إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا ، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له،ومن يُضلِل فلا هاديَ له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .

هذا الموضوعُ هو ضمن سلسلةٍ سبقَ أن بدأنا بها ، وهيَ سلسلةُ وسائلَ وتوجيهاتٍ ، وقد كانَت الحلقةُ الأولى بعنوان : أربعون وسيلة لاستغلالِ رمضان ، ثُمَّ أربعون وسيلة لاستغلالِ موسم الحجِّ ، ثم أربعون وسيلة لاستغلالِ الإجازةِ الصيفيَّةِ ، ثُمَّ هذه هي الحلقةُ الرابعةُ ، وهي أيضاً : أربعون وسيلة .

وهذه التَّوجيهاتُ وهذه الأفكارُ هي مجموعةُ توجيهاتٍ وأفكارٍ ووسائلَ في تربيةِ الصِّغارِ كنتُ قد جمعتُ شيئاً منها في درسٍ قبلَ خمسِ سنواتٍ تقريباً ، وكان يراودُني تجديدُ هذا الدَّرسِ وإلحاقُ بعضِ الوسائلِ والتوجيهاتِ ، وكان للتَّسويفِ والانشغالِ وقِلَّةِ البضاعةِ دورٌ في التَّأخيرِ .

حتَّى وقعَ بين يديَّ بحثٌ تكميليٌّ لنيلِ درجةِ الماجستير بعنوانِ : مسؤوليَّةُ الأبِ المسلمِ في تربيةِ الولدِ في مرحلةِ الطفولةِ ، والحقُّ يُقَالُ فهو كتابٌ جامعٌ فريدٌ أنصحُ الآباءَ والأمَّهاتِ بالقراءةِ فيه والنَّظَرِ والاستفادةِ منه ، فقد جمعَ صاحبُه الأستاذُ : عدنان حسن باحارث ، كثيراً من الفوائدِ و الشَّواردِ والتَّوجيهاتِ والتَّجاربِ لعلماءِ التَّربيةِ والمتخصِّصين في هذا الشَّأنِ ، جزى الله كاتبَه خيرَ الجزاءِ ونفعَ اللهُ به ورعاه .

ولو كُمِّلَ هذا الكتابُ بتخريجِ الأحاديثِ والآثارِ فيه والحكمِ عليها من متخصِّصٍ في هذا الفنِّ لزادَ العقدَ بهاءً وجمالاً ، ولقد استفدتُ منه كثيراً في هذا الموضوعِ الذي أسألُ الله عز وجل أن ينفعَ به الآباءَ والأمُّهاتِ في وقتٍ تخلَّى كثيرٌ منهم عن هذه المسؤوليَّةِ العظيمةِ ، تربيةِ الأبناء .

فالأبُ في وظيفتِه وتجارتِه ، ورُبَّما الأمُّ في وظيفتِها وزياراتِها ، والضحيَّةُ هم الأولادُ ، ورُبَّما تُرِكُوا للأعاجمِ و الجُهَّالِ من السَّائقين والخادماتِ !

ألا فاتَّقِ الله أيُّها الأبُ ، واتَّقي الله أيَّتُها الأمُّ ، فإنَّكما مسؤولان أمامَ الله عن هذه الأمانةِ ، وتذكَّرا جيِّداً هذا الموقفَ عندَ السُّؤالِ والحسابِ :

قال صلى الله عليه وسلم في الحديثِ المشهورِ " كلُّكُم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه ، فالإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه ، والرَّجُلُ راعٍ في أهلهِ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه ، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِها..".(متفق عليه )

وقال صلى الله عليه وسلم " ما مِن عبدٍ يسترعيه الله رعيَّةً فلم يُحِطها بنصحِه إلا لم يجِد رائحةَ الجنَّةِ "(متفق عليه ).

وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم :6] .

إذاً فاعلما أنَّ مسؤوليَّةَ تربيةِ الأولادِ بينكما مشتركةٌ تقتضي التَّعاونَ والتَّفاهُمَ ، واعلما أيضاً أنَّ مرحلةَ الطفولة مرحلةٌ مُهِمَّةٌ جدَّاً في توجيهِ الوَلَدِ وتأديبِه ، قال الإمامُ الماورديُّ مؤكِّداً على هذا المعنى : فأمَّا التأديبُ اللازمُ للأبِ فهو أن يأخذَ ولدَه بمبادئ الآدابِ ليأنسَ بها وينشأَ عليها فيسهلَ عليه قبولُها عندَ الكبرِ لاستئناسِه بمبادئها في الصِّغَرِ ، لأنَّ نشأةَ الصَّغيرِ على شيءٍ تجعلُه متطبِّعاً به ، ومن أُغفِلَ في الصِّغَرِ كان تأديبُه في الكِبَرِ عسيراً .

