نص القصيدة
اسْقِ ثَغْرَ الغَدِ مِنْ دَمْعِ المَآقِي
وَابْتَسِمْ لِلشَّمْسِ يَا نَخْلَ العِرَاقِ
وَاسْتَمِدَّ العَزْمَ عَنْقَاءَ العُلا
مِنْ رَمَادِ الحُزْنِ قَامَتْ بِانْطِلاقِ
لا تَلُمْ لَيلًا عَلَى ظُلْمَتِهِ
كُلُّ لَيلٍ زَائِلٌ وَالنُّورُ بَاقِ
فَانْبِلاجُ الفَجْرِ مِنْ عَينِ الدُّجَى
وَمَخَاضُ البَدْرِ مِنْ رَحْمِ المحَاقِ
وَانْعِتَاقُ التِّبْرِ مِنْ إِحْرَاقِهِ
وَابْتِسَامُ الزَّهْرِ مِنْ نَزْفِ السَّوَاقِي
يَا عِرَاقَ القَلْبِ يَا لَحْنَ الأَسَى
حُزْنُكَ المَبْثُوثُ كَأْسَ المُرِّ سَاقِ
أَيْنَ مِنَّا دَارُ مَجْدٍ حَلَّقَتْ
بِجَنَاحِ العِزِّ تَعْلُو كُلَّ رَاقِ
غَرَّدَتْ فِيهَا عَصَافِيرُ المُنَى
مِنْ تَرَانِيمِ ائْتِلافٍ وَائْتِلاقِ
وَفُرَاتُ الحُبِّ يَلْقَى دِجْلَةً
عِنْدَ ذَاكِ الشَّطِّ فِي ذَاكِ العِنَاقِ
أَيْنَ مِنَّا مَوْطِنٌ فِي دَمِهِ
نَكْهَةُ التَّارِيخِ تَسْرِي بِاعْتِبَاقِ
وَرَشِيدُ المَجْدِ فِي مَجْلِسِهِ
يَجْتَبِي العِلْمَ وَيَقْضِي بِخَلاقِ
وَازْدَهَتْ بِالحَزْمِ فِيهِ دَوْلَةٌ
زَانَهَا الفَخْرُ وَأَعْلاهَا التَلاقِي
ذُلَّ لَيثُ الشَّرْقِ فِي صَوْلَتِهِ
يَومَ رَامَ العِزَّ مِنْ ذِئْبِ الشِّقَاقِ
مَنْ سَقَى الأَيَّامَ مِنْ أَتْرَاحَهَا
غَيرُ مُرِّ الغَدْرِ مِنْ كَأْسِ النِّفَاقِ
وَانْتِهَازِيٍّ وَغِرٍّ تَمْتَمَا
إِنْ يَفُتْنَا السَّبْقُ أَدْرَكْنَا البَوَاقِي
وَيح قَومٍ كَيفَ يَومًا صَدَّقُوا
أَنَّ عِزَّ الحُرِّ فِي ذُلِّ الوَثَاقِ
وَعَلامَ المَوتُ أَضْحَى زَائِرًا
لِلمَنَايَا كُلَّ يَومٍ فِي اشْتِيَاقِ
كُلُّ طِفْلٍ سَابِحٍ فِي دَمِهِ
كُلُّ شَيخٍ عَظْمُهُ وَقْدُ احْتِرَاقِ
وَإِذَا الأَحْقَادُ رَانَتْ أَخْبَثَتْ
وَسَقَتْنَا مِنْ كَرِيهَاتِ المَذَاقِ
يَا عِرَاقَ الجُرْحِ فِي خَاصِرَتِي
وَدَمٌ يَنْثَالُ مِنْ جُرْحِ البُرَاقِ
طَالَ شَوْقُ القَلْبِ هَلْ مِنْ عَودَةٍ؟
إِنَّ حَرْقَ الشَّوْقِ مِنْ حَرِّ الفِرَاقِ
مِنْ إِبَاءِ الصَّخْرِ تَنْمُو زَهْرَةٌ
بِلِحَاءِ الصَّبْرِ فِي جَذْرٍ وَسَاقِ
وَمِنِ الضِّيقِ المُسَجَّى نَزْعَةٌ
لانْعِتَاقِ الرُّوحِ فِي رَحْبِ الوِفَاقِ
فَانْتَصِبْ فَوْقَ احْتِدَامَاتِ الأَذَى
أَنْتَ أَعْلَى هِمَّةً مِمَّا تُلاقِي
سَوفَ يَخْبُو كُلُّ بَرْقٍ طَارِئٍ
وَبَرِيقُ المَجْدِ فِي عَيْنَيكَ بَاقِ
وَالمَعَالِي تَجْتَلِي أَسْبَابَهَا
وَاللَيَالِي تَبْتَلِي وَاللهُ وَاقِ



