أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الجَرَسُ الخَفِيُّ.. للشاعر عبد اللطيف السباعي.. قراءة معمقة

  1. #1
    الصورة الرمزية عبد اللطيف السباعي شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2014
    المشاركات : 280
    المواضيع : 52
    الردود : 280
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي الجَرَسُ الخَفِيُّ.. للشاعر عبد اللطيف السباعي.. قراءة معمقة

    قراءة معمقة في قصيدة "الجرس الخفي" للشاعر عبد اللطيف السباعي (غسري)
    :
    بقلم الناقد الاستاذ ايوب صابر

    الجَرَسُ الخَفِيُّ


    بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَـــــرَسُ
    مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِــــــسُ

    يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَــــــــهُ
    زَخَّاتِ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهَا الهَـــــوَسُ

    أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْتَقََـــةٌ
    حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبـــَسُ

    أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَــةٌ
    فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

    إنَّ المَسَافاتِ فِي دَرْبِي مُجَنَّحَــــــةٌ
    يَكْبو على إِثْرِهَا البِرْذوْنُ والفـَرَسُ

    شَوْطًا قَطعْتُ وَشَوْطٌ كادَ يَقْطعُنِــي
    وَمُمْسِكٌ بِتلابِيبِ المَدَى النَّفَـــــــسُ

    فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي
    إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِـــــــــــسُ

    وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَـــــــــــةٍ
    وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِـــــسُ

    أنا المَشُوقُ إلى ما فاتَ مِنْ زَمَــــنٍ
    أطْلالُ قَلْعَتِهِ تَهْوِي فَتَنْــــــــــدَرِسُ

    هَذِي نسَائِمُهُ حَمَّلْتُهَا كُتُبِـــــــــــــي
    وكُلُّ حَرْفٍ بِها فِيهِنَّ مُنْطَمِـــــــسُ

    لَكِنَّمَا الجَرَسُ المَخْبُوءُ فِي جِهَــــــةٍ
    مِنْ مَوْطِنِ الرُّوحِ يُغْرينِي بهِ الأنَسُ

    يَهُزُّنِي كُلَّما أغْفَيْتُ عَنْ هَدَفِــــــــي
    وَالكَوْنُ فَوْقَ مَرَايَا النَّفسِ يَنْعَكِـــسُ

    وَلَسْتُ آنَفُ إنْ أسْرَجْتُ قافِيَتِــــــي
    إلى المُنَى، حَوْلَهَا مِنْ أدْمُعِي حَرَسُ

    مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِــــــرَةٍ
    أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ

    إذا يَضُخُّ المَدى فَوقِي غَمَائِمَـــــــهُ
    مَاءُ التَّفَكُّرِ مِنْ عَيْنَيَّ يَنْبَجِـــــــــسُ

    أُجَالِسُ النَّهْرَ مَفْتونًا بِجِدَّتِــــــــــــهِ
    لا يَسْتَحِلُّ خُدُودَ الضِّفَّةِ الدَّنَـــــــسُ

    أُلْقِي بهِ زَوْرَقِي المَشْبُوبَ عَاطِفَـــةً
    لعَلَّهُ عَنْ لِقائِي لَيْسَ يَرْتَكِــــــــــسُ

    لعَلَّ أشْرِعةَ الآتِي تَجُوبُ بـــــــــهِ
    أعْمَاقََ رُوحِي فَيَبْلوهَا وَيَنْغَمِـــــسُ

    تَمُرُّ بِي كَلِماتُ النَّهْرِ صَامِتَــــــــةً
    صَوْتُ التأمُّلِ مَحْفُوفٌ بِهِ الخَرَسُ


    هذه هي القصيدة الثانية التي أحاول سبر أغوارها وتقديم قراءة معمقة لها للشاعر الظاهرة عبد اللطيف غسري، وهي لا شك قصيدة جميلة جدا ذات موسيقى عذبه وفيها صور شعرية جميلة للغاية، كما أنها محبوكة بصورة فذة، سخر فيها الشاعر كل عناصر القوة التي تجعل من النص الشعري، فذ، وعبقري، وجميل، وبليغ، ولا شك أن لها وقع مؤثر للغاية على نفس المتلقي رغم طابعها الفلسفي العميق والمعقد من حيث المعنى.