وإليك مقطوعة لأحمد شوقي تلخِّصُ هذا المعنى وتعرضُه في أبهى صورةٍ ، يقولُ :

بينَ الحديقةِ والنَّهَـرْ وجمالِ ألوانِ الزّهَرْ
سارَت مها مسرورةً مع والدٍ حانٍ أَبَـرّ
فرأَت هنالك نخلـةً معوجَّةً بين الشَّجَرْ
فتناولَت حبلاً وقالَت يا أبي هيَّا انتظِــرْ
حتَّى نقوِّمَ عودَهـا لتكونَ أجملَ في النَّظَرْ
فأجابَ والدُها : لقد كبرَت وطالَ بها العُمُرْ
ومن العسيرِ صلاحُها فاتَ الأوانُ ولا مَفَـرّ
قد ينفعُ الإصلاحُ والتَّـهذيبُ في عهدِ الصِّغَرْ
والنَّشءُ إن أهملتَـه طفلاً تعثَّرَ في الكِبَـرْ


--------------------------------------------------------------------------------

الوسائل والتوجيهات

الوسيلةُ الأولى :
الحرصُ على تعويدِه على مراقبةِ الله ، وغرسُ ذلك في نفسِه كلَّ لحظةٍ ، وتخويفُه بالله سبحانه وتعالى لا بأبيه ولا بالحرامي ولا بالبعبعِ كما تفعلُ كثيرٌ من الأمَّهاتِ ، فإنَّ الصَّغيرَ يتعلَّقُ بالله ، فلا يرجُو إلا الله ، ولا يخافُ إلا الله .

وهذا ما يسمِّيه علماءُ التَّربيةِ بالوازعِ الدينيِّ ، وهذا جانبٌ مهمٌّ جداً يغفلُ عنه الآباءُ والأمَّهاتُ ، واسمع لقولِ الحقِّ عز وجل حاكياً عن لقمانَ وهو يؤصِّلُ هذا الجانبَ في نفسِ ولدِه ، يقول I على لسانِ لقمان } يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ{ [لقمان:16].

انظُر للتَّربيَةِ العميقةِ التي تملؤُ نفسَ الولدِ بعظمةِ الله ، بعظمةِ علمِ الله واطَّلاعِه عليه ، حتَّى وإن كانَت هذه الحبَّةُ في حقارتِها لا وزنَ لها ولا قيمةَ ، ولو كانت هذه الحبَّةُ داخلَ صخرةٍ صلبةٍ محشورةٍ ، أو كانت هذه الحبَّةُ في السماواتِ ذلك الكيانِ الهائلِ الشَّاسعِ الذي يبدو فيه النجمُ الكبيرُ ذرَّةً تائهةً ، فكيف بهذه الحبَّةِ الحقيرةِ ؟ أو حتَّى كانَت هذه الحبَّةُ في الأرضِ ضائعةً ، فإنَّ الله I سيبديها ويظهرُها بلطيفِ علمِه ، فأين الآباءُ والأمَّهاتُ عن هذه التَّربيةِ ؟!

املأ قلبَ صغيرِكَ بخوفِ الله، وأخبره بأنَّ الله يراه في كلِّ مكانٍ،وأنَّه مطَّلِعٌ عليه في كلِّ حالٍ، فإذا كذبَ قُل له : إنَّ الله يعلمُ ما تُخفي ، وإنَّ الكاذبَ في النَّارِ ، وإذا سرقَ فقُل له : إنَّ الله يراكَ وإنَّ الله يغضبُ على السَّارقِ ، وإذا عصاك فقُل له : إنَّ الله يغضبُ عليك ، وإذا أطاعَك فقُل له : إنَّ الله يُحبُّك ، هكذا في كلِّ أفعالِه ذكِّره بالله I .

