لمن فاته نقد الأستاذ "سامي" لهذه القصيدة فليبحر مستمتعا :

يسعدني أن أتعرض في هذه العجالة لقصيدة الشيب والقلب للأخ الشاعر : سمير العمري
وكعادتي دائما أحاولُ الغوص في أعماق الشاعر إن وجدت لذلك سبيلا لأُسلطَ الضوء - بقدر المستطاع- على ما تحتويه قصيدته في متنها من صور وبديع ناظرًا في الصدر ومارًا بالحشو ومنتهيا بالعجز ... فقد قرأت بعض مشاركات للشاعر سمير وأحب أن أُسجل هنا إعجابي بكثير مما قرأت .... إذن لنبحر سويا( في ) الشيب والقلب وليس( مع ) الشيب والقلب ..

وأضاءتِ الشمسُ الظلامَ بمفرقي
............................ شيبـاً تلألأ في الصبــاح المشرق

وأضاءت الشَّمسُِ ...أي جرأة في استهلالٍ بدون أي مقدماتٍ بواو كانها أداة نداء ! هي تختلف عن قول الشعراء ..وقائلة .. أقول وكانها أداة نداء لأن الشاعر أراد أن يجذب انتباه قارئه كالذي ينادي على شخص ما ليقول له شيئا .. فواو استهلال القصيدة هذه تدل على أن الشاعر كان مشغولا بأمر ما قبل نظمه للقصيدة ولا مناص من الجزم بأن هذه الواو كانت وليدة لمخاض في ذهن الشاعر وهذا المخاض أتى بوليدة قوية البنية ولا أراها تحبو حيث سمى الشاعر وليدته الشيب والقلب ..
أضاءت الشمس شيبا تلالأ رغم نور الصباح .. هل كان الشاعر ينظر لوجه حبيبته ورأى به انطباعات توحي له بأنه تقدم في السن ..هل كان ينظر بمرأة من زجاج وفضة ورأى بياض شعر رأسه أم كان ينظر بمرأة قلبه ... إنني أستبعد الاحتمال الأول وأُرجِّحُ الثاني ولا أُهمل الثالث كثيرًا ..

ولكن ما الذي كان يختلج في نفس شاعرنا من هواجس وظنون في حينها ؟؟ أهو التحسر أم الندم أم الجزع ؟ وكيف تناول الشاعر هذه الهواجس بل كيف خاطبها ..فلنرَ ..
لا تجزعي يا نفسُ مِنْ هذا الذي
........................... كالفجــرِ يبزغُ بعد ليــلٍ مغـدقِ
ما هذا الذي يتكلم عنه الشاعر كنكرة بالرغم أنه عرفه بقوله ( هذا الذي ) ؟ أنه يدري بأن النفس تدري ما معنى الشيب ومغزاه .. فهل أراد الشاعر أن يزين الشيب لكي لا تأس النفس على ما فاتها؟ .أم أنه بذل جهد المحاولة ؟ . إذن فلنواصل النظر بما في الشيب ..
فالعمرُ يبـدأُ حين يكتمـلُ الفــتى
........................... خُلُقَاً وعَقْـلاً فِـي رِدَاءِ تَأَنُّـقِ
ِومرة اخرى نتساءلُ ..هل يحاول الشاعر هنا مواساة نفسه ؟ أم أَنَّه يبرر واقع الحال ؟ لا وكلا .. بل إني أراه ينظر بعقل عينه, وبعين قلبه حين خاطبنا بلسان عقله ..

