تأملات متذوق

يفاجئنا الشاعر د. سمير العمري بهذه القصيدة أيما مفاجأة ، ويتركنا على شاطئ قصيدته بين العجب والإعجاب ، نتساءل كيف استطاع أن يخرج هذه المشاعر الجياشة العذبة وهو الوقور المتحفظ ؟ . والمتابع لشعره يجده يصب أساساً في اتجاهات خاصة به تفضي بشعره لغاية عامة جعلت انتاجه في الغزل والنسيب أقل بكثير من مواضيع مشروعه الشعري الأخرى ، كانت هذه هي المفاجأة الأولى ،
أما الثانية فكانت تفوقه الطاغي في هذا اللون من الشعر لدرجة انتزاع الآهات عند القراءة الأولى .
إنه الاستقرار الأسري والعاطفي - أدامه الله عليه – ذلك الذي أرغم الشاعر أن يكتب هذه القصيدة ، أو ربما هي محنة وقع فيها أو طارئ ألم به أدى إلى ظهور معدن الزوج الطيبة فاستفاقت مشاعره القديمة الأصيلة لتظهر في مقدمة مشاعره مما أرق بحر شعره فترقرق عذبا .

لا رَيْبَ أَنَّـكِ مِـنْ نَعِيـمِ البَـارِي
وَبِأَنَّـكِ المَقْسُـومُ مِـنْ أَقْــدَارِي


يبدأ الشاعر قصيدته بتقرير حقيقة تأخذ القارئ بين قوة العاطفة وقوة الإيمان ، فعندما رأى الشاعر أن زوجه جمعت في نفسها كل ما تمناه وأحبه من خصال ، علم أنها الزوجة الصالحة التي تعينه على نصف دينه فنسب الفضل كله لله المنعم لا إلى مودته ورحمته هو.
أما كلمة ( لا ريب) في بداية القصيدة فهي مدخل ولا أروع بحثت عنه في شعر الأقدمين فلم أجده إلا عند أبي العلاء المعري مرة واحدة في مطلع قصيدة في قوله :

لا رَيبَ أَنَّ اللَهَ حَقٌّ فَلتَعُد
بِاللَومِ أَنفُسُكُم عَلى مُرتابِها


ثم ينهمر السيل الشعري من قلبه فيجرفنا تياره بأبيات غاية في الرقة والعذوبة ، يدور فيها القلب العاشق حول محبوبته بلا تحفظ وتخرج من الأبيات دون أن يراجعها في مشاعرها في صورة بديعة تجعله في زمرة العشاق الشعراء وإن قلّوا.
ثم يصل لنقطة أراها هي مركز هذا الزلزال العاطفي في داخله في هذه القصيدة :

يَا أَنْتِ يَا حِضْـنَ الأَمَـانِ لِغُرْبَتِـي
وَلِمُهْجَتِـي نَبْـعُ الحَنَـانِ الجَـارِي


الغربة .. التي يسكنها بينما يسكن وطنه في داخله ، وكأنهما قوتا الجذب والطرد المركزيتين اللتان جعلتاه يدور ويدور يأخذه الحنين لوطنه وتكويه نار البعد عنه ، وهنا يظهر دور الزوج في كونها حضن الأمان ونبع الحنان ورفيقة الدرب الصعب التي تعطي بلا حدود بمحبة وإيفاء وإيثار ، حتى أنها جعلت زوجها يرضى عن الدنيا بعد أن طحنته :

وَفَقَأْتِ عَينَ السُّخْـطِ لا عَيْبَـاً أَرَى
وَفَتَحْتِ عَينَـاً لِلرِّضَـا فِـي الـدَّارِ

وهنا استلهام وتوظيف رائع لبيت الإمام الشافعي :

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ
وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا


ويتتابع سيل العاطفة ، حتى يرى المحبوب حبيبته ملكة وما عداها ممن حولها بعض جواري وهي نقطة اتفاق بين كل العاشقين على مر العصور.
ثم يصل للنقطة التي سببت مفاجأة القصيدة:

القَلْـبُ قَـدْ جَعَـلَ اتِّبَاعَـكِ غَايَـةً
يُبْـدِي الصَّبَابَـةَ تَـارَةً وَيُــدَارِي


ويعيد المعنى موضحا إياه بما يتوافق مع تركيبته النفسية المتحفظة:

وَوَدَدْتُ لَو أَنِّـي انْهَمَـرْتُ كَعَاشِـقٍ
لَكِنْ سَحَابُ الحَـرْفِ بَعْـضُ وَقَـارِ


ما تريد أن تقول بعد أن زرعتنا عجابا وإعجابا بمناجاتك الشعرية التي ذبت فيها وأذبتنا صبابة أيها الشاعر ؟
ويختم القصيدة بأنها هدية صاغتها أبجديته إكليل فخرٍ لمحبوبته وكم تخلد هذه المعاني السامية والأبيات السامقة وتفنى الهدايا الحسية مهما غلت قيمتها المادية.

أحب أن أشير إلى قدرة الشاعر على توليد المفردات وتركيب الصور وصنع الجناس بشكل فذ :
( رُوحَـكِ رَاحَتِـي ) ( قُـرَّتِـي وَقَــرَارِي) (الطيف نور والحشا نار) (سِحْـرَ الهُـدُوءِ وَهَـدْأَةِ الأَسْحَـارِ)
إلى غير ذلك مما لا يأتي إلا من شاعر محنك ولغوي بارع .

ووقفة صغيرة عند قول الشاعر (وَبِـأَنَّ عَيْنَيـكِ ابْتِسَامَـةُ خَاطِـرِي = وَحَدِيثَـهُـنَّ ) في عودة ضمير الجمع على مثنى وإن وجدته يمكن أن يعود على العينين وخاطره وابتسامته.

الحبيب الدكتور سمير لستُ ناقدا ولكني تشربتُ قصيدتك حتى النخاع فكان ما قلتُه مجرد تأملات متذوقٍ أعجبته قصيدة رائعة.

كل الدعوات الصالحة أن يديم الله السعادة عليك وعلى آل بيتك إنه ولي ذلك والقادر عليه


[COLOR="Black"][CENTER]