إذاً فلنربِّ أبناءنا على هذا المنهجِ ، ثُمَّ بعدَ ذلك أطلِق له العنانَ ، فكلمَّا حدَّثَته نفسُه بأمرِ سوءٍ تذكَّرَ أنَّ الله عز وجل معه يراه ويعلمُ ما يصنعُ .

ويؤكِّدُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على هذا المنهجِ ، فنجدُه يوصي ابنَ عبَّاسٍ وهو صغيرٌ ، فيقولُ له صلى الله عليه وسلم " يا غلامُ - وفي روايةٍ : يا غليّم - إنِّي أعلِّمُك كلماتٍ ، احفظِ الله يحفَظْك ، احفظِ الله تجدْه أمامَك ، إذا سألتَ فاسألِ الله ، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعُوا على أن يضرُّوك بشيءٍ لن يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك ، وأنَّ الأمَّةَ لو اجتمعُوا على أن ينفعُوك بشيءٍ لن ينفعُوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبَه الله لكَ ، رُفِعَت الأقلامُ وجَفَّت الصُّحُفُ "[1].

هكذا كان صلى الله عليه وسلم يغرسُ هذه المعاني الجميلة في نفسِ ابن عبَّاسٍ وهو صغيرٌ .

حَمَّادُ بن زيدٍ يقولُ : كنتُ أسيرُ مع أبي فمرَرنا من جدارٍ فيه تبنٌ فأخذتُ عودَ تبنٍ ، فقال لي أبي : لِمَ أخذت ؟! – ينهرُني – فقلتُ : إنَّه عودُ تبنٍ ! فقال أبي : لو أنَّ النَّاسَ كلَّهم مرُّوا من هاهنا فأخذُوا عودَ تبنٍ هل كان يبقى في الجدارِ تبنٌ يا بُنَيَّ ؟!

هكذا كانوا يربُّونَهُم على الأمانة حتى في أحقرِ الأشياءِ ، لا تمتدُّ اليدُ على أحقرِ الأشياءِ حتى إذا كبرَ لا تمتدُّ يدُه على أيِّ شيءٍ مهما كان صغيراً أو كبيراً .

سهلُ التَّستُري يقولُ : كنتُ مع خالي صغيراً وأنا ابن ثلاثِ سنين وكان يقولُ لي: انظُر ألا تذكرُ الله الذي خلقَك ؟ قال : كيف أذكرُه ؟ قال لي خالي محمَّد بن سِوار : قُل بقلبِكَ من غيرِ أن تحرِّكَ به لسانَك : اللهُ معي ، اللهُ ناظرٌ إليَّ ، اللهُ شاهدي ، ثلاثاً ثُمَّ سبعاً ثُمَّ أحد عشر .

تأصيلُ رقابةِ الله عزَّ وجلَّ في نفسِ الصَّغيرِ حتَّى وإن كان ابن ثلاثِ سنين !

بائعةُ اللَّبَنِ تقولُ لأمِّها : يا أمَّاه إن كان أميرُ المؤمنين لا يرانا فإنَّ ربَّ أميرِ المؤمنين يرانا .

فعلِّمِ الصَّغيرَ من هو الله ، وأنَّه هو الذي خلقَه وأنعمَ عليه ، ليمتلئَ قلبُه بحبِّ الله ، فيحرصَ بعدَ ذلك ألا يغضبَ الله بقولٍ أو فعلٍ.

ذكرَ ابنُ سعدٍ في الطَّبقاتِ:أنَّ أمَّ سُليمٍ كانَت تلقِّنُ أنساً ولدَها الشَّهادتين قبلَ أن يبلغَ سنتين.

الوسيلةُ الثانيةُ :
التأكيدُ على تعليمِه الوضوءَ والصَّلاةَ ، وإنَّ أخطرَ شيءٍ نلحظُه اليومَ على صغارِنا هو إهمالُ هذا الجانبِ ، فتجدُ غالبَ الأولادِ يبلغُ العاشرةَ من عُمُرِه لا يعرفُ كيفَ يصلِّي !

وهذا أمرٌ مشاهَدٌ محسوسٌ ، فانظُر إليهم في المساجدِ عندَ ركُوعِهم وسجُودِهم ولَعبِهم وضَربِهم لبعضٍ !

فلماذا لا يجلسُ الأبُ أو الأمُّ وقتاً يسيراً لتعليمِ صغارِهم هذا الرُّكنَ العظيمَ ؟ وذلك بالتَّطبيقِ العمليِّ أمامَه ثُمَّ ليطبِّقْ الولدُ ما يراه ، فإن أخطأَ وُجِّهَ بدون تعنيفٍ .

