة .. وأُدون (أُسجل ) في ( أُدون ذاكرتي عبر الدش وعبر النتِ وعبر النسيان)، وهنا نلحظ العلاقة بين التدوين والسجل، وكأنه ذاكرة الإنسان التاريخ، وبأدوات هي في محمل الجدل والتضاد، فالدش والنت تقنيتان تتم فيهما عملية الاحتفاظ بوقائع العمران البشري، ولكن دون حكمة الوجود الشعوري، وهو احتفاظ بالحلو والمر معاً، وهنا تظهر فضيلة النسيان على ذاكرة البشرية كونها شاعرة لا تحتفظ بما يكدر صفو الحياة، وإنما إذا كانت الذاكرة تحمل ذكرى تنفع المؤمنين للمحافظة على الهوية من خلال التاريخ المحفور في هذه الذاكرة والتعلم من الأحداث حلوها ومرها، فتتحول الخسارة إلى مكسب فلا مجال للنسيان وعلينا أن ننسى هذا النسيان

    5- قضية ثانية :-
    - ( رضوى .. أحببتكِ أمي مؤمنةً / أحببتك آسيا ..مريم والزهراءْ/ ومزايا الراء)
    عشقتكِ جوهراً إيمانياً للأديان السماوية الثلاثة بالإشارة السريعة من خلال "آسيا" زوجة فرعون والتي كانت أول امرأة تؤمن بموسى (التوراة) وكذلك فهي أول شهيدة، والإشارة إلى "مريم" العذراء أم عيسى (الإنجيل) ومن خلال الإشارة إلى " فاطمة الزهراء" ابنة محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن) تتم كل المزايا وفي ضوء حرف الراء ذلك العامل المشترك بين " رضوى" والعربية والتطريب

    - (لمعتْ في عينيكِ ...) عود لأداة الشاعر في رسم صورة المعنى، وهنا يُستخدم لونٌ لا لون له وهو اللون الشفاف، وفيه من النقاء والطهر ما يجعله لغة صوفية تتصل بالخصائص التكوينية للغة الضاد

    - وتأكيد على علم الألوان يأتي الضوء، وهو رمز للون الأبيض ويظهر في السطر الشعري( رسمتْ كلمات الضوء على الجدران)، فكلمات الضوء حقيقة علمية وتقنية معاصرة، ورغم هذا وردت في محل المجاز الأدبي، أما الجدران فهي تمثل الأرضية ولابد وأن تكون بلون مغاير للأبيض حتى تظهر الصورة الضوئية، وغالباً ما تكون سوداء، ونستدل على منظور الرؤية بأنه أُفقي يمثل بؤرة هي العين الشاعرة، ثم اتساع دائرة الضوء على الجدران هو الصورة والخلفية

    - (قالت) انتقال من ضمير المناجاة فيما قبلها إلى التعددية في الأصوات متمثلة في ضمائر السرد ليتحول إلى حوار تنبعث منه الحركة والحياة

    - (إن كنت عروساً فاحملني، اخلعني من بطن الأرض السمراء، اجعلني أغنية .. شاعرة .. وأهم الأنباء)، ونلحظ هنا الشرط بـ إن دلالة على أنه شرط محتمل الوقوع فعلاً ..، وكلمة " عروساً " إسقاط ورمز للون الأبيض، ثم تأتي أفعال الأمر الثلاث (احملني،اخلعني،اجعلني) وهي تتسق مع حال العرس وما يحدث فيه ..
    أ- يمكن التأويل للمعنى الحسي للشعر هنا بأن الرجل يحمل أُنثاه العروس بين كفيه،ثم يُخلِعها الثياب، ثم يجعلها امرأة كاملة النضج والنشوى
    ب- تأويلٌ آخر .. لغة الضاد هي عروس لغات العالم، رجلها يحمل مسئولية الدفاع عن شرفها وكرامتها ومنزلتها بين اللغات الأخرى

    - وفي ( اجعلني أغنية .. شاعرة.. وأهم الأنباء) استعارة أخرى، ففي حال القصور الحسي ماذا يفعل الفارس بعروسه ؟! وهنا ترتقي عنه الصورة ورقتها،فتتمنى أن تكون أغنية، وتلك أول خصائص لغة الضاد التكوينية، ثم يردف في فعل (الخلع) الذي يحتاج إلى قوة في الانتزاع من " من بطن الأرض السمراء"

    - البطن السمراء : هذا التعبير ازدواجي المعنى
    أ – فيه إشارة إلى رحم التربة النيلية التي شكلت الإنسان المصري وخاصة في الجنوب
    ب- المعنى المراد هو طلب إزاحة الهموم والكدر والحزن الأسود الذي تتعرض له العروس وهي ذاتها اللغة العربية ولغة الألوان

    - ثم تأتي الخاصية الثانية للغة الضاد ( الشاعرة) من الشعور المتألق، المتوهج ، فإنها لغة تطرب لها العواطف، ولكن حتى لا يفهم البعض أن الحوار قد ينتهي بمجرد طلب يحمل شكل التمني أو حتى الرجاء، فأعلن النص أنها حقاً سيدة لغات الكون جميعأ في ( وأهم الأنباء)، وهو تعبير مبتكر في صياغة صورة شعرية مع الاستدلال على دلالته بتجريد المعنى

    6- قضية ثالثة ( قُدْساً أحببتكِ فاتحةً)
    قدس هو دلالة لمكان محدود وواضح وفي محل التقديس من المسلم والمسيحي، وهو مشتق من القداسة أي التعظيم والإجلال، وهو مكان العبادة لمن آمنوا بكتاب العهد القديم ( التوراة) ثم آمنوا بالعهد الجديد(الإنجيل)، وهي كذلك مكان أولى القبلتين لمن آمن(بالقرآن الكريم) ومسرى نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم إذن فهي تمثل الكثير ولابد للشعر أن يفصح عن القصد، فكانت تلك العلاقة بين (قدساً) و(فاتحة) لتؤكد قداسة لغة القرآن الكريم والذي أتى بذكر سورة "الفاتحة" من القرآن الكريم دلالة ارتباطية للتوثيق، ولأن القرآن تمام ما قبله من التوراة والإنجيل، ثم يأتي بصفة مجازية ألا وهي (الترتيل)، وتأتي كذلك صورة (البيت المنهار) دلالة تشبيهية قوية بين اللغة العربية التي هي بيت راسخ، وما تتعرض له في هذه الأيام من تعديات وعبث وتسفيه في لقطة (المنهار)

    - (وأزحت الهيكل في الأخبار)
    استبعد الشاعر اللغة العبرية من مضمار جميلة الجميلات لغتنا العربية (لغة الضاد) مستبعداً بذلك الجنس الناطق بالعبرية رغم أنه لم يستبعد اليهودية في القصيدة وأشار إليها برمز هو هيكل سليمان عليه السلام

    - ثم يعتلي صدارته (وقرأتُ كتاب الوردة والصبار)، ولكن ما الكتاب هذا؟
    إنه سجل تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وكيفية الاستدلال في (الوردة والصبار)،فالوردة هي عطر فجر الإسلام، والصبار هو قوة المسلم اشتقاقاً من قوله تعالى :-" فاصبر الصبر الجميل) وهو قوة التحمل والمقاومة، وإلا فالصبار موجود في بقاع الأرض

    - (سقطت في جسدي أوردتي) .. عودٌ لما قبل حيثُ البيت المنهار، ففعل السقوط هذا إن رآه البعض أنه حدث للغتنا العربية، فإن الشاعر العربي (النسري) جعل من جسده مكاناً للسقوط،ثم تلاه بصورة تمثل موسوعية النص الشعري من المعارف والعلوم فأتى بالأوردة التي تحمل الموت في خلايا الجسد ليُعلن عن العلاقة الارتباطية بين جدلية الحياة والعدم في (ودمي يقطع شريان الدار)، فيصبح الوريد في مقابلة الشريان بما يحمل من حياة ونمو الصراع بين الموت والحياة ، أما الدار فهي القلب العامر بالإيمان، ومنه الحياة كما ينبغي

    - ( عرفتُ الكون أُطلِّقه) .. عرفتُ فعل حاد قاطع لتوكيد استمرار ما قبله ..، والمعرفة تامة بجمال الآيات الكونية التي بمعرفتي (أنا الشاعرة) وإلمامي بخصائص لغة الضاد والتي هي لغة القرآن ومضمون التسمية (العربية) .. أما (أُطَلِّقهُ) فهو لفظ مفتوح التأويل كـ رضوى – عولمة – خصخصة – سجلاً مدنياً – احملني – اخلعني – اجعلني – فاتحة – الهيكل – الأخبار – كتاب الوردة والصبار – الدار – النهد – مشكوك – رحم اليد – تصلب – مفاتيح السد – وأخيراً إجمالي المعنى والدلالة في سؤال المختتم (كيف يكون الرد)
    وهنا استخدام العكس الشائع في أنه انفصال بعد لا تلاقي،بل استخدمت كصفة هي الإطلاق أي التعميم الكلي وتلك حال لغة الضاد أو هكذا ينبغي

    - وتأتي صيغة شعرية مُحيرة على مستوى الشكل (علِّي أختار) .. ولكن كيف تكون الحيرة وقد سبقها مباشرة فعل تمام المعرفة (عرفتُ) ؟ ..الشاعر هنا لا يُدلل على وجود الحيرة وإنما يؤكد على إظهار خاصية معنوية للغة الضاد –من قريب- وهي الحرية وإرادة الاختيار في أن أجعل لغة الضاد هي سيدة لغات العالم، وهذا حالنا اليوم بين مدافع ومهاجم !