القراءة

قرأت القصيدة على عجالةٍ و خرج القلم بشظايا الملاحظات التالية:
يبوح النص بالظاهري و الباطني من المعنى و المكنون، السطحي و العميق بلغة شعرية و حس شعوري سامق يستدعي دقة الملاحظة النقدية و التذوقية.
اسْقِ ثَغْرَ الغَدِ مِنْ دَمْعِ المَآقِـي ... وَابْتَسِمْ لِلشَّمْسِ يَا نَخْلَ العِـرَاقِ
هنا تشمخ صورة الشمس التي تستقبل ذاك الثغر المبتسم حين تهب رياح الحرية لا محالة و تسقي من شآبيب الدمع نخل العراق المتعطش لقطرة ماء – أو دمع حرّى - تعيد للعراق أنفاسه و حيويته و خلود أرضه وخصوبة تربها الحاضن لحضارات عربية و إسلامية أصيلة.
أما عندما نقرأ:
وَاسْتَمِـدَّ العَـزْمَ عَنْقَـاءَ العُـلا ... مِنْ رَمَادِ الحُزْنِ قَامَتْ بِانْطِلاقِ
ففيها بعد أسطوري يحمل دلالة على الشموخ و التحدي رغم الجراح الغائرة في الجسد المنهك أصلاً، عزز الفكرة صورة رماد الحزن والتي تنطوي على تكثيف التصوير لحالة الأمة في انكسار إرادتها و لحظة الإحساس بالهزيمة الداخلية، وليس فقط تلك الناجمة عن الاشتباك مع الآخر.
ثم يـأتي البيت الذي يقول:
لا تَلُـمْ لَيـلًا عَلَـى ظُلْمَـتِـهِ ... كُلُّ لَيـلٍ زَائِـلٌ وَالنُّـورُ بَـاقِ
وهنا يتعزز الأمل مرةً أخرى، فلا مكان للاستسلام أو الانكفاء على البكاء والتباكي على الأطلال، فلا بد مع العزم أن نرى النور يأتي ولا بد لليل أن ينجلي، وهنا يتضح التناص مع سابقات القصيدة من نصوص شعرية أخرى، ما يعني وعي الشاعر بضرورة التذكير و التنبيه و التأكيد على بزوغ نور الحرية و لو بعد حين.
أما في :
يَا عِرَاقَ القَلْبِ يَا لَحْنَ الأَسَـى ... حُزْنُكَ المَبْثُوثُ كَأْسَ المُرِّ سَاقِ
فهنا ينبري النص على عرض المشاعر الإنسانية وتفاعلها مع الواقعي الأليم والمحزن والذي أصبح قيثارة أحزان تذكر الناس بما اعتراها من هم و غم فظيعين.
وعندما يسقط ناظرنا على:
وَفُـرَاتُ الحُـبِّ يَلْقَـى دِجْلَـةً ... عِنْدَ ذَاكِ الشَّطِّ فِي ذَاكِ العِنَـاقِ
نحس أن النص يأتي على عذب ماء "الفرات" ببُعد الصورة التعبيرية التاريخي والحضاري، واللغة هنا أيضاً لا تستكين في العادي من الوصف و التصوير بل تعمل على التركيز على بؤر فاعلة و مؤثرة تستنهض خيال المتلقي دون تردد وبلا غموض.
ثم تتابع مدللولات النص الأكثر شموليةً في:
ذُلَّ لَيثُ الشَّـرْقِ فِـي صَوْلَتِـهِ ... يَومَ رَامَ العِزَّ مِنْ ذِئْبِ الشِّقَـاقِ
حيث لا ينسى النص أن يذكرنا بأنّا خير أمة أُخرجت للناس يوم كنا أتقياء وأقوياء، و لكن عندما ركنا لغيرنا ما نرنو إليه و سلمنا عهدة الأوطان و عزتها للغريب و المغتصب ضاعت أمانينا و أمجادنا وأصابنا من الذل ما لا نحسد عليه، كل هذا يأتي بلغة سامقةٍ جماليةٍ و قوية الأداء والتشخيص.
يَا عِرَاقَ الجُرْحِ فِي خَاصِرَتِـي ... وَدَمٌ يَنْثَالُ مِـنْ جُـرْحِ البُـرَاق
ِوهنا يصر الشاعر على التماهي مع العراق وأهل العراق ممن أصابهم من الكدر و الخدر و الكرب و الأحزان والأتراب، مستحضراً ما يصيب الأهل و الربع في فلسطين الأكثر حزناً و الأعمق جرحا.
على أن النص يذكر القراء – أينما كانوا – بالصبر و التحدي والوفاق و الجلد و القوة و المنعة:
مِنْ إِبَاءِ الصَّخْرِ تَنْمُـو زَهْـرَةٌ ... بِلِحَاءِ الصَّبْرِ فِي جَـذْرٍ وَسَـاقِ
وَمِنِ الضِّيقِ المُسَجَّـى نَزْعَـةٌ ... لانْعِتَاقِ الرُّوحِ فِي رَحْبِ الوِفَاقِ.
ثم يعزز الشاعر نصه بالروحي من قوة يستلهمها من رب الأكوان و السموات و الأرضين، في مناجاة صادقة تخرج من القلب و بكل خشوع:
وَالمَعَالِـي تَجْتَلِـي أَسْبَابَـهَـا ... وَاللَيَـالِـي تَبْتَـلِـي وَاللهُ وَاقِ
بارك الله فيك حبيبي سمير و جعلك سيفاً من سيوف الكلم الطيب لا تخاف في الله لومة لائم...وكن مع الله ولا تبالي........

د. عبدالله حسين كراز
أستاذ الأدب الإنجليزي و النقد المقارن المساعد