إنَّ أولادَنا الصِّغارَ كثيراً ما يندفعُون لتقليدِ آبائهم وأمَّهاتِهم في الصَّلاةِ ، فيقفُون بجوارِهم ، ويفعلُون كما يفعلُ آباؤهم ، ولذلك نوصي الأبَ بأن يحرصَ على صلاةِ الرَّواتبِ والنَّوافلِ في البيتِ ، بل هذه هي السنَّةُ فقد قالَ صلى الله عليه وسلم " صَلُّوا- أَيُّهَا النَّاسُ- فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ "[2] .

وفي صلاةِ النَّافلةِ في البيوتِ فوائدُ كثيرةٌ منها :
تشجيعُ الزَّوجةِ والأهلِ على العبادةِ ، وإحياءُ البيتِ وطردُ الشَّياطين ، وكثرةُ مشاهدةِ الصِّغارِ والدَهم وهو يُصلِّي ، وهذا ما يُسمَّى عندَ علماءِ التَّربيةِ بأسلوبِ التَّربيةِ بالعادةِ وهو من أسهلِ الأساليبِ وأفضلِها .

وكم نغفلُ عن هذا المنهجِ النبويِّ في أمرِ الصَّلاة ،فقد قالَ صلى الله عليه وسلم " مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ "[3] ، وفي هذا الحديثِ يَمرُّ الصَّغيرُ بثلاثِ مراحلَ :

· قبلَ السَّبعِ ، وهذا أمرٌ مندوبٌ إليه أن يُشَجَّعَ الصَّغيرُ بالتَّلميحِ والتَّعريضِ في الصَّلاةِ .

· وما بعدَ السَّبعِ ،وهنا يجبُ على الأبِ وعلى الأمِّ أن يعلِّما صغيرَهما على الصَّلاةِ وأركانِها وما يقولُ فيها .

· ثُمَّ المرحلةُ الثالثةُ عندَ العشرِ وما بعدَها ، فإن لم يستجِب الصَّغيرُ فكما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم " وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ " ، ولا يُستعمَلُ العقابُ البدنيُّ _ أي الضَّرب _ إلا بعدَ فَشَلِ جميعِ الوسائلِ والعقوباتِ الأخرى من وعظِه وتعنيفِه وهجرِه - أي لا يكلِّمُه ولا يمازحُه ويحرمه بعضَ ما يحبُّ - .

وكم نقعُ في أخطاء تربويَّةٍ جسيمةٍ في أمرِ الصَّلاةِ بدون أن نشعرَ ، ومن هذا الحرصُ الشَّديدُ على إيقاظِه للمدرسةِ والاهتمامُ بذلك ، وألاَّ يتأخَّرَ لحظاتٍ ورُبَّما عقابُه لو تأخَّرَ ، أمَّا صلاةُ الفجرِ فتأخذُ الأمَّ الشَّفَقَةُ والرَّحمةُ بإيقاظِ ولدِها لها ، فلا يصلِّيها إلا عندَ ذهابِه للمدرسةِ ، مع أنَّ الولدَ بلغَ العاشرةَ ، يندب له أن يصليها لوقتِها مع جماعةِ المسلمين !

ولاشكَّ أنَّ الأمَّ آثمةٌ في مثلِ هذا الفعلِ ، وأنَّ الشَّفقةَ والرَّحمةَ تكون في إيقاظِه وصلاتِه مع المسلمين ، ولذلك قال الحقُّ عز وجل } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا{[التحريم:6]، فإذا أردنا الشَّفَقَةَ ووقايةَ أولادِنا فذلك يكونُ بتعليمِهم وتأكيدِ أهميَّةِ صلاةِ الفجرِ معَ المسلمين في وقتِها .

يُروى في سيرةِ الإمامِ أحمدَ أنَّ أمَّه كانَت توقظُه في ثُلُثِ الَّليلِ الأخيرِ فتسخِّنُ له الماءَ فيصلِّي ما شاءَ الله أن يُصلِّي ، ثُمَّ إذا أذَّنَ لصلاةِ الفجرِ أخذَت بيدِه وسارَت معه حتَّى أدخلَته المسجدَ ثُمَّ قبعَت عندَ عَتَبةِ المسجدِ تنتظرُ صغيرَها حتى ينتهي من الصَّلاةِ ،فإذا انتهى أخذَت بيدِه وأرجعَته إلى بيتِها .