    7- قضية رابعة
    - (رضوى .. قد أعرف أنكِ سيدتي) وحتى نهاية القصيدة – قسم سمته الإقرار بالنسبية والاحتمالية ومن ثَمَّ جدلية التواجد بين السالب والموجب، بين الجمال والقبح، بين الخير والتدني

    - (قد أعرف أن الشمس تغيبُ وتشرق ..) أي أن الشاعر ينقل من حال الأخلاقيات وسيادة اللغة وجمالياتها إلى واقع الحياة وسنة التغيير مُعتبراً أن قد تكون كبوة، ولكن سرعان ما يُرفع الكرب والغم والظلم بسواعد فتيان الأمة العربية المسلمة لتعتلي عرش اللغات، وتعود الأمة إلى لغة القرآن الكريم المحفوظة بحفظ الله لهذا الكتاب

    - (خلف النهد) الشاعر قد حدد منظور الرؤية قبلاً بأنه أفقي مستقيم ومن ثمَّ فالنهد كحجم هو أشبه بالهضبة أو المرتفع أو الجبل، و يصبح ما خلف الساتر غير مرئي لوجود ظلال اللون المضيء، تلك الظلال هي منطقة الصراعات الموقوتة، ثم إن اللغة العربية الفصحى في فحواها الشعري (نهد) يروي الحياة وأداة الخصوبة والإنجاب الجميل

    - (الحب يقينٌ مشكوكٌ) .. حالة ظاهرة من اللبث، فثمة علاقة بين القول السائد عند الغزالي وديكارت وتلك العلاقة بين الشك واليقين، ولكن ليس هذا هو المقصود فـ (مشكوك) تعني مغروس ، ومزروع

    - (لا يُزرع إلاَّ في رحم اليد) .. يأتي فعل يزرع تأكيداً لفعل الشك بمعنى الغرس والزرع، ولكن من أعجب الصور بلاغة (في رحم اليد) !
    فالرحم شكل بيضاوي قادر على الحمل، وراحة اليد حين تلتصق الأصابع وتتكور ترسم رحماً قادر على الحمل ! ولكن يبقى سؤال : لماذا رحم كف اليد ؟ وتصبح أقرب الإجابات للقصور لأن الحب قول صدَّقه العمل، فإن كنت عاشقاً لها (لغة الضاد) فهذا وحده لايكفي، فكما ورد سابقاً ( إن كنتُ عروساً فاحملني)، ثم لحياء التعبير وعفة التصوير

    - (والخط الأحمر أكد أني مذبوح )

    - الخط الأحمر سيراً في التعبير بالألوان وكائناً في حضرة لوحة لفنان تشكيلي، والأحمر هنا رغم دلالاته المتعددة والمتضادة، يقصد به (الخطر –الموت)، فما آلت إليه اللغة العربية الآن أثر الهجوم الشرس الدامي جعل معظم الآمال تخبو وتخفت – في نظر الشاعر- ولكن إرادة الشاعر اليانعة الفتية تقف تقاطعاً أمام هذا التيار الفج والقبيح الذي استباح عفة وحياء الأنثى (اللغة) وعلى قارعة الطريق،حيث ( وغصوني تصلب ُ إيقاع المد)

    - (إيقاع المد) ..، فالإيقاع مجموعة من النغمات والجمل الموسيقية المتواترة في هرمونية التأمل التطريبي وهي الإطار العام للحن المعروف وكلها صفات إيجابية حتى وإن كانت طبول الحرب ! والمدُّ لغة منطوقة تثير رغبة الماء العارمة، فيستشيط غضباً هادراً تصبح أمواجه في محل إيقاع الطبول .. ولكن الشاعر هنا لم يقصد هذا، بل الصورة الخلفية للمد تكون في هجوم الماء العنيف على الشاطيء الساكن لينخر فيه فيتآكل شيئاً فشيئاً بفعل تلك التيارات الأدبية الوافدة والمغرضة والموجهة نحو عفاف وحياء وطهر اللغة، وفيما تستخدم الكلمة الآن ؟!


    - 8- قضية خامسة
    - (قد أعرف أشياء شتى /وأعصفر وجهي ..حين أدغدغ ليلي الممتد)

    - العصفرة من العصفور وهو من رموز الجمال الباش، وفي هذا تكلف وتصنع لا يُراد به النفاق وإنما محاولة إدخال الطمأنينة إلى النفس بأن هناك أمل ورجاء في إزاحة هذا الكابوس الجاثم في صدور الليل

    - ( قد أعرف كل صباحات الدنيا ومفاتيح السد)
    نلحظ هنا (قد) ثم يليها (كل)، فالأولى احتمالية زمانية، أما الثانية فهي حد منطقي يعني الكل الجامع المانع، فهو العمومية على الإطلاق، وفي هذه المقابلة جمال العلاقة بين الكلمة والنسبية في سياق واحد متسق، وما بين (ليلي الممتد)، (كل صباحات الدنيا) جمال الجمع بين المتضادات في آية ونية، فسبحان الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وكأنه يقول " قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله"
    وتأتي تلك الصورة المبتكرة ( ومفاتيح السد)، فالسد صرح عال صلب يتكون من جسم قوي مكون من غرف لها أبواب تختزن وتصرف طبقاً لأمر الفعل بالعطاء أو المنع ..، فقد يعلم الشاعر ما وراء ظاهرة الحداثة الأدبية التي تطلق شعار حرية الأديب المطلقة في كسر كل الثوابت من أجل فك قيود الإبداع والتحرر من تراث السلف بما من جماليات وهذا الخروج ضرورة أدبية حتى وإن كانت على حساب القيم الجمالية السماوية أو الأخلاقية السلوكية المستحبة والتي تمثل (بصمة) هوية الشعر العربي، ورغم أن هذه الدعاوى الوافدة يؤمن أصحابها بالنسبة في كل إلا أن مطلبهم مطلق، فكيف يستويان ؟! فنحن نؤمن تماماً بأن للكون إله واحد هو لون لا لون له، وهو لون الألوان .. إن جاز لنا وصفه، وهذا هو إيماننا بفكرة المطلق، أما نحن فوجود نسبي يولد ليموت، فلا خلود، ورؤيانا مهما أُتيتْ من الموضوعية فهي كذلك احتمالية ولا يقين إلا فيما ورد في ( الكتاب )بالإضافة إلى أننا في ذواتنا في حال من الإطلاق حين نختار الأفعال الحياتية لذا كان الثواب والعقاب المترتبان على حرية الإنسان المطلقة في اختياراته الحرة أما ما عدا ذلك فالحياة نسبية في وجودها بكل ما تحمل

    - (لكني لم أعرف أبداً كيف يكون الرد)
    وتلك ختام لثلاثية المعرفة الحقيقية التي وردت في نص التنزيل

    - يقول تعالى:-"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" ويقابلها (قد..)
    - ويقول عز وجل " وفوق كل ذي علمٍ عليم " ويقابلها ( قد أعرف كل صباحات الدنيا)
    - ويقول سبحانه وتعالى" والله يعلم وأنتم لا تعلمون" وتلك هي خاتمة القصيدة في ( لكني لم أعرف أبداً ) وهي بيت القصيد في القصيدة مجاورة مع رضوى

    نستخلص ما يلي:-

    1- النص الشعري قصة عشق لمعشوقة، وتلك خاصية الصوفية

    2- المعشوق بالمباشرة لغة الضاد، وفيما وراء النص هو الإسلام، وقمة العشق الأوحد هو الله قمة قمم التجريد التصاعدي للغة الضاد

    3- الشاعر فارس نبيل، وقضيته أنبل منه، فهو المدافع عن الهوية والكينونة، ثم المؤمن بقداسة لغة الضاد والتي هي السبيل العاشق للدخول بغير وعي في حضرة الجمال والحب المطلق

    4- إن النص قسم إلى نصفين وثلاث درجات من المعرفة وثمان قضايا:-
    أ- قسما النص :-
    - النصف الأول :- يحمل فضاء الرؤية الكلية العامة من المفتتح وحتى " علِّي أختار"
    - النصف الثاني :- يبدأ من أول " قد أعرف أنكِ سيدتي " وهو انتقال من العموم إلى الخصوص، ومن الكلي إلى النسبي
    وفي كلتا الحالتين يبحث النص عن الحقيقة ..، تلك الحقيقة المطلقة الإلهية والحقيقة النسبية للخلق
    ب – النص يتعرض إلى ثماني قضايا هي مقطوعات وحالات شعرية ليست بالمنفصلة، فدائماً كانت " رضوى " هي أداة الربط والتوثيق والاستمرار لما قبل وبعد
    ج- يحمل النص ثلاث درجات من المعرفة بدأت باليقين (مفتتح النص) وحتى (عبر النسيان)
    • والمعرفة النسبية الاحتمالية في التخصيص المتعدد في ( أحببتك آسيا .. مريم والزهراء) وحتى (علِّي أختار)
    • المعرفة النسبية الذاتية المحضة والتي بدأت (رضوى .. قد أعرف أنكِ سيدتي) وحتى نهاية القصيدة

    5- تقييم التجربة الشعرية والفنية للنص :-

    أ- بنية الشكل ومفرداتها :-
    - اللغة :- فصحى وليست معجمية، يتداخل معها المستحدث من المعرب اللفظي للوافد من المصطلح (سجلاً مدنياً، عولمة، خصخصة، الدش، النت) وهذا على مستوى الشكل وليس المضمون بالإضافة إلى دِقة اختيار الأصيل والمعرب وتوظيفه جيداً لخدمة دلالة الصورة، فلعب الاشتقاق دوراً في تغيير المعنى اللفظي، على مثال
    "عولمة" :- والمقصود عالم، "خصخصة" :-والمقصود خاصة، "أُطلِّقه":- والمقصود الإطلاق والتعميم، "مشكوك" :- ومقصودها مغروس

