بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [75] فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [76] فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [77] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [78] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [79] وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ [80] وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن
فصل: في بيان ملة إبراهيم.
تقوم ملة إبراهيم على أصلين:
[01] - إخلاص العبادة لله وحده.
[02] - التبرُؤ من الشرك وأهله وإظهار العداوة لهم.
وقد أمر رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم بإتباعه عليه السلام، قال تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل: 123].
وقال تعالـى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 161].
ولا ريب أننا مأمورون بإتباع هذه الملة ومن رغب عنها منا فقد سفه نفسه.
وقد سار عليها الخليلان ونالا الخلة بذلك كما في صحيح مسلم رحمه الله حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ".
فملة إبراهيم هي ملة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وهي ملتنا وهي أسوة نبينا وأسوتنا، كما قال تعالى: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَـرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُـمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَـاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُـوا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: 4].
فظهر مما تقدم أن ملة إبراهيم عليه السلام هي البراءة من الشرك وأهله ومفارقتهم ومقاطعتهم، ولم يتم ظهور دين الإسلام إلا بتطبيق هذا الجانب، وهو مفارقة مـن في الأرض، كما في البخاري في كتاب الاعتصام من حديث جابر رضي الله عنه الطويل وفيه: " ومحمد فرق بين الناس "، وكما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الرؤية، باب تفسير سورة النساء في البخاري، عندما يأتيهم ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة ويقول لهم: " لتتبع كل أمة من كانت تعبـد ".
فيقولون: " يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا على أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ".
ففارقوهم على فقرهم وحاجتهم إليهم ولم يصاحبوهم حتى يستغنوا عنهم، كحال المنتسبين إلى الإسلام اليوم.
وهذا هو الذي فهمه أسعد بن زرارة رضي الله عنه عند البيعة حيث قال: " رويدا يا أهل يثرب إن إخراجه اليوم مفارقة لِلعرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تبصـرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه. فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله " رواه أحمد والبيهقي وقال الحافظ بن كثير وهذا إسناد جيد على شرط مسلم، السيرة ج 2 / 194. وحسن الحافظ في الفتح هذه القصة مع اختلاف يسير في اللفظ.
فمن أراد القيام بدين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأراد نصره اليوم، فليقدم على ما أقدموا عليه، وإلا فكما قال أسعد في نفس الحديث: " وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله عز وجل ".
فخذها - يا أخي - بيضاء نقية كما أخذها أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضي عنهم بشروطها وقد أعطوا على ذلك الجنة، وقال فيهم عز وجل: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23].
أما حال من التبس عليهم الأمر عمداً أو جهلاً، فلنسـرد لك أعمالهم وأقوالهم ليتجلى لك حالهـم:-
تقول طائفة منهم إن قيام الدين أساسه محاربة القبوريين وإظهار العداوة لهم والتحذير منهم محاربة الصوفية وأهل البدع.
وطائفة أخرى تقول بقول الطائفة الأولى وتزيد عليها بالحمل على التعصب المذهبي الأعمى والدعوة إلى الذب عن الحديث وتصفيته مما أدخل فيه، وذلك جل همهم.
وثالثة فتنت بالشيوعية والرد عليها وإثبات وجود الخالق والسعي الجاد في السيطرة على المراكز الهامة في الحكومات بقصد السيطرة على الحكم.
وهناك طوائف أخرى لا داعي لِلخوض فيما هم فيه، لأنها تقوم على الجهل.
فنقول:- أما الطائفة الأولى والثانية ومن شاكلهم، فيظهر لنا من حالهم أن ما قاموا به حق لا ينكر. ولكن لما كان هذا القيام منهم في مواجهة من لا سلطة في يده، وأنهم سكتوا عن أصحاب السلطات فيما يقومون به من هدم لِدين الله، كان طريقهم الذي سلكوه هو الذي ضل به من كان قبلهم، كما بين صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الحدود عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يجترء عليه إلا أسامة حب رسول الله، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فخطب فقال: " أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف منهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ".
فإقامة الحد على الضعيف حق لله وهو عدل لا ينكر على من عمله ولا على من تكَلم فيه وشدد، ولكن الضلال جاء من كون الذي ينفذ الحد على الضعيف لا ينفذه على القوي، فهاتان الفرقتان ومن شاكلهما: إن أخطأ من لا سلطة في يده شددوا عليه وعادوا، أما إن أخطأ أصحاب السلطان الذين يعيشون تحت أيديهم ويخافونهم ويرجونهم التمسوا لهم العذر، فإن لم يجدوا لهم عذرا التمسوا لأنفسهم العذر بالضعف وعدم القدرة على التغيير.
فتبين لك وجه المطابقة بين الفريقين في تنفيذ الحق على الضعيف والسكوت عن القوي.
فدعوى تمسكهم بملة إبراهيم فيها نظر، فقد عرفت أنه عليه السلام لم يسلك سبيلهم في البيان ولا في الإنكار.
