ذات صباحخرج من المسجد شبه مغمض العينين محاولا الإسراع ما أمكن للعودة إلى فراشه ..لا يزال النوم يغلبه، برد الصباح يشعره بالحاجة إلى دفء اللحاف..
أمام بيت في طرقه لمح شبح امرأة .. بتوالي خطواته بدت معالم الشبح تتضح... الزقاق ضيق كباقي أزقة المدينة العتيقة، السكان لا يشعرون هذا الضيق إنه يزيدهم ألفة و تقاربا .. ضيق الزقاق لا يعني بالضرورة ضيق المنزل.. منازل جدرانها من الجير و التراب ..لا نوافذ خارجية ولا شرفات، لكن في الداخل رحابة و هندسة رائعة، نقوش جبصية على السقف، و أبواب خشبية منقوشة، وزليج بلدي، و أفرشة تقليدية لا يستغنى فيها عن الزرابي اليدوية مهما غلا ثمنها وقل شأنها عند الآخرين..
عندما اقترب.. فهم أن المرأة عائدة للتو من السفر، هذه حقائبها .. و هي تحاول أن تفتح الباب.. هو لا يعرفها فقد بيعت أغلب المنازل بأثمنة باهضة لغرباء -غربيين في الغالب- و اختار أغلب السكان شراء شقق عصرية خارج المدينة العتيقة ..
بادرته بلغة عربية متعثرة: من فضلك.. هلا ..ساعدتني.. في فتح الباب..
أمسك المفتاح ، بسمل وفتح الباب .
- عذرا.. على الإزعاج ، لو تتكرم.. و تدخل لي الحقيبة ، إنها..ثقيلة..
هذه الأمور جزء من حياة المدينة العتيقة ، اعتادها نبيل وغيره من الصبيان منذ الصغر أن يساعدوا النساء و الشيوخ كلما حملوا شيئا ثقيلا خاصة عند العودة من السوق.. و هم يتسابقون للمساعدة لعلهم يحصلون على برتقالة أو عنقود عنب يأكلونه دون غسله، ولا اعتبار لنصائح المدرسة بضرورة غسل الفواكه قبل أكلها..
دفعت المرأة الباب و دخل نبيل وراءها حاملا الحقيبة ، لم تكن ثقيلة كما توقع .. ضغطت على زر الكهرباء .. بدا البيت مزهوا بفراش فاخر، فقد أنفق هؤلاء الغرباء أموالا كثيرة لبعث الروح في هذه المنازل، خاصة أن أغلبها أصبح مهددا بالسقوط على أهله في أي وقت..
"تفضل" قالتها وهي تنزع منديلا كان على رأسها ، تهاوى شعر حريري أشقر مغطيا جل ظهرها حركت رأسها يمينا و شمالا ..كادت الحقيبة أن تسقط من يد الشاب ، كتم ارتباكه وواصل سيره..
انحنت المرأة وهي تحاول أن تخصص مكانا لوضع الحقيبة ، كانت ملابسها اللاصقة ترسم كل تفاصيل جسدها .. استرق النظر إلى ... ضاقت أنفاسه ، ارتفعت حرارته .. تقهقرت المرأة وراء.. اصطدمت بخصره.. خارت قواه.. سقطت من يديه الحقيبة .. وقفت المرأة مبتسمة ، رأى بدرا في تمامه على الأرض، و كأن الحسن كله مجتمع فيها فماذا بقي للأخريات!؟ اقتربت منه احتضنته استشعر أنفاسها في عنقه ، قبلته و...
***
دخل أربعة شبان بسراويل " دجينز" زرقاء، وأقمصة بيضاء تجسم عضلاتهم المفتولة، و نظارات سوداء، يتقدمهم رجل في الخمسين بهندام أنيق ، كان مايزال يحتفظ بكل رشاقة الشباب. تقدم نحو الشاب ضاحكا ... كان نبيل يبحث عن شيء يستر عورته وسيول العرق تتدفق من كل مسام جسده، بينما قامت المرأة الثلاثينية عارية و انسحبت من الغرفة .
- مرحبا أيها الشاب النبيل.. لم يخطر ببالك يوما أن تعاشر مثل هذه الجميلة.." بصحتك".
- ....
- لا تبك يا ولدي كن رجلا.. هذا القرص شريط مسجل لما قمت به الآن .. ما رأيك !؟ هل تريد نسخة منه!؟
- ....