    - الوصف والسرد الشعري :- اعتمد النص على الوصف بدلالات الألوان، فكانت خلفية تبنى عليها أعمدة المعاني والدلالة، أما السرد لم تكن فيه خاصية الحكاية بل الحالة (سجلاً مدنياً –أستخرج منه بطاقة أشعاري –وأدون ذاكرتي)

    - الإيجاب والنفي :- النص إيجابي الحركة من أوله في الفعل على المستوى التأملي والشعوري والحسي .. حتى يحل النفي في مختتم القصيدة بالسطر الأخير ( لكني لم أعرف أبدأً كيف يكون الرد)

    - المباشرة والرمز :- اعتمد النص في بنائه على البساطة وسلاسة الكلمة الشعرية مع تشفير بعض منها (سراً – رضوى – عولمة – خصخصة – سجلاً مدنياً – المقابلة بين الدش والنسيان – الشغب الأخضر في مقابلة إيقاع المد – كلمات الضوء على الجدران – فاحملني – اخلعني – اجعلني – أهم الأنباء – فاتحة – قدساً – البيت المنهار – أزحت الهيكل في الأخبار – وقرأت كتاب الوردة والصبار – أُطلِّقُهُ – علِّي أختار – خلف النهد – مشكوك – في رحم اليد – إيقاع المد – مفاتيح السد )

    - الواقع – التخييل – العاطفة :- دلل الشاعر على إتقان خبرته الشعرية في مزج الواقع بالخيال الأدبي والعاطفة المحمومة دون تردد أو تأرجح بين القوة والضعف إلا حيث الضرورة كانت مطلوبة للدلالة والمعنى

    - فضاء النص :-
    1. بدأ تكوين خلفية البوح في الاستهلال على فضاء رحب جمع كون السماء وكون الأرض في ملحمة دراما الألوان على العموم ..!، ثم ضاق قليلاً نحو تخصيص العموم (أشعاري – ذاكرتي)، ثم تلاها بعمومية الخصوص (مريم والزهراء)، ثم الخصوصية الصرف (قالت – احملني – اجعلني – أحببتُ – أزحتُ – قرأتُ – دمي )، وفي هذا كله يتخذ منهجه عن يقين في بوحه
    2. ثم انتقل إلى فضاء "الأنا" معتبراً أن فضاء الـ "أنا" هونفسه فضاء الـ"هي" بما هي شمس تخضع لناموس التغيير والتحول، ومنها يعاود الانتقال إلى الفضاء الأرحب ( فالحب يقين ) وإن كان من منظور الشاعر _ متمثلاً في الأنا_، وتستمر خصوصية الشاعر حتى يصل إلى لب القضية ( كيف يكون الرد ؟! )
    - زاوية الرؤية :- قد يرى البعض أن زاوية الرؤية كانت مستقيمة حادة في النصف الأول من القصد الشعري، ثم تحولت إلى رؤية مؤمنة بالتغيير والتحول،فانكسرت تلك الحدة ودخل القطع المؤكد إلى احتمالية صدق الرؤية، ثم انتقل إلى فضاء النفس الشاعرة ليقطع باستحالة الرؤية تماماً ..!!
    والحقيقة أن زاوية الرؤية كانت مستوية متعمقة ومتغلغلة في الأحداث وترقب التغيرات الحياتية بعينٍ أدبية ناقدة لكنها كانت تأخذ من التمويه طريقاً للوصول إلى الحقيقة والحل الإيجابي كطبيعة الإبداع من حيث التمرد على المألوف وإيجاد حلول إيجابية بعد الاستفادة من الخبرات والتجارب

    شخصية النص :-
    1- شاعرة :- عميقة التأمل،متمكنة من التطريب والقصد وصادقة المشاعر، موسوعية المعرفة، وخاصة في توظيف الفنون لخدمة تشكيل وصياغة الصورة الشعرية بالرسم بألوان الكلمات، ورغم أن المعشوقة ( لغة الضاد ) عظيمة القدر تجعل كل سيءٍ أمامها قزماً إلا أن الشخصية الشاعرة هنا تؤمن إيماناً لا يتزحزح بقوتها من خلال هذه المعشوقة التي سُجِّل بها في كتاب الله قوله تعالى " إنا نزلنا الذكر وإنا له حافظون"
    2- شخصية قادرة على الابتكار والتجديد وبراعة الاشتقاق والتصوير والرسم، فكان النص فناناً تشكيلياً رائعاً، عرف كيف يفصل بين شكل اللفظ ومعناه وتوظيفه، فمثلاً (وغصوني تصلب إيقاع المد) و (تغيب وتشرق خلف النهد) و (عرفْتُ الكون أُطلِّقُهُ ) ... إلخ

    - الوعي الشعري ووسائل التوصيل :-
    أ- التخييل القريب ( رسمت كلمات الضوء على الجدران )
    التخييل البعيد ( أحببتك سراً في الألوان)
    ب – التأمل الذهني للصورة المحسوسة القريبة إلى المعنى الذهني البعيد ( إن كنتُ عروساً فاحملني )
    ج – التأمل الشعوري المتألق ( أجعلني أُغنية .. شاعرة .. وأهم الأنباء ) و ( قدساً أحببتك فاتحة )
    د – التحليل الحسي ( أحببتُ تراتيل البيت المنهار ) و ( لا يُزرع إلا في رحم اليد) و (قد أعرف كل صباحات الدنيا ومفاتيح السد)

    - مساحة المتلقي :-
    النص يطوله القاصي والداني للغته البسيطة، وتوحد فكرة العشق والتزاوج بين الشاعر ولغة الضاد أدى إلى وجوب التصدي والدفاع عن شرف الكلمة الحية ..!

    - زمكانية النص :-
    ومن النص زمن ماضي، ولكنه مستمر على لسان زمن الشاعر في شعره وزمن القراءة المتأنية، وكلاهما زمن معظم، ومقدس، جليل
    أما المكان، فرغم تعظيمه إلا أنه في حال تردي وهجوم من الآخر لذا لم يلتقيا معاً إلا في حال العشق الشعري

    - أدوات التوصيل :-
    1- الرسم والتصوير بالألوان – الاشتقاق اللفظي – المقابلة بين الحديث والقديم من الألفاظ – التورية والتلميح – التطريب وتنوع حرف الرويِّ والتكرار المُنغم لتفعيلة بحر المتدارك ( فعلن) – التضاد والتناقض في المقابلات الدلالية – التشبع القوي بروح الموروث وخصوصاً القرآن الكريم – اللغة البسيطة – الصورة البلاغية – الأسلوب المُشوق – علاقة قصد النص (الرد) بحرف الرويِّ حيث كان الروي في المقطع الأول حرف ( النون) وفي المقطع الثاني الألف ( همزة قطع ) وفي المقطع قبل الأخير كان الروي حرف (الراء)، بينما كان في المقطع الأخير حرف ( الدال)
    وقصد الشاعر هنا قوله تارةً ( نرد) وتارة أخرى (أرد)

    2- السياق :-
    رغم التنقل بين حالات أُحادية الفكرة والرسالة إلا أن سياق السرد الشعري لم ينفصل، وهو سياق منطقي يطرح قضايا هي مقدمات تليها نتائج فورية إلهاماً شعرياً مؤدياً للمعنى والمضمون

    3- الصورة والإبداع:- يتجلى أثر الشعر كلغة الترميز في الجمل الشاعرة مثل :-
    " وسجلاً مدنياً .. أستخرج منه بطاقة أشعاري"
    " وأُدوِّنُ ذاكرتي عبر الدش وعبر النت وعبر النسيان"
    " اجعلني أُغنيةً .. شاعرةً .. وأهم الأنباء"
    " قُدْساً أحْبَبْتكِ فاتحةً "
    " وقَرأْتُ كتاب الوردة والصبار "
    " وعرفتُ الكونَ أُطلِّقُهُ .. عَلِّي أختار"
    " فالحب يقينٌ مشكوكٌ "
    " وغصوني تَصْلبُ إيقاع المدْ"
    " قد أعرف كل صباحات الدنيا .. ومفاتيح السد"

    4- المنطق والتضاد :-
    رغم أن النص هو طرح لقضايا وتساؤلات إلا أن الشاعر تمكن دون إخلال باتساق السياق من إدخال صور التضاد تأكيداً للمعنى الأول ( عظمة وإجلال لغة الضاد) وإقراراً بمنطقية الجمع بين المتضادات التي تمثل آيات جمالية في الخلق مثل ( تغيب وتشرق خلف النهد)

    5- صدق المعاناة – التجديد (لغة الكشف ) – الحركة – التضمين – الجهد المشارك
    ظهرت التجربة بصدقها في الرمز والإسقاط وتلك الأقنعة التي أفصحت عن عمق الفكرة مع ربط المعاني ليتجلى الحوار مستفيداً بالأسلوب القصصي والريشة السينمائية ولكن بسرعة خاطفة لأنها حالة ودفقة من الدفقات التي تتأثر بالعقائد والتاريخ والأدبيات السياسية بما يُفعل دور الجهد المشارك بين المبدع والمتلقي وكذا الناقد، وإن تعددت الرؤى متحركة نحو هدفٍ محدد وهو الرسالة التي تصبو إليه القصيدة