    القصيدة تبدو ومن مطلعها أنها مناجاة يناجي فيها الشاعر نفسه فهو يسمع في داخله صوت جرس يدق لكنه جرس خفي، ومن هنا جاء عنوان القصيدة "الجرس الخفي" ولا شك أن هذا العنوان جاء موفقا، وهو حتما مدو ويعبر بقوة عما يجول في خاطر الشاعر، وفي نفس الوقت له وقع شديد على أذن المتلقي... ويوقظ في نفسه الإحساس بالجمال والروعة من اللحظة الأولى.

    ومهارة الشاعر تظهر حتى من مطلع القصيدة فهو لا يضيع وقت بل يخطف أنظار وانتباه المتلقي فورا من خلال حشد المحسنات المؤثره في ذهن المتلقي، فنجد في العنوان استثمار للتضاد في المعاني (جرس – خفي) وطبعا فيه استفزاز لحاسة السمع، وهي الحاسة الأهم لدى المتلقي، وفيه أثارة تجعل المتلقي يندفع للقراءة لمعرفة قصة ذلك الجرس الخفي.
    وبعد أن يشد الشاعر انتباهنا بقوة بقرعه لذلك الجسر الخفي يدعونا إلى رحلة نعبر خلالها إلى ثنايا نفسه حيث يكمن ذلك الجرس:

    بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَـــــرَسُ
    مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِــــــسُ

    ففي هذا البيت، والذي هو مطلع القصيدة، يخبرنا الشاعر بأن في داخله جرس، ويصف لنا الشاعر حال هذا الجرس فهو يدق باستمرار ولا يكاد يستكين أو يسكن.
    وكأن الشاعر يتحدث عن الساعة البيولوجية في داخل كل منا والتي يجيد البعض الاستماع لدقاتها، وهي كما يخبرنا الشاعر عنده لا تتوقف عن الرنين، لكن لا بد لنا أن نتابع القراءة لنعرف أسباب استمرار تلك الساعة( الجرس) في الرنين عند الشاعر.

    وقد أبدع الشاعر إذ ضمن في ثنايا هذا البيت التضاد في معنى الكلمات (الجرس والسكون) وهي من المحسنات بالغة التأثير في جلب انتباه المتلقي، كما أننا نكاد نسمع الجرس وهو يدق إذ يستثير الجرس فينا حاسة السمع، وندهش حينما نعلم بأن ذلك الجرس داخلي يدق في ثنايا الأنا وفي ناحية من نواحي كيانه.

    يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَــــــــهُ
    زَخَّاتِ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهَا الهَـــــوَسُ

    في هذا البيت يخبرنا الشاعر بأن ذلك الجرس الكائن في زاوية من زوايا الذات الشاعرة... يدق حين يصب الغيم أحرفه... ولا بد أن الشاعر يشبه هنا ذاته الشاعرة بالغيم الذي يصب أحرفه كزخات حشرجة...والأحرف لا بد أنها كناية عن الأشعار أو الأفكار أو الأحاسيس والمشاعر التي تهطل في ذات الشاعر على شكل زخات وكأنها زخات المطر، أي غزيرة ولها صوت الحشرجة وربما في استخدام كلمة حشرجة ما يشير إلى الألم والمعاناة.

    كما يخبرنا الشاعر بأن مصدر كل تلك الزخات هو الهوس، وهي حالة نفسية تصيب الذات الشاعرة فينتج عنها زخات من الأفكار أو الأشعار أو الأحاسيس والمشاعر تنهمر كما المطر في ثنايا الذات الشاعرة...ومثل هذه الحالة النفسية التي تشير إلى افتنان أو هوس الشاعر بأمر ما وربما هي ذاته الحساسة الشاعرة والتي دائما تغمرها الأحاسيس الملتهبة! وهي حتما ما يتسبب في أن يدق ذلك الجرس المخبوء في ناحية من نواحي الذات الشاعرة.