فالسكوت عن البعض والبيان لِلبعض يخالف ملة إبراهيم الذي لم يَخف على نفسه ولا على ماله، ويخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إذ أمره ربه بقوله: [ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ].
قال ابن القيم رحمه الله:
واصدع بما قال الرسول ولا تخف *** من قلــة الأنصار والأعـوان.
واجعـل كتــــــاب الله والسنن التي *** ثبتت سلاحك ثم صـح بجنان.
من ذا يبــــارز فليقــــــدم نفســـــه *** أو من يسابق يبد في الميدان.
فاللـه ناصـر جنـــــــده وكـــــتابـه *** واللـه كــــــاف عبـده بأمـان.
لا تخشَ من كيد العــــدو ومكرهم *** فقـتالهم بالكـــــذب والبهتـان.
فجنــــــود أتبـاع الرسـول ملائـك *** وجنودهم فعسـاكر الشيـطان.
واثبت وقاتـل تحت رايات الهدى *** واصبر فنصر الله ربك دانـي.
ولم يقل إبراهيم عليه السلام مثلما يقولـون اليوم - نخشى الفتنة - [أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ].
بل إنه عليه السلام أُمسك به وأُلقي في النار وهو صامد لا يتراجع ولا يداهن..
وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عاداه أبو جهل وقومه وحاربوه ولم يصده ذلك عن بيان الحق والتصريح بالعداوة لهم، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم نراهم أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ولو فهموا الدين كما فهمه هؤلاء في زماننا هذا لعاشوا مع أبي جهل وأعوانه كما يعيش دعاة اليوم مع أنصار أبي جهل.
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لم يُبعث مسالماً لأعداء الدين وإنما بعث " فرق بين الناس "، أرسله الله " لِيبتليه ويبتلى به وأرسله لِيحرق قريشا. فخاف صلى الله عليه وسلم، أن تثلغ قريش رأسه، فلم يقره ربه على هذا الخوف - بل أمره أن يستخرجهم كما استخرجوه " رواه مسلم في صحيحه - باب الصفات التي يعرف بها أهل الجنة وأهل النار في الدنيا -.
فنقول لِدعاة اليوم: أنتم علمتم أن بيانكم ومعاداتكم وتبرأكم من أعداء الدين سيؤدي لِمعاداتهم لكم وإخارجهم لكم - وهذه هي ملة إبراهيم عليه السلام - وهي التي فهمها ورقة بن نوفل رضي الله عنه حيث قال: " ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك.
قال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟
قال: نعم، إنه لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي " [ رواه البخاري ].
فصل: في بيان أن قيام الدين لا يكون بالمداهنة والسكوت بل بالصدع بالحق والصبر على الأذى.
لِيعلم دعاة اليوم أنه لا يُدرَك النصر في الدنيا والجنة في الآخرة إلا بما يتهربون منه كما قال تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة: 214 ].
وهذا هو ما فهمـه المؤمنون يوم الأحزاب حيث قال الله فيهم: { وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [ الأحزاب: 22 ].
فهذه مقالة المؤمنين الموقنين - ولكن هناك صنف معوق يثبطون العزائم ويدعون الناس إلى ما هم فيه من بعد عن الإيذاء والمشقة كما قال الله في أسلافهم: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِيـنَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً } [ الأحزاب: 18 ].
فهم علموا أن تصريحهم لِلظلمة بما وقعوا فيه سوف يؤدي إلى فتنتهم، فأخذوا بالجانب الذي يرضى الظلمة به ويوافقونهم عليه، ومعلوم أن سلطاتهم قد كرهوا ما أنزل الله لذلك فهم يخالفون حكم الله، واسمع صفتهم، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد: 26 - 28 ].
قال صاحب تفسير أضواء البيان رحمه الله: [ إن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وإن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما أنزل الله..
وقال رحمه الله: [ مسألة ] اعلم أن كل مسلم يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات من سورة محمد وتدبرها والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد، لأن كثيرا ممن ينتسبون إلى المسلمين اليوم داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد، لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما أنـزل الله ؛ وهو هذا القرآن وما بينه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السنن، فكل من قال لِهؤلاء الكفار الكارهين لما أنزل الله - سنطيعكم في بعض الأمر ؛ كالذين يتبعون القوانين الوضعية، مطيعين بذلك لِلذين كرهوا ما أنزل الله، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه وأنه أحبط أعمالهم، فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا سنطيعكم في بعض الأمر ] ا.هـ.
ونحن نقول أن هؤلاء وإن تصنعوا بدعوى الإيمان فقد سماه الله زعماً، لأنهم لم يُكرهوا على الحكم بغير ما أنزل الله، وإنما هي رغبة وانقياد وترجيح منهم بأن هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً } [ النساء: 60 ].
فسما الله إيمانهم زعماً بسبب هذه الإرادة، فكيف بمن نصب الطاغوت في دولته ويرضى به ويعاقب من خالفه؟!