هكذا كانت الأمَّهاتُ رضوانُ الله تعالى عليهِنَّ في الحرصِ على تربيةِ الصغيرِ والاهتمامِ به ، ولذلك كان خلفَ الإمامِ أحمدَ من خَلْفَهُ من أمٍّ صالحةٍ تحرصُ على تربيةِ هذا الصَّغيرِ تربيةً ربانيَّةً .

الوسيلةُ الثَّالثةُ :
القدوةُ الصَّالحةُ ،فإنَّ الصِّغارَ يبدؤون التَّقليدَ من السَّنَةِ الثَّانيةِ أو قبلَها بقليلٍ ، وهم يتعلَّمُون بالقدوةِ والمشاهَدَةِ أكثرَ مِمَّا نتصوَّرُه ، فالطِّفلُ يحاكي أفعالَ والدِه ، والطِّفلةُ تحاكي أفعالَ أمِّها ، وهذا يؤكِّدُ أموراً عدَّةً ، منها :

- ألا نظهرَ أمامَه إلا بصورةٍ حسنةٍ .

وليسَ النَّبتُ ينبتُ في جنانٍ كمثلِ النَّبتِ ينبتُ في فلاةِ

وهل يُرجى لأطفالٍ كمالٌ إذا ارتضعُوا ثُدُيَّ النَّاقصَاتِ ؟!

فانتبهي أيَّتُها الأمُّ لأفعالِكِ وأقوالِكِ خاصَّةً أمامَ صغارِكِ .

- ثُمَّ الإبتعادُ عن المتناقضات في الحياةِ ، فإنَّها تهلكُ الطِّفلَ وتمزِّقُ نفسيَّتَه ، وخُذ أمثلةً على ذلك :

· المدرِّسُ يحذِّرُ الطِّفلَ من الدُّخانِ والتَّدخينِ مثلاً وخطرِه، وأنَّه محرَّمٌ يغضبُ الله عز وجل ، ثُمَّ إذا رجعَ الطِّفلُ إلى بيتِه وجدَ أباه يدخِّنُ ، وأخاه أيضاً فما رأيكُم وما هو تأثيرُ ذلك على هذه النفسيَّةِ ؟

· وأيضاً الطفلُ يسمعُ عن الصَّلاةِ وأهميَّتِها ، وأنَّ تركَها جريمةٌ وكُفرٌ ، ثُمَّ يرى والدَه أو أخاه لايصلُّون أو لا يحرصُون عليها .

هذا في أمورِ العبادةِ ..

وخُذ أمثلةً في الأمورِ الاجتماعيَّةِ :

· عندَ إعطائه علاجاً مُرَّاً مثلاً ، تؤكِّدُ الأمُّ لصغيرِها أنَّ هذا العلاجَ حلوٌ ، فإذا شربَه الصَّغيرُ وجدَهُ مرَّاً علقمَاً ، وانظُر إلى تأثيرِ ذلك في نفسيَّةِ الصَّغيرِ .

· أو لو أنَّ الطبيبَ مثلاً كتبَ حُقنةً و إبرةً لذلك الصَّغيرِ فرُبَّما أنَّ أباه قال للصَّغيرِ: إنَّها لا تؤلِمُ ، فإذا بالصَّغيرِ عندَما يُضرَبُ هذه الحقنةَ يجدُ ألَمَها في نفسِه !!ولك أن تتصوَّرَ كيف تكونُ نفسيَّةُ هذا الصَّغيرِ .

· أو رُبَّما أيضاً عندَ غيابِه عن المدرسةِ بسببِ نومِه أو نومِ والديه ، فغابَ الصَّغيرُ هذا اليومَ عن المدرسةِ فإذا بأبيه غداً يأخذُ بيَدِ الصَّغيرِ فيدخلُ على مديرِ المدرسةِ فيقولُ له مثلاً : إنَّ فلاناً كان مريضاً ، ويسمعُ الصَّغيرُ هذه الكلماتِ ! فماذا ستُحدِثُ هذه الكلماتُ في نفسِ الصَّغيرِ وهو يعلمُ أنَّه لم يكُن مريضاً ؟!