    6- الرسالة :-
    اللغة العربية هي اللغة المقدسة والتي مازالت وستظل تحتفظ بقدسيتها وتفردها، وإن تعرضت كل لغات العالم للانقراض .. لذا وجب الدفاع عن هذه اللغة (لغة الضاد ) وقد نُزِّل بها القرآن الكريم وكانت رسالة خاتم النبيين " بلسانٍ عربي"، وبالتالي لابد معرفة ماهية ختام القصيدة في ( كيف يكون الرد) .
    ونصل منها إلى ماهية صوفية النص عبر قراءته قراءة فاحصة عملاً بأول آية نزلت في القرآن الكريم " اقرأ "، وبعيدأ عن النص الصوفي الذي قد يختلف تماماً عن صوفية النص ولا سيما في معالجة القضايا المعاصرة بتناقضاتها وتماسها في نقطة واحدة .
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد الشحات محمد ; 13-09-2011 الساعة 03:35 AM

  8. #8
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة الأستاذة ربيحة الرفاعي التطبيقية لمؤشر م/ع
    على أبيات من رائعة د. سمير العمري "لا للحصار"






    في دراسة لموضوع مؤشر م/ع في الشعر والذي تعرفته لدى مباشرتي دارسة العروض الرقمي، فاجأني ما ينطوي عليه هذا العلم/ الفن من تمكين للقاريء من الغوص في البعد النفسي للنص وما اعترى الكاتب من خلجات وتغيرات في مشاعره تحكمت في مفردات هطول حسه ونبض حروفه وهو كذلك يكشف جانبا مهما من عبقرية العربية وأسرارها التي ربما تكشتف للمرة الأولى
    وبمتابعة مقولات رائد هذا الفن الأستاذ م. خشان محمد خشان والذي اعتَبَره مظنة صحة، ولطالما كرر انه لا يجزم بصحته وإن كان يجد فيه كبير متعة، وجدها كل من حاول الخوض في جمالياته وقراءة مؤشرات انفعال النصوص من خلاله، علاوة على ما يجد على صحته من شواهد وما يستشعر فيه من لذة إعمال العقل سواء في تذوق النصوص أو في محاولة إثبات او نفي أوتأويل هذا المنحى التحليلي لدخلية كاتب النص
    وفي محاولة أولى مني لغوص علني في عمق هذا البحر الذي أراه زاخرا بالجمال، أطرح هنا قراءتي لأبيات استوقفتني من قصيدة لا للحصار للشاعر المبدع د. سمير العمري
    https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ad.php?t=27564

    يَا أَيُّهَـا الشَّعْـبُ الأَبِـيُّ بِمَوطِـنٍ
    للتوضيح نستعمل النجمة بديلا للسكون على كل من الأحرف والأرقام
    يا2- أي* 2-يهش* 3 - شع* 2- بل* 2 أبي* - يُ 1- بمو* 3- طنن*3
    2 2* 3* 2* 2*3* 1 3*3*
    م*/ع = 7*/1 = 7.0
    يَلِـدُ الرِّجَـالَ وَيَضْـرِبُ الأَمْثَـالا
    1 3* 3 1 3* 3* 2* 2 2
    م/ع = 4/3 =1.3
    ويقوم صدر البيت هنا على نداء مشرئب العنق عميق الانفعال لشعب يستحوذ على مشاعر الكاتب ونبضه وبقراءة مؤشر م/ع نجد أن المقاطع الساكنة الآخر قد بلغ سبعة إلى واحد حيث كانت أداة النداء وحدها ممدودة الآخر، ولأكاد أجزم أن الشاعر لو وجد أداة للنداء ساكن آخرها غير أي والتي تبدأ بها أيها لأستخدمها بقرار من لا شعوره.
    وبالانتقال لعجر البيت حيث ينتقل الشاعر بنا لوصف هذا الشعب بنوع من الفخر ، يكون الانفعال وفقا للسياق أقل وأهدأ لما في الفخر من ارتياح نفس ، وإن كنت لا أظنه يكون هادئا على إطلاق الهدوء ، لأن في الفخر مستوى من الانفعال قد يبدو ضئيلا أمام انفعالات الشد العاطفي ولكنه ليس بمماثل لما تكون عليه النفس في حالة الاسترخاء والحنو
    وبقراءة مؤشر م/ع نجد أن المقاطع الساكنة الآخر بلغت أربعا إلى ثلاث = 1,25
    وعامل الاختلاج بينهما = 7 / 1,25 = 5,6 وهو معامل مرتفع يشي فيما أرى بشيء من الراحة أصاب نفس الشاعر بما أودع الصورة التي يرسم من وصف يسر ويرضي لقومه.
    ولعل مما يحسن التنويه إليه هنا أن قيمة المؤشر م / ع تكمن في نسبيته ودلالته العامة، حيث يرتفع عند توقد الحس وظهور التراكيب المعبرة عن القوة والحسم والغضب وحرقة الوجد والسرعة وغيرها من مظاهر الشد العاطفي والنفسي، وينخفض في التراكيب التي يكتنفها اللين والرضى والهدوء والحنو والتسامح والبطء وما إلى ذلك.

    جَعَلُوا الحِصَارَ للانْتِصَـارِ وَمَـا دَروا
    1 3* 3 1 3* 3 1 3 3*
    أَنَّ السَّلاسِـلَ تُـوغِـرُ الرِّئْـبَـالا
    2* 2* 3 1 3 3* 2* 2 2
    والبيت هنا يحكي بشكل أقرب ما يكون للموضوعية وهذا يتطلب الهدوء والعقلانية والبعد عن مظاهر التوتر والانفعال، وبقراءة مؤشر م/ع ، يستوقفنا ذلك التساوي في مقاطع صدره وتتابعها تقريبا بين مقطع ساكن الآخر وآخر معتل ، لتحملنا الى عجز حافظ على التتابع أزواجا بعد ان كان في الصدر فرادى، فلو حاولنا رسم تموجاته على مستوى ديكارتي ينخفض معتله بوحدة واحده عن ساكنه لخرجنا بمخطط موجة منضبطة أشبه بمخطط نبض القلب المستقر النبض م/ع = 3/3 = 1 في الصدر و 4 / 4 = 1 في العجز
    مما نخرج معه بعامل اختلاج مميز = 1 / 1 = 1
    وهذا يدل على وحدة السياق الإخباري في الشطرين متجليا في وحدة مؤشريه
    وَالمَوتُ فِي الفَلَـوَاتِ خَيـرٌ مَـورِدًا
    2* 2* 3* 1 3 3* 2* 2* 3 *
    لِلحُـرِّ مِـنْ شُـرْبِ الهَـوَانِ زُلالا
    2* 2* 3* 2* 2* 3 1 3 2
    ونقرا في الصدر هنا تحديا واستعجال بت يحمل في مضمونه ثورة وتثويرا فيما يعني انفعالا عالي الوتيرة يتوقع معه مؤشر م/ع مرتفع بما يناسبه، وبقراءة المقاطع نجد انه بلغ 7/1= 7.0
    ويستمر ذلك الشموخ والتحدي في جزء من العجز يستكمل فيه الشاعر فكرة صدر البيت قبل أن ينتقل لحس بالاشمئزاز من الصورة المقابلة لدى استعراضها في البديل فتنخفض وتيرة الانفعال بالدخول في الصورة المقابلة ويضهر مؤشر العجز كاملا م/ع = 5/3 = 1.6
    غير أن انسحاب جزء من محرك انفعال الصدر للعجز يستدعي باعتقادي قياس مؤشر البيت كاملا لنجده 12/4 = 3
    وهو منخفض نسبيا إذا ما قورن بالصدر فقط حيث كانت الوتيرة عالية متوهجة

    عَبَسَتْ وَقَرَّعَتِ القَضِيَّـةَ وَامْتَـرَتْ
    1 3* 3* 1 3* 3* 1 3* 3*
    حَتَّى إِذَا دَحَلَـتْ حَصَـتْ أَمْـوَالا
    2* 2 3 1 3* 3* 2* 2 2
    ولعل صورة بهية لتوضيح مؤشر م/ ع وعامل الاختلاج تتحقق هنا حيث يعدد الشاعر في صدر البيت غاضبا فعال العصبة الخائنة بوتيرة عالية من الإنفعال فنجد مقاطع الصدر كلها ساكنة الآخر 6/0= 12 اصطلاحا ، لينتقل الى حالة من القرف في عجز البيت تصف حصاد هذه الفئة وفي القرف إشاحة عن مصدره تذهب بالانفعال الذي كان أحدثه فتهدا وتيرته ويسترخي حسه ، ونقرا مؤشر م/ع لنجده يقف على تعادل بين ساكن الأواخر ومعتلها م/ع = 4/4 = 1

    الحَافِظِيـنَ مِـنَ الـمُـرُوءَةِ ذِمَّــةً
    2* 2 3 1 3* 3 1 3* 3
    العَاقِدِيـنَ مِـنَ الوَفَـاءِ عِـقَـالا
    2* 2 3 1 3* 3 1 3 2
    ويتوقع هنا ان يتقارب معاملا الاختلاج بين صدر البيت =0.75.....وعجزه = 0,4 لتواصل الفكرة في توصيف عصبة الخير دونما تغير بأي اتجاه، فتجد حسا بالفخر والرضى يستحوذ على الشاعر وترتسم في إطاره الحروف لما تجده النفس من راحة، مما يتوقع معه انخفاض في مؤشر م/ع
    فيكون مؤشر م/ع موحدا لكامل البيت 5 /9 = 0.6

    هِيَ دَعْـوَةٌ نَحْـوَ انْتِفَاضَـةِ عِـزَّةٍ
    1 3* 3* 2* 2* 3 1 3* 3*
    فَدَعُـوا الإِبَـاءَ يَزِيدُهَـا إِشْـعَـالا
    1 3* 3 1 3 3 2* 2 2
    ويقف الشاعر في صدر البيت هنا مستنهضا الهمم فيما يستدعي وينطلق عن حس متوقد وانفعال مرتفع الوتيرة فتجد مؤشر البيت ملفتا 6/1 = 6
    ويهدأ انفعاله بعدها بينما هو يوجه وينصح بما تستشعره في النص قبل قراءة مؤشره الذي ينخفض ليصل إلى 2 / 5 = 0.4

    وهكذا نستكشف بقراءة مؤشر م/ع (المقاطع الساكنة الأواخر لتلك المعتلة الأواخر) في كل شطر وكل بيت من القصيدة ما أظنه يحدثنا بتداعيات الفكرة موضوع القصيدة في نفس الشاعر، وتباين مشاعره وانفعالاته بينما هو ينتقل في كتابتها من تركيب لآخر ومن بيت لتاليه
    ولعل القصيدة تستحق منا قراءة متأنية لكامل أبياتها، غير أننا سنقفز عن استحقاق الحرف والشاعر هنا تلافيا للإثقال على القاريء في ما قد يشكل في حداثته صعوبة يحبذ معها التخفيف ...
    وقد جاء في أحد مواضيع م/ع أن االنصوص العاطفية الشخصية تكون أكثر ثراء بتباينات هذا المؤشر من القضايا العامة، لا لقلة أهمية القضايا العامة أو لضعف شعور الشاعر نحوها، ولكن لاستقرار موقفه منها ، وقلة الجديد الذي قد يغير مستوى مشاعره فيها. وما رأيناه في قصيدة شاعرنا هنا أقرب للاستثناء في هذاالباب، الأمر الذي يدل على استثناء في قوة مشاعره وشاعريته.

