في هذه الحياة ننخدع كثيرا عندما نظن أننا ملكنا الحقيقة ، ولو أننا راجعنا أنفسنا قليلا لوجدنا أن نظرتنا هي قاصرة ، وهذا من طبيعة بشريتنا ، أما لو اعتبرنا أننا فوق الخطأ والنقص فهنا الطامة !
لِنعُد للوراء قليلا ونقرأ عن ذلك الصحابي الجليل الذي ، أشار إلى بداية الصوم ، برؤيته للهلال .. وتبين له بعد ذلك إنما رأى شعرة نازلة من جبينه على عينه ..
ولو رجعنا للوراء أكثر ، لصادفنا في طريقنا قصة العبد الصالح في سورة الكهف ، تجعلنا نقف على حقيقة جهل أنفسنا وادعائنا العلم ..
ولنسأل أنفسنا : لماذا يضرب الله لنا هذه الأمثال ؟ هل لنكرر نفس الخطأ ياترى ؟
ولنتوسط الطريق بين الرحلتين في أعماق التاريخ ، ونأتي على قصة شاعر جاهليّ واسمه الحارثُ بن وَعْلَةَ الجَرْمِي، كان له نظرة دقيقة ولطيفة في فهم الواقع .. وهو على جاهليته ! كان هذا الشاعر يعرف معرفة اليقين وليس على سبيل التخمين من قتل أخاه ولكنه يقف وقفة سطرها له التاريخ حيث قال :
قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيم أخِي*** فإذا رمَيْتُ يُصيـبني سَهْمـي.
فلَئِنْ عَفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَللاً*** ولَئِنْ سَطَوتُ لأُوهِنَنْ عَظْمِي
يرسم الشاعر لنا هنا لوحة فنية نقية ، لوحة فيها روح تتحرك ، نتابع معه مراحل رسم هذه اللوحة ، فيتراءى لنا وهو ممسكٌ بقوسه ويريد أن يثأر لأخيه ، فيتذكر وهو في هذه اللحظة الحرجة ماسيعود على القبيلة من آثار نفاذ سهمه هذا ، مع أنه لم يكن عنده قرآنا يتلى فيه (( ..فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ..)) وماكان هذا الشاعر الجاهلي يدرك قيمة من يَعِده هذا الأجر ويضيف ذلك الأجر لنفسه العلية القدسية.. بينما نحن الآن بين أيدينا هذا الدستور الخالد بآياته البينات !
ولنعد إلى تتبع اللوحة الفنية لشاعرنا الحرّ ، عندما تذكّرَ آثار ثأره ، بدا له السهم يطلقه فيرتد إلى نفسه فيقتلها ، وهي صورة تهزنا من الأعماق هزا ، تخيّل لو انطلق هذا السهم نحو الهدف ، من الذي كان من المفترض أنْ سيموت ؟ يقرر الشاعر أنه هو من كان سيموت !! لا أدري هل عشتم هذه اللحظات الوجدانية المغرقة في النبالة مع هذا الشاعر ؟
كانت توجد عند القوم قيم لايتنازلون عنها ، مهما اشتد بهم الخطب ..
فأصحاب الأهداف الكبيرة والغايات النبيلة نجدهم يترفعون عن سفاسف الأمور ، وينظرون إلى أبعد ماينظر غيرهم من عامة الناس .. نراهم يذوبون وينصهرون في المجتمع على حساب الكيان العام .. وليس العكس !
لقد أظلنا شهر تصفد فيه الشياطين ، فلا نجتهد في فك أغلاله ، ولنخلص النية لله في كل أمورنا ..
اللهم اجعله شهر خير وبركة وطاعة ونصر على أنفسنا ومن ثم على الأعداء ..