وَالشَّيْبُ بُسْتَانُ الوَقَـارِ وَرِحْلَـةٌ
........................... بَيْنَ التِقَاءٍ فِي الـرُّؤَى وَتَفَـرُّقِِ
لننظر لرؤى والتقاء وتفرق ووقار وقلب .. مالذي جمع بين كل هذه المفردات وما الداعي لها ؟ ومن الذي وظفها بكل هذا التناغم والتناسق ؟ بالقطع إنه لسان العقل ..ولعلنا هنا نعود للواو التي بدأنا بها لندرك أن الشاعر كان آخذًا بكل الأدوات اللازمة لمولودته الجديدة الشيب والقلب .
ورب سائل يسأل وما هذه الأدوات ؟ أقول .. أدواته الشعرية وتوظيفه البارع لها وسنبين ذلك لاحقا بإذن الله .. فلنمضِ مع الشيب ونترك القلب إلى حين ..

فِيْهِ التَّحَسُّبُ وَالتَّوَثُّـبُ وَالنُّهَـى
........................... فيــه الشـبابُ مغلفٌ في رونـــقِ
يواصل الشاعر في الدفاع عن محاسن الشيب فالذي يراه الأخرون عيبا رآه هو مزية وجميل منه أن يستدرك بقوله فيه الشباب مغلف في رونق ذلك لأنَّ الشاعر يعلم بان الشيب قد فرض نفسه على واقعه ولكنه أتى بكلمة الشباب هنا بالرغم من غياب كل الصفات المادية التي تثبت وجوده كما أثبت الشيب حضوره حين أطل من مفرق شاعرنا ولكنا نصدق الشاعر هنا بادعائه فليس كل مبيض الرأس بكهل ولا كل مسوده بشاب . . وحين ننزل للبيت الذي يليه نقول بأن الشاعر هنا قد جاء للنصف الثاني من اسم مولودته ألا وهو القلب ..إذن لنغوص في قلب الشاعر ونترك شيب الرأس كما أراد لنا حيث نراه يقول في الأبيات التالية :
يا ربَّــــةَ الحسـنِ البهـيِّ ترفَّقـي
........................... لا تعذلي هــذا الفـؤاد وأشــفقي
لاتظلمي بالشـيبِ قلـبَ معـــذَّبٍ
........................... يُخفيـه في حصن الوقار المخفقِ
مازال هذا القلبُ ينبضُ بالهــــوى
......................... إنْ طالمــا تجري الدمــاءُ وتلتقيِ

ترفقي , لا تعذلي , إشفقي , لا تظلمي , معذب .. كلمات مؤلمة على القلب والنفس كما هي مؤلمة لقارئها وملقيها.. هنا يبين الشاعر توظيف أدواته جليا حيث يخاطبنا مرة أخرى بلسان قلبه وأخاله كمحام يرافع عن قضية اختفت منها كل الوسائل المادية الثبوتية بل كل القرائن تصرخ ضده لذلك نراه بفطنة وذكاء يفاجئ القاضي بحجة دامغة قائلا :

لـولا التعفُّفُ والترفُّـــــعُ والهـــدى
..........................لرأيتِ منه هـــوى الشـباب المغـرقِ
لكنَّـما الدنيـــــا بضاعـــةُ خاســـرٍ
.......................... ما لـــم يُهــذِّبُهـــا الحليـمُ المتـّــقي
لولا التعفف ؟؟ .. مع أن هذه الكلمة مطروقة في أكثر من مناسبة لغير شاعر من قبل بيد أني لا ارَ أي تثريب على محامي ألقى بحجة لا تردُّ ليبرر ساحة موكله ..فما بالكم إن كان موكله هو قلبه..
ويواصل الشاعر سرد حيثيات دفاعه بما يزيل كل شبهةٍ عن قلب قاضيه ولم لا نقل عن قلب حبيبته هذه المرة .. فيقول:
نبكي على سـاعات لهـوٍ ضائـــعٍ
......................... وَالعُمرُ يُبْحِرُ فِي السَّرَابِ بِزَوْرََقِ

نبكي على لهو ضائع وعمر يبحر في سراب .. توليف جميل ونسج بديع بها حكمة املاها لسان العقل ..ونظل للسان العقل مصغين ونجول بأعيننا بين مفردات الشاعر لنراه يقول :
هي ساعتانِ فســــاعةٌ تمشي بنا
........................ نحـو الغـــروبِ وســـاعةٌ للمشـــرقِ