    هل هذا كل ما في القصيدة في هذا الباب ؟

    لا أعتقد ذلك وأدعو الجميع للاستزادة من هذا التحليل في القصيدة وسواها
    لمزيد من الاطلاع

    https://sites.google.com/site/alarood/r3/Home/meemain

  9. #9
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة الأستاذ محمد البياسي لقصيدة الشاعرة نادية بوغرارة
    "عزمت على الرحيل"



    * بدايةً أودُّ الإشارة إلى أن هذه الدراسة تميزت بأنها جاءت على فقرات ، و كأن الناقد محمد البياسي قصد ذلك لإتاحة الفرصة للحوار بينه كناقد وبين مبدعة النص الشاعرة نادية بوغرارة ، وفي الحوار الثقافي حول النص فرصة لإثرائه ، و زيادة الفائدة ..
    ومن جانبي .. قصدتُ نقل فقرات الدراسة كما جاءت دون تدخل رغم أنه كان بالإمكان ربطها كلها ، باعتبارها فقرات لجسدٍ واحد .. هو قراءة نقدية لنص "عزمت على الرحيل"
    و ها هي الدراسة :


    (1)


    هنا وجدتُ بوحاً و لم أجد قصيدة... إذ لا تكلُّفَ هناك و لا صناعة ...
    و سمعتُ " موسيقى " و لم أسمع إيقاعا , إذ رفعتِ الايقاع الى مستوى اللحن ..
    و قرأتُ عاطفةً و لم أقرأ شعراً .. حيث انسابت عاطفتك كالماء على الصفوان
    .
    (2)


    قصيدة تتألف من عشرين من الابيات ..
    و تتألف من أكثر من مائتي اسم و فعل و حرف ..
    جلُّ كلماتها ناعمة , مثل وريقات الياسمين ..
    و جلُّ الفاظها مستساغة , مثل الماء الفرات ..
    و جلُّ تراكيبها صلبة كالصوّان , و ملساء كالصفوان ..
    و جلُّ صورها واضحة , مثل ضو ء النهار ..
    و جلُّ أفكارها عميقة عمق البحر

    و كل ذلك عموم فيه خصوص..
    ومطلق فيه مقيد ..
    و جملة لها تفصيل ..

    لم أجد إلا كلمة واحدة , ترعى بعيداً من القطيع
    نافرة و ناتئة
    و لكنها مع ذلك ملساء
    و لم أجد الا تركيبا واحداً فيه زيح عن اخوانه
    و تركيبا آخر فيه صدع
    و صورة واحدة غير ملونة
    و لفظا واحدا غير مستساغ ..
    و فكرة واحدة طفت فوق السطح ..

    هذه نظرتي الاولى ..
    و لمستي الاولى لخد هذه الوردة الجورية ..

    (3)


    وحدة القصيدة

    وحدة القصيدة تتألف عموماً من وحدة الموضوع ووحدة العاطفة و أيضا من الالفاظ ذات اللون الواحد المتدرج .

    (4)


    وحدة القصيدة- 2

    وحدة الموضوع في النص، ووحدة المشاعر النفسية التي هيمنت عليه، وصلتا بنا الى الاحساس الكامل بوحدة القصيدة.
    وأحسب أن أهمية النص وقيمته الفنية والموضوعية نَبَعا معاً من هذا الشكل الرائق و الرزين لوحدة القصيدة.

    بدأت الشاعرة قصيدتها بما اختارته عنوانا للقصيدة... عزمتَ على الرحيل
    وهذا الدخول يشكل مدخلاً عاماً لموضوعها..
    ويوحي لك حالاً بالتفاصيل التي ستتكون منها الحالة الشعورية في القصيدة
    وقد ابتعدتْ في هذا عن المقدمات التي ربما قد تبتعد بك قليلاً عما ارادته الشاعرة من زجك مباشرة في معمعة الحدث .
    و الجدير بالذكر هنا أن الشاعرة بدأت القصيدة كلها بفعل , و ليس باسم و لا منادى
    فافتتحت القصيدة بمتحرك و ليس بثابت , فابتعدت بذلك عن الاسلوب الخطابي التقليدي أيضاً.
    وهذا المتحرك هو محرك القصيدة كلها و شرارة العاطفة
    و هو الذي فجر ينبوع الشعر , فساقتْه الشاعرة بعد ذلك رقراقا ووضعته في كلمات بين ضفتين .

    (5)

    وحدة القصيدة - 3


    إن النص إذا كان في موضوع واحد فهو ذو وحدة موضوعية , كالغزل مثلاً
    وأفضل مثال على ذلك هو قصيدة : يا ليل الصبُّ متى غده , للحصري القيرواني , و منها :
    يَا لَيْلُ الصَّبُّ مَتَى غَـدُه أَقِيَامُ السَّاعَـةِ مَوْعِـدُهُ
    رَقَـدَ السُّمَّـارُ فَأَرَّقَـهُ أَسَـفٌ للبَيْـنِ يُـرَدِّدُهُ
    فَبَكاهُ النَّجْـمُ ورَقَّ لـهُ ممّـا يَرْعَـاهُ ويَرْصُـدُهُ
    كَلِفٌ بِغَزَالٍ ذي هَيَـفٍ خَوْفُ الوَاشِينَ يُشَـرِّدُهُ
    نَصَبَتْ عَيْنَايَ لَهُ شَرَكَـاً في النَّوْمِِ فَعَـزَّ تَصَيُّـدُهُ
    وَكَفَى عَجَبَاً أنِّي قَنِـصٌ للسِّرْبِ سَبَانِـي أَغْيَـدُهُ
    صَنَمٌ للفِتْنَـةِ مُنْتَصِـبٌ أَهْــوَاهُ وَلا أَتَعَـبَّـدُهُ
    صَاحٍ والخَمْرُ جَنَى فَمِـهِ سَكْرَانُ اللَّحْظِ مُعَرْبِـدُهُ


    فالشاعر في هذه القصيدة لم يخرج عن الغزل والتغني بجمال الحبيبة و التوجع من الهجر والألم النفسي الذي سببته له من تمنعها و دلالها و قلة وصالها
    فجاءت القصيدة ذات وحدة موضوعية متماسكة جدا و بلون واحد رائع .
    وقصيدة الحصري هذه , جمعت كل الوان الطيف من وحدة القصيدة
    كالوحدة الموضوعية و الوحدة البنائية و الوحدة النفسية و الوحدة العاطفية ..
    ويقول النقاد إن مقدمة القصيدة لا تخرج عن نطاق غرضها ومضمونها من ناحية الدلالة النفسية
    بل و أيضا هي الشرارة التي تثير انتباه المتلقي لتهيئة انفعالاته و سوقها باتجاه الهدف الذي يرمي اليه الشاعر في النهاية .

    ومثال ذلك أيضا القصيدة الخالدة لقطري بن الفجاءة :

    أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً مِنَ الأَبطالِ وَيحَكِ لَن تُراعي
    فَإِنَّكِ لَو سَأَلتِ بَقاءَ يَومٍ عَلى الأَجَلِ الَّذي لَكِ لم تُطاعي
    فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ
    وَلا طولُ البقاء بِثَوبِ مجْدٍ فَيُطوى عَن أَخي الخَنعِ اليراعُ
    سَبيلُ المَوتِ غايَةُ كُلِّ حَيٍّ وداعِيَهِ لِأَهلِ الأَرضِ داعِ
    وَمَن لا يُعتَبَطْ يَسأَمْ وَيَهرَمْ وَتُسلِمْهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ
    وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاعِ



    ومطلع القصيدة عند شاعرتنا بوغرارة كان له نصيب كبير من النجاح في توجيه الانفعال الى مكانه ..
    وكذلك حفز المخيلة قبل الخوض في خضم القصيدة .
    و مما لا شك فيه أن الوحدة الموضوعية في قصيدتنا هذه " عزمت على الرحيل " قد تجلت بأبهى صورها و معانيها .

    (6)

    وحدة القصيدة - 4


    بَنَتِ الشاعرة بهذه القصيدة هرماً نفسياً يتألف من معان و صور
    بدأتْ بعزمه على الرحيل
    ثم تدرجت في الصعود الى اعلى
    حتى وصلتْ الى الذروة ..