    وهذا البيت يستنفر حواس المتلقي ويوقظها بسبب استخدام كلمات (يدق، وزخات، وحشرجه)، وفيه صورة شعرية جميلة للغاية...وفيه تشخيص للهوس.

    أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْتَقََـــةٌ
    حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبـــَسُ

    وفي هذا البيت يخبرنا الشاعر ومن خلال هذا التشبيه البليغ ( الصدر بوتقة ) بأن صدره والذي هو مكمن الأحاسيس والمشاعر يمثل بوتقة حمراء تشتمل في ثناياها على قبس من كل إحساس يشعر به الشاعر...ولكن الشاعر يتساءل مستغربا ومستعجبا...كيف لا يصدر عما يدور في صدره وميض!؟ رغم أن ذلك الصدر تحول إلى بوتقة تحوي في ثناياها قبس من كل إحساس لا بد ملتهب..فأصبحت بوتقة الصدر حمراء من شدة الحرارة طبعا، حرارة تلك الأحاسيس، وفي ذلك كناية عن حدة تلك الإحساس التي تنصهر في بوتقة صدر الشاعر فلا يظهر لها وميض...والانصهار لا بد يحدث بسبب حرارة اشد من الاشتعال الذي يعطي الوميض حيث أراد الشاعر أن يعبر من خلال هذه الصورة عن عمق ما يدور في خلده وتلك الأحاسيس التي تغلي وتنصهر في بوتقة الصدر.. فهي أحاسيس ملتهبة حد الانصهار الذي لا يصدر وميضا!

    وهذا البيت يستفز في المتلقي حاسة البصر من خلال استخدام ( أين الوميض) ويوقظ كل الأحاسيس في ذات المتلقي من خلال استخدام ( من كل إحساس) ويكاد يستعر المتلقي بلهيب تلك المشاعر من خلال استخدام كلمات ( حمراء وقبس، والوميض، والبوتقة).

    وفي البيت ربما معنى آخر وكأن الشاعر وقد احتشدت في صدره تلك الأحاسيس والمشاعر الملتهبة أصبح وكأنه في متاهة لا يعرف أين الصواب أو أين الاتجاه الصحيح، وكأنه يركب قارب في عرض البحر تتقاذفه الأمواج فيبحث من بعيد ويتساءل عن وميض تلك المنارة التي تظهر في الميناء من بعيد لتدله على الاتجاه.

    وفي كلتا الحالتين تشير الصورة الشعرية في هذا البيت بأن الشاعر يعبر عما يجول في خاطره من مشاعر متأججة وتيه افقده الاتجاه كنتيجة لما يملا صدره من مشاعر وأحاسيس.... ويؤكد على ذلك ما يقوله الشاعر في البيت التالي

    أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَــةٌ
    فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

    يعود الشاعر في هذا البيت للتساؤل أيضا ومن جديد( أين السبيل...؟) وفي ذلك ما يدل على تلك الحالة النفسية التي كان يمر فيها الشاعر والتي تشبه إلى حد بعيد حالة من التيه والضياع والاضطراب وفقدان الاتجاه، والتي أدت إلى كل تلك المشاعر المختلطة والتي كانت تعصف بالشاعر وكانت كأنها تنصهر في بوتقة الصدر...

    وهو يرى نفسه وكأنه يهرول في كل الاتجاهات أثناء الليل.. حتى أن ذاته تاهت أو ربما فقدت الاتجاه ووصلت إلى شِعاب بعيدة ومناطق نائية لا يستطيع حتى العسس، وهي قوات الأمن والشرطة والتي دائما تصل إلى أي مكان تريد مهما كان نائيا او خفيا اوبعيدا، لم تستطع حتى هذه القوات أن تفطن لها أو تعرف أين هي هذه الأماكن، وفي ذلك ما يشير إلى حالة الكرب والاضطراب والمشاعر المختلطة التي كانت تمر في ذات الشاعر فكادت تفقده الاتجاه.