وسكوت دعاتهم عن التحذير عنهم، كان نتيجة طاعة الظلمة عندما منعوهم من التكلم فيما يمس طاغوتهم المُتمثل في الحكم بغير ما أنزل الله وموالاة الكفار ومؤاخاة المشركين وغير ذلك، وهذا السكوت ينافي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما سبق بيان ذلك.
فاسمع - يا أخي - يجب عليك الانتباه لِذلك وأن تَعرض نفسك على الكتاب والسنة وتحذر من تلبيس الملبسين الذين أعرضوا عن قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } [ البقرة: 208 ].
بل إنهم ربما دخلوا وخرجوا كما رأيت سابقا في الآية: [ إن الذين ارتـدوا ] وكما قال صلـى الله عليه وآلـه وسلم: " يمسي الرجـل مؤمنـا ويصبح كافرا " [ أخرجه مسلم ].
ولا تنخدع بثناء الناس على هؤلاء، فقد كشفهم لك نبيك فيما رواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه في كتاب الفتن قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة.
وحدثنا عن رفعهـا قال: " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت [ ]. ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل [ ] كجمر دحرجته على رجلك فنفط [ ] فتراه منبتراً [ ] وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلا أميناً: ويقال لِلرجل ما أعقله، وما أجلده، وما أظرفه وما في قلبه حبة خردل من الإيمان ".
فبان لك من الحديث أن شأن الأمانة عظيم عند الله، والدين أعظم أمانة حملها الإنسان وقد قال ابن حجر في فتح الباري ص 39 جـ 13 ما نصه: [ وهذا إنما يقع على ما هو شاهد لِمن خالط أهل الخيانة فإنه يصير خائنا لأن القرين يقتدى بقرينه ].
وانظر كذلك إلى نعوت الرجل في الحديث: [ ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده ] مع أن قلبه خال من الإيمان. وقد شبهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في مظهره بالنفط الذي تراه منبترا وليس فيه شيء ا.هـ.
والطائفة الأخيرة تسير خلاف هدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتنهج طريق تحكيم الأفكار، فمن مبادئهم التخفي تحت أستار شتى، ويحاولون أن يغدروا بمن يعملون تحت سلطته.. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في صحيح مسلم: [ لا غدر في الإسلام ]، ويقول في حديث علي رضي الله عنه في البخاري في غزوة خيبر: [ فادعهم لِلإسلام ].
وكذلك هؤلاء إذا رأوا من يدعو لِلتوحيد وذم الشرك بأنواعه والبدع بأنواعها وبيان السنة الصحيحة وتصفيتها مما ليس منها، تراهم يتهمونه بالقصور في فهم الإسلام ويوجهون إليه انتقاداتهم مدعين أن الأمر أكبر من ذلك [ وهي الشيوعية ] فنقول لهم:- إن مشركي العرب وكذلك إبليس مُقِرُّون بالخالق فهل نفعهم ذلك؟
ونقول لهم: إن الطائفة الناجية التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من صفاتها أنها ظاهرة على الحق وليست مختفية مستترة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كان مظهرا لِدعوته مجاهراً بدينه ومصرحا بمعاداة الكفار والتبرئ منهم علنا.. وهي ملة إبراهيم عليه السلام ولذلك أوذي وأصحابه وأخرجوا.. أما أنتم فتقبلون موظفين ودعاة ومدرسين وجنود وخبراء.. الخ.
فلو أنكم صرحتم بالعداوة لهم ونهجتم مبدأ البراءة منهم علنا لنابذوكم وأذوكم أشد الإيذاء ولم يقلدوكم المناصب والمراكز بل لأخرجوكم وقتلوا خياركم كما حصل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه، فمبدأ دعوتهم كان ذلك.
وجميع الطوائف تتعذر بقلة العدد وانعدام العدة المادية وبالخوف من تسلط العدو بقواته الضخمة وكثرة عدده وعدته.
فالجواب على العذر الأول نقول: هل لكم أن تخبرونا عن عدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين عذبوا وأوذوا خلال ثلاثة عشر عاما بمكة؟
ثم هل رخّص لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السكوت والمهادنة والإخلاد إلى الأرض ومشاركة عدوهم في الأعمال أو حرضهم على نيل المراكز لديهم للغدر بهم أو خطط لهم مثل تخطيطاتكم العقلية والتي رأينا ولمسنا نتائجها؟
أما دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يخفى على بصير كيف كانت نتائجها، فلقد كان معه أقل من القليل من الصحابة وخاف منهم الروم وفارس عدلاء أمريكا وروسيا في زمانكم هذا.. واسمعوا سؤالات هرقل عظيم الروم لأبي سفيان واسمعوا - استنتاجاته..!
في حديث البخاري الطويل [ جـ 1 ص 7 ] قال هرقل:
وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟
فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
ثم قال هرقل: [ إن كان ما تقول حقا فسيُملك موضع قدمي هاتين ].
فانظر إلى بصيرة هرقل وعلمه الراسخ بظهور أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن عرف أنه اتبعه الضعفاء، ولم يسأل عن عدته ولا قوته ولا عن حماته.
manqool