    لن أنسى
    ستظل في القلب و تعيش في البال

    والوحدة العضوية في القصيدة سمة رائعة من سماتها
    و الفرق بين الوحدة الموضوعية و الوحدة العضوية
    هو أن الوحدة الموضوعية تعني وحدة الموضوع .
    اما الوحدة العضوية فتعني ترابط المعاني و الابيات
    بطريقة يكون من الصعب معها فصلُ الابيات عن بعضها بعضا
    او تقديمها او تأخيرها ..

    اللغة :

    الكلمات المستخدمة في هذه القصيدة كانت بسيطة و مناسبة
    وكانت متدرجة الالوان في التناول النفسي للموضوع
    و كانت أيضا منسجمة و متناغمة ..
    عزمت, رحيل , يبالي , رهق , حالي ,نهاية , احلام , وصال ,اتوق
    انعزال ,محلق , ظلال ,انحاء وجود اثر خيال , الامس , اصادف .. الى آخره

    كلمات شفافة ذات معان دلالية شفافة , و عميقة تعكس صورة الحالين ..
    الداخلي و الخارجي من الانكسارات النفسية التي تعرضت لها بسبب القرار .. العزم على الرحيل ...
    و لم أجد سوى كلمة واحدة كانت ناتئة بين كل الكلمات الناعمة الموجودة ..
    و لكنها مع كونها ناتئة الا انها ملساء , لا تخدش ..
    وهي كلمة قالِ ..
    هذه الكلمة قلبت موازين البيت رأسا على عقب ..

    أُلاَمِسُ طَرْفَ أَشْيـاءٍ عَسَانـي أُصَادفُ لَمْسـةً مِـنْ رَاحِ قَـالِ


    تنكير اشياء ذهب بالمعنى بعيدا
    ثم إنّ دعْمَها بكلمة قالِ .. زاد من غربة المعنى و غربة البيت عن زملائه

    فاذا كانت الشاعرة تقصد الراحل نفسه بقولها : قالِ
    فقد وقعت في خطأ في المعنى ..
    لان الفراق لا يعني القلى في كل احواله
    و لم تشر الشاعرة الى القلى قبل البيت لتقود الى هذا المعنى ..
    وتنكير اشياء .. شقَّ عصا طاعة المعنى ..
    ولو انها قالت : اشيائي , لكان اولى
    و مع ذلك لا يستقيم المعنى استقامة كاملة بهذا .
    واذا كانت الشاعرة تقصد غير الراحل بالقالي , فلا يصلح ابدا .

    اللغة -2



    قول الشاعرة :
    في البيت الاول

    عزمت على الرحيل اما تبالي
    بما خلفت من رهق بحالي

    فيه خطأ لغوي يتعلق بالزمن ...

    فالعزم هو النية مع القصد , و هو ارادة الفعل
    والنية مساحتها الزمنية صغيرة هنا .
    والمسافة بين النية و العمل عليها .. قصيرة , تستشف من السياق العام للقصيدة
    والاهوال التي ستتعرض لها المُحبة بسبب العزم ستكون اقل بكثير من الاهوال التي ستتعرض لها بعد العمل بالنية
    لان المساحة الزمنية بعد العمل بالنية تكون اكبر , و بالتالي ستكون الاهوال اكبر و اقسى ..

    وكان الاولى ان يقال : بما ستخلف من رهق بحالي ..

    اللغة -3

    أظن ان كلمة لحقت في البيت :

    لَحِقْتُ خُطاكَ حَتّـى أوْصَلَتْنـي
    إِلَى سُكْناكَ يَـا أَغلَـى الغَوَالِـي


    فيها نظر ..

    لأن اللَّحْقُ واللُّحُوق والإلْحاقُ: الإدراك.
    لَحِقَ الشيءَ وأَلْحَقَهُ وكذلك لَحِقَ به وأَلْحَقَ لَحاقاً، بالفتح، أي أدركه

    فهل الشاعرة أدركت خطاه ام سكناه ؟!

    كان الأَولى ان يقال : تبعتُ

    ثم إن اخراج التاء المرفوعة بعد القاف الساكنة فيه بعض حرج
    اما اخراجها بعد العين الساكنة فهو اسهل و اسلس بكثير .

    اي ان الكلمة فيها عيبان:
    في النطق و في المعنى اللغوي المطلوب .



    سأختصر المسافة
    و اوجز نقدي المستفيض بما يلي , بسبب "ظرف" طارئ

    الموسيقا :
    كانت عزفاً على ناي حزين , و جاءت مناسبة جدا و موافقة تماما للموضوع .
    اللغة :
    كانت كلماتها بلون واحد متدرج , وكانت مناسبة جدا للموضوع , باستثناء ما اشرت اليه سابقا .
    التراكيب :
    كانت سهلة منبسطة , و لا بأس بقوتها .
    الصور :
    كانت ذات الوان واضحة جدا , بحيث يمكن رؤيتها حتى في العتمة .
    الافكار :
    كانت ممتازة وعميقة غير سطحية .
    الاسلوب :
    حواري رائع من طرف واحد , غير متكلف .
    البعد الانساني :
    كان من اجمل ما يكون .
    وحدة القصيدة :
    كانت حاضرة في وحدة الموضوع و الوحدة العضوية ووحدة العاطفة و المشاعر
    ولم يشُبْ وحدة القصيدة العضوية والموضوعية الا القصة القصيرة التي سردتِها في اخر القصيدة
    وبرأيي انها لو لم تكن موجود لكانت القصيدة افضل .

    أعجبني جدا جدا :

    وَصُغْتَ نِهَايَةَ الأَحْـلاَمِ فَـرْدًا
    و كُنْتَ بِبَدْئِها تَرجُـو وِصَالـي
    أَتُوقُ لِأنْ أُسَافِرَ فِيـكَ دَهْـرًا
    ففِي دُنْيَاكَ طَابَ لِـيَ انْعِزَالـي
    أرَاكَ مُحَلّقا فـي كُـلِّ صَـوْبٍ
    و أَتْبَعُ ما رَسَمْتَ مِنَ الظِّـلال
    وفِي الأَنْحَاءِ أَبْحَثُ عَنْ وُجُـودٍ
    وَ عَنْ أَثَرٍ وَ إنْ يَكُ فِي خَيَالِـي

    هذا قريب من الكمال الشعري



    و ايضا الرائع :
    أَأنْسَى ؟؟ كُلَّمَا يَمَّنْـتُ عَهْـدًا
    تُخَالِفُـهُ وَتَمْحُـوهُ شِمَـالِـي


    وما لم يعجبني ذكرتُه سابقاً.


    تقبلي رأيي المتواضع و تقبلي عثراتي
    وتقبلي مني نقدي


    وختاما ..

    تقبلي اعجابي الكبير بهذا الفن الكبير .



    و تقبلي احترامي و تقديري

  10. #10
    الصورة الرمزية محمد الشحات محمد شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Sep 2007
    الدولة : القاهرة
    المشاركات : 1,100
    المواضيع : 103
    الردود : 1100
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    قراءة الأستاذة صفاء الزرقان لقصة "حرص" للدكتور سمير العمري



    حرص
    تَمَطَّى عَلَى الأَرِيكَةِ الوَثِيرَةِ يَفْركُ يَدَيهِ بِسَعَادَةٍ وَرِضَا. الدِّفْءُ المُنبَعِثُ مِنَ الموقَدِ المُقَابِلِ يَتَخَلَّلُ جَسَدَهُ لِيَزِيدَهُ اسْتِرْخَاء وَسَكِينةَ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ الكَبِيرَةِ رِقَّةَ هُطُولِ الثُّلُوجِ فِي دَعَةٍ وَهُدُوءٍ كَقطْنٍ نَدِيفٍ مِنْ يَدِ صَانِعٍ مَاهِرٍ. بَيْتُهُ الخَشَبِيِّ الصَّغِيرِ المُحَاطِ بِأَشْجَارٍ بَاسِقَةٍ أَصَرَّتْ عَلَى الاحْتِفَاظِ بِأوْرَاقِهَا الخَضْرَاء وَإِنْ خَالَطَهَا البَيَاضُ كَانَ كُلَّ عَالَمِهِ الصَّامِتِ إِلا مِنْ بَعْضِ مَرَّاتٍ يَشْتَاقُ فِيهَا لِلصَّخَبِ وَالحَرَكةِ.

    عَادَ لِيَتَفَحَّصَ الكَامِيرَا التِّي ابْتَاعَهَا مُنْذُ يَومَين مُتَأَمِّلاً تَارَةً شَكْلَهَا الأَنِيقِ ، وَمُسْتكْشِفَاً تَارَةً الجَدِيدَ مِنْ مِيزَاتِهَا العَدِيدَةِ مِمَّا لَمِّا يَصِلْ إِلَيهِ. ابْتَسَمَ مِنْ جَدِيدٍ سَعَادَةً بِهَذِهِ الكَامِيرَا التِي طَالَمَا حَلِمَ بِهَا لِيُسَجِّلَ لَقَطَاتٍ مِنْ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ السَّعِيدَةِ ذِكْرَى يَحْتَفِظُ بِهَا سَبَبَ أُنْسٍ لِشَيخُوخَتِهِ التِي يَعْلَمُ أَنَّهُ سيَكُونُ فِيهَا وَحِيدَا. لَمْ يَهْتَمَّ لِلمَبْلَغِ البَاهِظِ الذَي دَفَعَهُ ثَمَنَاً فَهِيَ تَسْتَحِقُ كَمَا أَقْنَعَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ خَصَائِصَ وَإِمْكَانِيَات مُذْهِلَةٍ هِيَ أَحْدَثُ مَا تَوَصَّلَتْ إِلَيهَا التقْنِيَةُ الرَّقمِيَّةُ.