    هنا نجد أن الشاعر أورد كلمات تدل على الحركة وهي ( مسير وهرولة ) وهي كلمات تضفي حيوية على النص وتجعله حيا بل نابضا بالحياة.

    إنَّ المَسَافاتِ فِي دَرْبِي مُجَنَّحَــــــةٌ
    يَكْبو على إِثْرِهَا البِرْذوْنُ والفـَرَسُ

    وبعد أن يتساءل الشاعر أين الوميض؟ وأين السبيل؟ ويصف لنا تلك الحالة من الضياع والتيه وفقدان الاتجاه وانصهار تلك المشاعر الملتهبة في بوتقة الصدر...
    ها هو في هذا البيت يخبرنا المزيد عن حالته النفسية فهو يرى المسافات بعيدة والسفر شاق وناءى إلى حد أن الفرس والبرذون، وهو حيوان اشد قوة وجلد من الفرس، تكبو كنتيجة لطول تلك الطريق التي يراها الشاعر مجنحة وبعيدة ومتعرجة وصعبة ووعرة وشائكة...
    وفي ذلك كناية عن تلك الحالة النفسية التي يمر بها الشاعر في تلك اللحظة من مناجاة النفس...والتي يبدو فيها الشاعر وكأنه فقد الاتجاه والهدف أو انه يشعر بأن الوصول إلى هدفه أو أهدافه أمر بعيد المنال إن لم يكن ضرب من المحال.

    وفي هذا البيت يأتي الشاعر على ذكر البرذون والفرس فيوقظ فينا موروث ثقافي غني كما يأتي على ذكر (المسافات/ ومجنحة ويكبو) وفي ذلك ما يشير إلى الحركة ويجعل البيت ينبض بالحياة أيضا. ويجعل المسافات مجنحة، إي ذات أجنحة، وفي ذلك تشخيص يجعل البيت ينبض بالحيوية.

    ولا شك أننا نلمس من خلال النص ذلك الصراع الخفي الذي يدور في نفس الشاعر ربما حول الهدف من حياته وتلك الصعوبات الجمة التي تقف عائقا أمام تحقيقه لأهدافه...والصراع هو عامل آخر يجعل النص يضج بالحياة.

    شَوْطًا قَطعْتُ وَشَوْطٌ كادَ يَقْطعُنِــي
    وَمُمْسِكٌ بِتلابِيبِ المَدَى النَّفَـــــــسُ

    في هذا البيت جمال سحري عجيب وهو فعلا يمسك بتلابيب القارئ، كما يقول الأستاذ الشاعر أبو غريبه، ويحتار المتلقي من أين يأتي هذا الجمال في هذا البيت والذي يشير الشاعر فيه لما حصل له وهو يفكر في قطع تلك المسافات الطويلة التي وصفها لنا في البيت السابق فجعلها طويلة ومتعرجة والسفر فيها متعب حتى على الفرس والبرذون التي تكبو حين تقطعها.
    فيخبرنا الشاعر هنا انه قطع شوطا من تلك المسافات الطويلة لكنه كاد يموت وينقطع نفسه أثناء قطعه لما تبقى من تلك المسافات الطويلة وفي ذلك كناية عن طول المسافة وعناء السفر وتشعب الدرب الذي سار فيه الشاعر في محاولة للوصول إلى هدفه أو أهدافه...

    وواضح أن السفر الذي يتحدث عنه الشاعر هنا هو ليس سفر حقيقي وإنما هو يتحدث عن رحلة العمر وسعيه لتحقيق أهدافه في رحلة الحياة هذه وهو يقول بأن جزأ من هذه الأحلام والأهداف قد تحقق لكن أشياء كثير كان يرمي الوصول إليها لم تتحقق وكاد سعيه لتحقيقها أن يقتله...فهو يتحدث عن رحلة نفسية وليس رحلة حقيقية، والمسافات هي الدرب الطويل الذي احتاج الشاعر أن يقطعه حتى يتمكن من تحقيق أهدافه....