لقد استوقفني هذا البيت كثيرًا وقرأته واضعا الشروق قبل الغروب وأرجعت الكرة بنظري وقرأته بذهني من زاوية أخرى واضعا الغروب قبل الشروق فوجدتني أكبر شاعرنا واترنم قائلا ..أنه عين لإبداع .. إبداع المبرز لميزات صنعته والمجمل لعيوبها حتى ليكاد أن يخفيها .. الإبداع يكمن هنا إن تأملنا سواد الشعر وتحوله للبياض أليس هو تحول الغروب للمشرق .... فكيف جئتم أيها الشاعر الفطن الذكي بهذه الصورة بل بهذه الحجة الدامغة لتستحقوا وبجدارة وسام الإبداع .. أحييكم من كل قلبي .. ونكمل سويا حيث نرى الشاعر يقول :

تطوي بنـــا الأيَّـامُ رحلـــةَ عابــــرٍ
......................... يســــعى حثيثـاً للمنـونِ المحــدقِ
بالأمـسِ كانت للطفـولةِ ســـاحةٌ
......................... واليــوم يُســرعُ بالشـبابِ ويشتقي
وغـداً لنـــا عنـد الكهولةِ موعـــــدٌ
........................ هي خاتـمُ الدربِ القصــيرالمطبــــقِ

تطوي بنا الأيام رحلة عابر ويختم الرحلة بدرب قصير مطبق ويعرج بينهما على الطفولة ومراتع لهوها .. تسلسل واتساق جميل حيث نرى أن الشاعر قد خرج بنا من الشيب وأمسك بشعرة خفيفة من قلبه لا من شيب رأسه وأخذنا لبحر آخر أراه قد أجاد الإبحار فوق لججه والغوص في أعماقه .... أخذنا إلى بحر الحكمة ليرينا كيف يرمي بمرساته حين تتقلقل المراكب الماخرة فيه فيقول :

ياراكبـاً بحــــرَ الظنـــونِ مســافراً
........................ بســــفينةِ الخِضــر ِالتي لم تغــرقِ

لنقف هنا للحظة متأملين ما أراد الشاعر قوله عن بحر الظنون ولم ربط بين سفينة الخضر وبين من امتطى بحر الظنون ؟؟؟؟ إذن لنبحر مع قبطاننا ولنا أسوة بقصة نبينا موسى عليه السلام فكم كنا نتمنى عليه لو صبر أما نحن فسنحاول ما استطعنا لذلك سبيلا من أن نصبر وألا نستعجل الكشف عن الجواب ولنا مندوحة في ذلك .. فدعونا نستقرئ ..
اللـــــه أنقـذها وألهــمَ أهلهــــــا
....................... أنْ لا يخافـــوا من منــــونٍ محـــدقِ

هنا نرى سردًا إخباريا عن قصة معروفة في القرأن الكريم ولم يأتنا الشاعر بشئ جديد حيث أن السفينة أنقذت بمشئة الله بالرغم من العيب الذي كان لا محالة سيتسبب في إغراقها .... أنكتفي بهذا القول ؟ ألا يرجعنا هذا الربط لمولودته التي ولدت تمشي كما أسلفنا ولم تحبو .. ألا يعزز ذلك دفاعه عن الكهولة ويعضد قوله حينما قال بأن الشباب ليس بسواد الرأس ولا المشيب ببياضه وبأنه ربما قلب كهلٍ به من المحبة أكثر بكثير مما يوجد بقلب شاب .. ولم لا نضيف الاحتمال الثالث ألا وهو المثل الشعبي القائل وكم من حمل سبق أمه للمذبح ... أي أن الموت ليس بعيد عن ربيع الشباب ولا هو باقرب إلى خريف الكهولة .. ونستمر في الاستقراء لقوله ::
وكليمُ ربـِّـــكَ خـائفٌ متســــــائلٌ
....................... أيمـــوتُ مَنْ فيهــا بفعــلٍ أخــــرقِ
ويخـاف رغـم المعجـزات بعلمــــهِ
....................... والخِضــرُ أهـــدأُ منْ مُناجاة التَّــقي
ويقــولُ لا تفـزعْ فعلمُــــكَ ناقـص
....................... حتى ترى أين الســعيدَ من الشـــــقي
اللـــهُ أنقـــذها وأغـرقَ غيرهـــــا
........................ كي تستبين بهــا العقــولُ وترتــقي