    أَعَادَ نَظَرَهُ إِلَى حَيثُ النَافِذَةِ يَتَأَمَّلُ مَا تَحِيكُ يَدُ السَّمَاءِ مِنْ نَسِيجٍ مُهَفَهَفٍ تَكْسُو بِهِ الأَرْضَ ثَوبَاً أَبْيَضَ مِنَ النَّقَاءِ يُخْفِي تَحْتَهُ كُلَّ أَدْرَانِهَا وَعَورَاتِهَا. شَعَرَ بِرَغْبَةٍ عَارِمَةٍ فِي أَنْ يَحْتَفِلَ بِهَذَا الجَّوِ الثَّلْجِيِّ الفَاتِنِ ، وَأَنْ يَحْتَفِيَ بِكَامِيرَتِهِ الجَدِيدَةِ ؛ فَيَبْدَأَ الاسْتِخْدَامَ الفِعْلِيَّ لِخَصَائِصِهَا الكَثِيرَةِ وَالكَبِيرَةِ خُصُوصَاً مِنْهَا مِيزَة ثَبَاتِ الصُّورَةِ فِي كُلِّ الظُرُوفِ. قَرَّرَ بِالفِعلِ أَنْ يَخْتَبِرَهَا في مثل هذا الطَّقْسِ البَارِدَ ، وَأَنْ يُسْعِدَ نَفْسَهُ بِرِيَاضَتِهِ المُفَضَّلَةِ يُفْرِغُ بِهَا دَفقَاتِ السُّرُورِ التِي تَنْتَابُهُ وَتَستَعْمِرَ مَشَاعِرَهُ.

    رِيَاحُ الشَّمَالِ تَتَدَفَّقُ بِرِفْقٍ تَحْمَلُ الهَوَاءَ النَّقِيَّ البَارِدَ لِتَلْفَحَ بِهِ وَجْهَهُ المُتَلَفِّعَ بِلِثَامٍ صُوفِيٍّ سَمِيكٍ وَهُوَ يَنْسَابُ بِتَؤُدَةٍ عَلَى زَلاجَتِهِ نَحْوَ تِلْكَ المَسَاحَاتِ البَيْضَاء حَيْثُ لا شَجَرَ يَزْجُرُ وَلا حَجَرَ يَحْظرُ وَلا بَشَرَ يَنْظُرُ. وَعَلَى سُفُوحِهَا هُنَاكَ أَطْلَقَ لِسَاقَيهِ العنَانَ يُسَابِقُ الرِّيحَ تَارَةً وَيُسَابِقُ الحُلُمَ تَارَةً أُخْرَى ؛ كَأَنَّهُ فَارِسٌ امْتَطَى مَتْنَ الرِّيحِ مُنْطَلقَاً نَحْوَ الحُلُمِ الجَمِيلِ الذِي رَاوَدَهُ عَدَدَ سِنِين. مَهَارَتُهُ فِي التَّزَلُّجِ مَدَّتْ يَدَاً لِكَفِّ نَشْوَتِهِ الجَارِفَةِ تَدْفَعَانهُ لِلتَّمَايُلِ تَبَخْتُرَاً بِرَغْمِ هَذِهِ السُّرْعَةِ العَالِيَةِ وَقَدْ أَمْسَكَ بِيَدِهِ الكَامِيرَا يُدِيرُهَا إِلَى وَجْهِهِ المُتَهَلِّلِ سَعَادَةً حِينَاً ، وَحِينَاً إِلَى الأُفُقِ المُمْتَدِّ أَمَامَهُ أَبْيَضَ مِنْ غَيرِ سُورٍ مُتْعَةً كُبْرَى.

    وَفَجْأَةً ؛ شَعَرَ بِأَنَّ الأَرْضَ لَمْ تَعُدْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْمِلَهُ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُلُمَاً تَوَهَّمَهُ. كَانَتِ الأَرْضُ تَتَشَقَّقُ تَحْتَهُ حَقَّاً لِيَجِدَ نَفْسَهُ وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ التَّوَقُّفِ قَدْ بَدَأَ يَغُوصُ فِي الجَلِيدِ. اضْطَرَبَ جِدَاً وَهُوَ يَرَى كَأَنَّ الأَرْضَ تَبْتَلِعُهُ وَكَأَنَّ صَقِيعُهَا يُكَبِّلُهُ. لَمْ يَتَوَانَ الأَلَمُ أَنْ يَغْرسَ فِي أَطْرَافِهِ أَنْيَابَهُ يَعضُّهُ سَغْبَانَ مَسْعُورَاً. يَتَأَوَّهُ بِشِدَّةٍ وَلَكِنْ كَانَ كُلُّ هَمِّهِ وَقْتَئِذٍ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الكَامِيرَا مِنَ البَلَلِ فَتَتَعَطَّلَ ، أَوِ السُّقُوطِ مِنْ يَدِهِ فَتَنْكَسِرَ. رَفَعَ يَدَهُ بِهَا أَكْثَر كُلَّمَا غَاصَ أَكْثَر مُشْفِقَاً عَلَيهَا يَنْظُرُ إِلَيهَا بِحِرْصٍ وَانْتِبَاهٍ.

    وَعَلَى أَحَدِ الأَسِرَّةِ البَيْضَاء كَانَتْ عَيْنَاهُ تَتَقَلَّبَانِ بَينَ قَدَمَينِ قَدْ شَلَّ الجَلِيدُ قُدْرَتَهَا وَدَامَا ، وكَامِيرَا قَدْ كَسَرَ البَرْدُ عَدَسَتَهَا خِتَامَا ، وَكَشْفُ حِسَابٍ جَاوَزَ ثَمَنَهَا بِعَشْرَةِ أَضْعَافٍ تَمَامَا.


    القصة هي سرد لحدث أو أحداث تتعلق بشخصية أو أكثر بأُسلوب فني يوصل من خلاله الكاتب رسالته أو فكرته للمتلقي، حيث يتم تسليط الضوء على الشخصيةٍ أو الشخصيات وعرض ما يُحيطها فيصفها و يحللها، ويصور تحركها ضمن العالم الذي تنتمي إليه مركزا على جانب مُعين من حياتها وموحيا للقاريء أن ما يتابعه هو حياة حقيقية، وما هي في الحقيقة إلا مُحاكاة للواقع نجح الكاتب البارع و المُتمكن باقناع قارئة بواقعيتها عن طريق الإيحاء و التأثير.
    وفي محموعة من الأحداث التي بدأت هادئة ثم تصاعدت وتيرتها بسرعة قبل السقوط المفجع، يتحدث كاتبنا في قصته "حرص" عن حلم رجلٍ بسيط يتمنى أن يحصل على كاميرا علّه يلتقط بها شيئاً من اللحظات الجميلة التي يعيشها ، في سردية قوية يُصور فيها المُحيط الذي يعيش فيه البطل موضحا ملامح شخصيتة ليُساعد القارئ على فهم مكنونات الشخصية و تحليلها، والبطل في قصتنا هنا إنسان بسيط بإمكانياتٍ محدودة و لكنه بالرغم من ذلك دفع مبلغاً باهظاً من أجل أن يُحقق حلمه، وكانت الخاتمة مُحمَلةً بمفاجأةٍ كبيرة إذ تنتهي القصة بأن تُشل قدما البطل و تُكسر عدسة حلمه "الكاميرا" إثر سقوطه في مياهٍ مُتجمدة ، وتُحدث الخاتمةُ نقلةً صاعقة للقارئ بحس المُباغتةِ الذي حملتهُ ,فقد بدأت القصة بصورةٍ جميلةٍ للبطل أثناء جلوسه في بيته البسيط هانئاً بالدفء رغم البرودة خارجاً ,مُنتشياً بتحقيق حلمه مما يشعرُ القارئ بحال السعادة والرضا اللذان يعيشهما البطل و لكن الحال ينقلب عند سقوطه في الماء المُتجمد إلى حالٍ من الأسى و الضيق تعاطُفاً مع البطل .

    عنوان القصة مكونٌ من كلمةٍ واحدة "حرص" وهذه البساطة في العنوان تفتح باب التأويل على احتمالاتٍ كثيرة فيزداد تعلق القارئ بها كي يعرف ما يعنيه العنوان . فالعنوان مُختزلٌ و لكنه يحمل الكثير . كلما زادت المعاني التي يحملها أو يقترحها العنوان زاد تعلق القارئ بالنص و نجدُ أن كل قارئ يمتلك قراءته و نظرته الأولية للعنوان التي تختلف ولو بقدرٍ بسيط عن قراءة مُتلقٍ آخر . العنوان يبعثُ في نفس القارئ الكثير من التساؤلات عن طبيعة هذا الحرص و سببه فينطلق باحثاً عن إجاباتٍ يحملها النص .


    قصة "حرص " تصور جانباً من حياة البطل وما عاناه. القصة واقعية فهي تُحاكى الواقع و تصوره ببراعة من خلال عرضها لتناقض المُجتمع الذي نعيش فيه فها هو البطل يفقد قدميه من أجل حُلمه البسيط إلا وهو الحصول على كاميرا . هذا النوع من الأدب ينتمي إلى المدرسة الواقعية النقدية التي تسلط الضوء على مُشكلات اجتماعية و خاصة المشكلات التي تُعنى بالطبقية و تصوير مُعاناة الطبقات الفقيرة في المُجتمع. مما يُشير إلى واقعية القصة عدم ذكر اسم البطل وهو ما زاد من تأثير القصة و واقعيتها حيث يشعر كل قارئ بإمكانية حدوث ما حدث للبطل له هو أيضاً فيزداد تأثير القصة فالبطل غير معروف و هويته غير مُحددة لا نعرف عنه سوى أنه إنسانٌ بسيطٌ يمتلك حُلماً يسعى إلى تحقيقه و من منا لا تنطبق عليه تلك الصفات ؟ كلما زادت واقعية القصة زاد التصاقها بنفس القارئ فهو يهتم بالواقع أكثر من اهتمامه بالخيال مهما بلغ تأثير الخيال في نفسه فإنه لن يكون بحجم تأثير الواقع .