    وفي هذا البيت ما يوحي بالحركة من خلال استخدام كلمات ( شوطا قطعت )، كما يشتمل البيت على تشخيص جميل فالشاعر يصور لنا المسافة وكأنها سيف قاطع، ويصور ( النَّفَـــــــسُ ) وكأن له أيدي يمسك بها...كما انه يصور المدى وكأن له تلابيب...واستخدام كلمة ( ممسك ) توقظ في المتلقي حاسة اللمس..اما استخدام كلمة (النفس ) فيوقظ في المتلقي حاسة الشم..

    وقد جعلت هذه الصور والتشخيص والحركة وإيقاظ الحواس ..جعلت هذا البيت حي جميل له وقع سحري ...لكن السر الذي يجعل هذا البيت شديد الوقع ربما يكمن في وصف حالة الصراع تلك والتي تعصف بالشاعر كما يصفها في سعيه لتحقيق أهدافه في هذه الحياة....ذلك الصراع الخفي لكنه صعب كاد يقطع الشاعر ويهزمه في بعض مراحل حياته ..

    فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي
    إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِـــــــــــسُ

    في هذا البيت يتساءل الشاعر وهو ما يزال يناجي نفسه طبعا...ما الذي جعله في مثل تلك الحالة من الضياع، والتيه وفقدان الاتجاه وعدم الوضوح في الرؤيا؟

    ولا شك أن هذا التساؤل هو احد أصوات ذلك الجرس الخفي الذي كان الشاعر يسمعه في داخله...وهو يطرح على نفسه هذا السؤال الاستنكاري طبعا ...فيسأل ما الذي جعله في مثل تلك الحالة النفسية؟ التي أصابه فنتج عنها زخات من الأفكار وكأنها المطر؟ وما الذي جعل صدره مثل بوتقة تنصهر فيها الأحاسيس؟..وما الذي جعله في مثل هذه المتاهة فصار كمثل مركب في بحر مائج هائج تتقاذفه الأمواج؟ وهو نفس الشعور الذي دفعه للتساؤل أين الوميض؟ وأين السبيل؟ الخ..

    من هنا يأتي هذا السؤال الاستنكاري في هذا البيت (فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي ) ..وكأنه رد على تلك التساؤلات ..وكأن الشاعر يقول..هل حدث كل ذلك لأنني أضعت بوصلتي في جيب الوقت؟ أي بسبب عدم انتباهي لأهمية الوقت؟ وعدم استثماره بصورة صحيحة؟ حيث جعل الشاعر الغفلة عن الاستثمار الصحيح للوقت وكأنه بمثابة إضاعة للبوصلة وهي الأداة التي ترشد البحار أو المسافر ليسلك الاتجاه الصحيح.....

    فنجد الشاعر هنا يساءل نفسه طبعا ...هل ذلك هو الذي افقدني الاتجاه الصحيح فصار له ما صار وصفه الشاعر في الابيات السابقة باقتدار حيث بين انه كان وكأنه يهرول في كل الاتجاهات، ويدور حول نفسه، ووجد الطريق طويل ومتشعب ...

    ولا بد من التذكير بأن السفر الذي يتحدث عنه الشاعر هو سفر رمزي يمثل رحلة العمر وسعيه من اجل تحقيق أهدافه وما حققه من أهداف سعى إليها وما عجز عن تحقيقه من تلك الأهداف...

    بينما يشير الشاعر في الشطر الثاني من البيت (إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِـــــــــــسُ) بأنه وحيث حدث ما حدث وحيث أصبح في مثل تلك الحالة فأنه اخذ يراجع نفسه ويدقق في الذي جرى لمعرفه ما الذي حدث تحديدا...فهو يلتمس أسباب ما حدث في مراجعة للنفس....ربما؟

    وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَـــــــــــةٍ
    وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِـــــسُ

    في هذا البيت ما يؤكد بأن الرحلة والسفر الذي تحدث عنها الشاعر هي في الواقع رحلة روحية أو هي رحلة الحياة بما فيها من سعي لتحقيق أهداف، وبما فيها من تيه حيث لا يدري الساعي إذا كان قد أصاب في مسعاه أو أن الحظ جانبه وربما المصاعب المحيطة فتعثر ولم يحقق ما يصبو إليه من أهداف...حتى دق ذلك الجرس الخفي في ثنايا الروح ينبه الشاعر ليعد النظر في مسيرة حياته ويتساءل أن كان قد حقق أهدافه التي كان يجب أن يحققها..
    فهو يخبرنا بأنه لم يغادر مكانه ولم يتحرك حتى قيد أنملة رغم حديثه عن السفر ومصاعبه بتلك الطريقة والوصف البارع.

    كما يوضح الشاعر في الشطر الثاني بأن ما وصل إليه هو في الواقع نتاج لماضٍ صعب تراكمت فيه الظروف فصنعته وشكلته ولم يكن له يد في انتكاسته...وكأنه يلقي باللوم على الظروف التي أوصلته إلى تلك الحالة من التيه وفقدان الاتجاه ومحاسبة النفس وإعادة النظر في الأهداف التي حققها...

    وفي هذا البيت استثارة لحاسة البصر باستخدام ( وما شهدت ) وفيه ما ينم عن الحركة ( وما برحت ) وفيه وصف جميل للغاية ( وما برحت مكاني قيد أنملة)...

  2. #2
    الصورة الرمزية الطنطاوي الحسيني شاعر
    في رحمة الله

    تاريخ التسجيل : Jun 2007
    المشاركات : 10,902
    المواضيع : 538
    الردود : 10902
    المعدل اليومي : 1.77

    افتراضي

    انا اذ اصفق اصفق مرتين
    لاخي الشاعر الرائع عبداللطيف غسري المبدع الملهم
    ولاخي الناقد ايوب الصابروليته معنا
    القراءة في الجرس الخفي
    حملها استاذنا غسري بقصيدة غاية في الروعة والجمال وليست رص كلمات لتؤدي معنى ماهو الجرس الخفي
    وقد اجاد فعلا فالقصيدة رائعة وشجية وادت ما كتبت له وهذه القصيدة تذكرني ببعض قصائد الفلسفية نوعا ما
    اذ هي حملت جمال الاداء وعبقرية الفكر و روعة الطرح و ديمة الشاعرية اذ لو قراتها في اي حين تنسجم معها و تظل من الشعر الرائع
    و يضا اخونا الناقد مر بتحليل القصيدة لتؤدي المعنى والتباسها بوظيفتها و ايضا جمالها في محمولها من الناحية الشاعرية و الاداء المهاري الجميل
    شكرا لكما فعلا
    سمو وارتقاء وشعر وشعور ووظيفة رائعة الشعر يشرح بعضه
    دمتما بهذا السمو

  3. #3
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    قراءة جميلة معمقة لقصيدة بديعة ذات موسيقى عذبة وصور شعربة
    محبوكة بصورة فذة ـ وفيها جمال سحري يمسك بتلابيب القارئ.
    تحليل جميل وشرح توضيحي رائع لكل معاني الأبيات
    بوركتما ـ شاعر جميل ورؤية نقدية رائعة
    فلكما كل الشكر والتقدير.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. الجَرَسُ الخَفِيُّ
    بواسطة عبد اللطيف السباعي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 14-11-2015, 11:18 PM
  2. قراءة ( قراءة جديدة في أيام العرب) للشاعر عبد اللطيف السباعي
    بواسطة عبد اللطيف السباعي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-11-2014, 07:53 PM
  3. قراءة نقدية في قصيدة "سؤال النهر" للشاعر عبداللطيف السباعي
    بواسطة عبدالإله الزّاكي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 06-11-2014, 01:40 AM
  4. قراءة معمقة لقصيدة ( تعالي وحطي على كلكلي
    بواسطة عبد اللطيف السباعي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 26-10-2014, 09:15 PM
  5. قراءة في قصيدة الجرس الخفيّّ
    بواسطة مُنتظر السوادي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 11-01-2012, 11:03 AM