- لا تقلق " سرك في بئر" إلا أن تفضح نفسك .. نحن نعرفك اسمك نبيل، و أنت شاب لطيف، سمعتك طيبة بين زملائك في المدينة و في الجامعة ..كما أن أباك مريض، وأسرتك تعيش فقط من معاشه الحقير، وما تأتي به أمك فاطمة من فتات ما تطهوه في الأعراس و المآتم..هاهاها.. لا تخف لن نشوه سمعتك .. فنحن أناس طيبون كما ترى .. لم يضربك أحد منا مع أنك عاشرت زوجتي الفاتنة ..هاهاهاها.. أرأيت خسة فعلتك !؟
ارتفعت شهقات نبيل... " قل لي ماذا تريد مني !؟"
ها نحن بدأنا نتواصل .. حاول أن تفهم .. نريد منك أمورا بسيطة جدا..
- ...
- ستتكلف بنقل مثل هذه الأكياس إلى زبنائنا في المدينة، و أحيانا إلى مدينة أخرى عند الضرورة . ولا باس أن تبيع لأصدقائك في الجامعة، وبعض تلاميذ الثانوية ممن تجالسهم ولمست لديهم استعداد للبيع لبعض التلاميذ... و لا تنس أن تحافظ على رزانتك و طيبوبتك .. وصلاة الصبح في المسجد كما العادة.. واحفظ سر المهنة جيدا.
بدأ نبيل يصيح ويضرب رأسه على الجدار .. كسر مرآةً. أمسكه اثنان من الرجال الأربعة، ضغط أحدهم بكفه على وجهه بقوة كادت أن تمزج أنفه بفمه و عينيه..
واصل الرجل كلامه " سنجربك بهذا الكيس ..عليك أن توصله إلى ... لا تنس أن عيوننا تراقبك.."
***
من حيث لم يحتسب صار نبيل فردا من عصابة مخدرات .. تحسن حاله الاجتماعي .. أدمن على يديه الكثير من أصدقائه.. صار له زبناء كثر من الشبان و الشابات.. طلاب في الجامعة و تلاميذ في الثانويات وعاطلين عن العمل.. عرف أخطبوطا من التجار من مختلف الطبقات الاجتماعية منتشرين كالسرطان في المدينة ، وفي مدن أخرى.. وعرف من تورط من الأبرياء أمثاله بطرق وحيل مختلفة ثم صاروا بعدها محترفين ..
بين الحين و الآخر يشعر بوخزات الضمير، لكن سرعان ما يرد فليذهب الكل إلى الجحيم .. أما عندما يتذكر كيف تورط فإنه يبكي أحيانا و تارة يضحك وطورا يكتفي بالشرب حتى الثمالة ثم ينام حيث هو ... أما المرأة الثلاثينية فلم ير لها أثرا ولم يسمع عنها شيئا منذ ذلك اليوم.. و لا تزال صورة ردفيها و هي تغادر عارية موشومة في ذاكرته.
***
تهيأ نبيل للنوم هادئا اليوم بلا مسكر و لا مخدر ... أرق كثيرا ، ظل يعد ضحاياه المباشرين، وكيف خرب بيوتا .. دمر مستقبل شباب .. بخر أحلام أطفال.. استعصى عليه تعداد ضحايا... أما غير المباشرين فمن يا ترى سيحصيهم..!؟
ها هو المجتمع ، جسد منخور من داخله استفحل مرضه.. من يا ترى سيعالجه ..!؟
أرقته أسئلة إنكارية كثيرة ... إلى أن غلبه النوم أخيرا .. ثم نام...
***
في منامه رأى نبيل نفسه في مركز شرطة المدينة يسلم نفسه، و يحكي كل ما جرى من ألفه إلى يائه ودموعه تبلل أهدابه... و ختم أقواله( لقد أدركت أن المركب كله يغرق، فقررت أن أغرق بدله لعلي انهي معاناة الكثيرين، و أنقذ ما بقي من الأبرياء قبل الإيقاع بهم... وها أنا أضع بين أيديكم خريطة هذا الأخطبوط ، فاسجنوني من الآن حتى لا ينكلون بي أسوأ تنكيل، و يقتلونني شر قتلة، ويوزعوا أطرافي بينهم .. – شعر بوخز إبرة في عنقه – فصاح :"شااااااف" ابدأ عملك أما أنا فالوداع...).
26/02/2010
== مشاركة في مسابقة القصة القصيرة في موضوع محاربة المخدرات.