    تبدأ القصة بمشهد جلوس البطل أمام المدفئةِ و تصوير شعوره بالدفء هذا الوصف يوضح جوانب من شخصية البطل فهو إنسان بسيط وهو ما يتضح من مسكنه يعيش حياةً راضيةً نفسه مُطمئنةٌ هانئة " يَتَخَلَّلُ جَسَدَهُ لِيَزِيدَهُ اسْتِرْخَاء وَسَكِينةَ وَهُوَ يَتَأَمَّلُ مِنَ النَّافِذَةِ الكَبِيرَةِ رِقَّةَ هُطُولِ الثُّلُوجِ فِي دَعَةٍ وَهُدُوءٍ كَقطْنٍ نَدِيفٍ مِنْ يَدِ صَانِعٍ مَاهِرٍ" يقول إيليا أبو ماضي " كن جميلاً ترى الوجودِ جميلا" فنفسه الراضية رأت مٌحيطها في أجمل الصور و أبهاها " أَعَادَ نَظَرَهُ إِلَى حَيثُ النَافِذَةِ يَتَأَمَّلُ مَا تَحِيكُ يَدُ السَّمَاءِ مِنْ نَسِيجٍ مُهَفَهَفٍ تَكْسُو بِهِ الأَرْضَ ثَوبَاً أَبْيَضَ مِنَ النَّقَاءِ يُخْفِي تَحْتَهُ كُلَّ أَدْرَانِهَا وَعَورَاتِهَا". هو إنسان مُنطلقٌ حالمٌ" أَطْلَقَ لِسَاقَيهِ العنَانَ يُسَابِقُ الرِّيحَ تَارَةً وَيُسَابِقُ الحُلُمَ تَارَةً أُخْرَى ؛ كَأَنَّهُ فَارِسٌ امْتَطَى مَتْنَ الرِّيحِ مُنْطَلقَاً نَحْوَ الحُلُمِ الجَمِيلِ" رأى نفسهُ فارساً لأنه وضع حُلمهُ نُصبَ عينيه وسار نحوه و ناله.

    سعى لتحقيق حلمه و لم يأبه لما دفعه من مبلغٍ كبير في سبيل تحقيق ذلك الحلم" لَمْ يَهْتَمَّ لِلمَبْلَغِ البَاهِظِ الذَي دَفَعَهُ ثَمَنَاً فَهِيَ تَسْتَحِقُ كَمَا أَقْنَعَ نَفْسَهُ بِمَا فِيهَا مِنْ خَصَائِصَ وَإِمْكَانِيَات مُذْهِلَةٍ هِيَ أَحْدَثُ مَا تَوَصَّلَتْ إِلَيهَا التقْنِيَةُ الرَّقمِيَّةُ". هو يرى في الكاميرا مؤنساً يُدفئ القادم من أيامه و يُكسبها شيئا من الجمال فيقتات على ما عاشه من لحظاتٍ جميلةٍ في الماضي ليعيش الباقي من أيامه . كانت هذه الصورة تخليداً للحظةٍ جميلةٍ عاشها لعل شعوره بالسعادة يطول أكثر و يُلازمه في القادم من أيامه. الكاميرا كانت عينهُ التي يرى و ينتقي بها أجمل ما في واقعه غاضاً البصر عن ما يحتويه هذه الواقع من عوراتٍ وأدران ليرى عالماً مثالياً لا يحوي إلا الجمال " ثَوبَاً أَبْيَضَ مِنَ النَّقَاءِ يُخْفِي تَحْتَهُ كُلَّ أَدْرَانِهَا وَعَورَاتِهَا".

    مشهد تساقُط الثلج يُشير إلى النشاط و الحركة و السعي في حياة البطل فهو قد سعى ليُحقق حُلمه و غايته. جلوسه بالقرب من المدفئة يعكس دفء حياته التي يعيشها أما مشهد البرد خارج بيته فهو يصور البرودة التي قد يحملها مُستقبله فهو يرى نفسه يحيا مُستقبله وحيداً " سَبَبَ أُنْسٍ لِشَيخُوخَتِهِ التِي يَعْلَمُ أَنَّهُ سيَكُونُ فِيهَا وَحِيدَاً".

    تصوير مشهد السقوط كان مُختزلاً و سريعاً فلم يتم شرح تفاصيله و هذا أمرٌ قد زاد من واقعية القصة فحسُ المُباغتة الذي صور وقوع البطل هو ذاتهُ ما نشعر به واقعاً عندما نكون مُحلقين حالمين فنتفاجأ بارتطامنا بالأرض بعد أن كنا مُحلقين في سماء الحُلم و إذا سُئلنا عن سرِ ما حدث لا ندري بما نُجيب فنحن كنا غافلين عما يُحيط بنا هائمين في سماواتِ أحلامنا " وَفَجْأَةً ؛ شَعَرَ بِأَنَّ الأَرْضَ لَمْ تَعُدْ تَسْتَطِع أَنْ تَحْمِلَهُ. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُلُمَاً تَوَهَّمَهُ. كَانَتِ الأَرْضُ تَتَشَقَّقُ تَحْتَهُ حَقَّاً لِيَجِدَ نَفْسَهُ وَقَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ التَّوَقُّفِ قَدْ بَدَأَ يَغُوصُ فِي الجَلِيدِ".

    سقوطه إلى الواقع بعد طيرانهِ حالماً كان مُدوياً "لم يتوانَ الألم أن يغرس في أطرافه أنيابه يعضه سغبان مسعوراً" هي الحياة التهمته دون رحمةٍ و لكنه برغم ما عاناه من ألمٍ بقيَ مُتمسكاً بحُلمه "حريصاً" عليه " يَتَأَوَّهُ بِشِدَّةٍ وَلَكِنْ كَانَ كُلُّ هَمِّهِ وَقْتَئِذٍ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الكَامِيرَا مِنَ البَلَلِ فَتَتَعَطَّلَ ، أَوِ السُّقُوطِ مِنْ يَدِهِ فَتَنْكَسِرَ. رَفَعَ يَدَهُ بِهَا أَكْثَر كُلَّمَا غَاصَ أَكْثَر مُشْفِقَاً عَلَيهَا يَنْظُرُ إِلَيهَا بِحِرْصٍ وَانْتِبَاهٍ" و كأنه يُريدُ أن يُثبت للحياة جدارته بالحصول على حُلمه فزادت الحياة الطعنات لكي تختبر صلابتهُ و إصراره. كان حالماً ولكن الحياة أبت إلا أن تُعيده إلى الواقع فأسقطته من علياء حُلمه إلى صقيع الواقع . هو الحالم يدفعُ ثمن حُلمه من ماله وجسده و روحه علهُ ينالُ مُبتغاه فالبطل في القصة قد دفعَ الثمن باهظاً من جسده و ماله و روحه"وَعَلَى أَحَدِ الأَسِرَّةِ البَيْضَاء كَانَتْ عَيْنَاهُ تَتَقَلَّبَانِ بَينَ قَدَمَينِ قَدْ شَلَّ الجَلِيدُ قُدْرَتَهَا وَدَامَا ، وكَامِيرَا قَدْ كَسَرَ البَرْدُ عَدَسَتَهَا خِتَامَا ، وَكَشْفُ حِسَابٍ جَاوَزَ ثَمَنَهَا بِعَشْرَةِ أَضْعَافٍ تَمَامَا"


    إذاً هي حرصُ الحالمِ على حُلمه و قصة فارسٍ قاتل كي ينال ما يُريد فكان حرصه على ذلك الحُلم أشد من حرصه على سلامة جسده . لم يكن بُخلاً أو نسياناً لحياته ولم يكن حرصه عليها وتشبثه بها لقيمتها المادية إنما كان تشبُث الحالم بحلمه و تعلقه به فكلنا نرى في أحلامنا سبباً لبقائنا لا يمكننا العيشُ من دونها فهي من يُكسب الحياة رونقاً و ألقاً فما معنى سعينا و عملنا إن لم نملك غايةً نطمحُ بالوصول إليها؟ حتى لو اقتضى الأمر أن ندفع أرواحنا ثمناً للحصول على حلمنا الذي يمنحنا شرعيةَ البقاء و يدفعنا إلى العمل و السعي . قد كسرت الحياةُ جزءاً منه و لكنه بقي مُقاوماً مُتمسكاً بحلمه .

المواضيع المتشابهه

  1. قراءات شعرية ثم قراءات أدبية ونقدية في شعر الحداثة
    بواسطة د. محمد حسن السمان في المنتدى فَرْعُ دَولَةِ الكوَيتِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 07-02-2017, 01:39 AM
  2. نصائح مميزة في توجيه الأبناء وتربيتهم للدكتور.طارق الحبيب
    بواسطة إدريس الشعشوعي في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 12-11-2016, 09:04 PM
  3. مختارات نثرية مميزة ( صفحة للجميع )
    بواسطة هَنا نور في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 01-09-2016, 01:56 PM
  4. موضوع: برامج لتسهيل تَعَلُّم قواعِد اللُّغَةِ العَرَبِيَّة 000 مُمَيَّزَة جِدًّا
    بواسطة آمال المصري في المنتدى المَكْتَبَةُ الأَدَبِيَّةُ واللغَوِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-10-2008, 06:47 PM
  5. قراءات في نصوص الأديب الدكتور سلطان الحريري
    بواسطة د. محمد حسن السمان في المنتدى فَرْعُ دَولَةِ الكوَيتِ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 01-05-2007, 03:28 PM