يخلص بنا الشاعر هنا ليقول بان النتائج لا تتبع بالضرورة مسبباتها وذلك بقوله الله أنقذها وأغرق غيرها .. ويسوق أبياته الثلاث ويضمنها صورًا لما جرى بين الخضر وموسى عليهما السلام ليخلص إلى مبتغاه من ركوبه لبحر الحكمة ونراه هنا قد تركنا فوق البحر وغاص وحده ليخرج لنا لآلئا من صدفات حكمته مظهرًا قدرته بل براعته في توظيف المفردات حين ختم أبياته بقوله .. كي تستبين بها العقول وترتقي .. الله الله الله ما أجمل ثمرات غرسك وما أبهى لألئ غوصك .. ونبحر مع شاعرنا ونتأمل الأبيات السبعة الأخيرة بسرعة لنرَ..

فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ هَلْ تُرَاكَ مُغَيِّـراً
........................ نَامُوْسَ رَبِّكَ فِي الأَنَامِ بِمَنْطِـقِ
لا وَالذِي سَمَكَ السَمَوَاتِ العُلَـى
........................ وَقَضَى بِهِنَّ الرِّزْقَ والعُمُرَ البَقِي
كُـلٌّ لَـهُ فَضْـلٌ وَكُـلٌّ سَابـقٌ
........................ وَلَرُبَّمَا بَعْضُ الفَضَائِلِ لَـمْ تَـقِ
وَلَرُبَّمَـا تَأْسَـى بِيَـوْمٍ مُظْلِـمٍ
........................ وَلَرُبَّمَـا تَرْجُـوْ بِلَيْـلٍ مُشْـرِقِ
وَلَرُبَّمَا السُّفَهَاءُ تَغْرَقُ في الذُرَى
........................ وَلَرُبَّمَا أَهْلُ العُـلا لَـمْ تَلْحَـقِ
وَذَوِي جُهُوْدٍ رِزْقُهُمْ فِـي جَدْبِـهِ
........................ وَذَوِي خُمُوْلٍ رِزْقُهُمْ غَيْثٌ نَقِـي
هَذَا هُوَ المَكْتُوْبُ مِنْ رَبِّ الوَرَى
........................ لا فَضْلَ فِيْهِ لِمُوْسِـرٍ أَوْ مُمْلِـقِ
فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ كَرَّتَيْنِ وَقُـلْ لَهَـا
........................ يَا نَفْسُ إِنِّي قَدْ ظَلَمْتُكِ فَاعْتِقِـي

وهنا لا بد لنا من وقفة مع البيت الأخير فالفضائل بالطبع تنال بمنطق ولا شيئ غير المنطق لنيلها فإن اعتبرنا المنطق بمثابة السبب فربما كان سبب الفضيلة وازع ديني أو مكانة أجتماعية أو رهط أو شرف نسب أومال ..لكن شاعرنا هنا لا ينفي هذا بل مهد لنتيجته بأن وضح لنا في متن أبياته الستة السابقة كيف أن الموازين أحيانا لا تستقيم السنتها مع منطق أثقالها ويعجبني كثيرًا قوله لا فضل فيه لغير ثوب المتقي وأخيرًا نتثني على شاعرنا الشاب الحكيم ونقول له شكرًا لكم على هذه الرحلة الممتعة فقد كنت بحق قبطانا ماهرًا وغواصًا ماهرًا وشاعرًا مبدعًا