هذه أمثلةٌ .. فأيُّ جريمةٍ نرتكبُها في حقِّ هؤلاء الصِّغارِ ونحنُ لا نشعرُ ؟! إنَّك مهما وعظتَ ، ومهما سمعُوا من المدرِّسين فإنَّهُم لن يحملُوا في داخلِ نفوسِهم سوى الصُّور التي يرونها أمامَهم ، إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّاً فشرٌّ .

وقد تنبَّهَ السَّلفُ الصَّالحُ رضوانُ الله تعالى عليهم إلى هذا الأمرِ وأهميَّتِه ، فهذا عمرو بن عتبةَ ينبِّهُ معلِّمَ ولدِه لهذا الأمرِ فيقولُ : ليَكُن أوَّلَ إصلاحِك لولدي إصلاحُك لنفسِك ، فإنَّ عيونَهم معقودةٌ بعينِك ، فالحَسَنُ عندَهم ما صنعتَ ، والقبيحُ عندَهم ما تركتَ .

إذن فليسمِع الآباءُ ولتسمَع الأمَّهاتُ ، وليسمَع المدرِّسُون ولتسمَعِ المدرِّساتُ ، إنَّكُم مهما قلتُم فأولادُكم وطلاَّبُكم يفعلُون ما فعلتُم ، فالله الله في القُدوةِ ، وإنَّ الأزمةَ التي يعيشُها التَّعليمُ اليومَ في الأمَّةِ أجمعَ هي أزمةُ قدواتٍ .

الوسيلةُ الرَّابعةُ :
الدُّعاءُ ، للدُّعاءِ واللُّجوءِ إلى اللهِ عز وجل أثرٌ عجيبٌ في صلاحِ الأولادِ واستقامتِهم ، ولقد كان الأنبياءُ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أكثرَ النَّاسِ دعاءً لله بإصلاحِ أولادِهم ، فهذا إبراهيمُ عز وجل يقولُ كما يخبرُ الله عنه } وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ {[إبراهيم:35]، وهذا زكريَّا يقولُ كما يخبرُ الله عنه أيضاً } قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ { [ آل عمران: 38] ،ويقولُ الله عز وجل على لسانِ إبراهيمِ عز وجل } رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ{ [ إبراهيم:40] ويخبرُ الله I على لسانِ المؤمنين الصَّالحين } وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا {[ الفرقان:74].

واحذَر أيها الأب، واحذري أيَّتُها الأمُّ من الدُّعاءِ على الأولادِ ، خاصَّةً أنتِ أيَّتُها الأمُّ عندَ الغَضَبِ ، فرُبَّما أطلقَت الأمُّ للسانِها العنانَ في السبِّ واللعنِ !

وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال " ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ " [4] .

وقال صلى الله عليه وسلم " لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ " [5]، وهذا نهيٌ صريحٌ عن الدعاءِ على الأولادِ ، فأكثرُوا أيُّها الآباءُ والأمَّهاتُ من الدُّعاءِ لأولادِكم ، وألِحُّوا عليه بركوعِكُم وسجودِكُم واستعينُوا بالله في تربيَتِهم فإنَّه خيرُ معينٍ ، وإذا استعنتَ فاستَعِن بالله.



اللهُمَّ أصلِح أولادَ المسلمين وبناتِهم ، اللهُمَّ اجعَلهُم قرَّةَ أعينٍ لآبائهم وأمَّهاتِهم ، ربَّنا هَب لنا من أزواجِنا وذريَّاتِنا قرَّةَ أعيُنٍ واجعَلنا للمتَّقين إماماً ، ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسَنَةً وفي الآخرةِ حَسَنَةً وقِنا عذابَ النَّارِ ، اللهُمَّ أصلِح أبناءَ المسلمين والمسلمات ، اللهُمَّ نسألُك الذريَّةَ الصَّالحةَ التي تكونُ عِزَّاً للإسلامِ والمسلمين .

اللهُمَّ أصلِح أبناءَ المسلمين وحبِّب إليهم الإيمانَ وزيِّنه في قلوبِهم وكرِّه إليهم الكُفرَ والفُسوقَ والعصيانَ واجعلهُم من الرَّاشدين .

سبحانك اللهُمَّ وبحمدِك نشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا أنت نستغفرُك ونتوبُ إليك .

وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ تسليماً كثيراً .