وَأَعْـصُــرُ الـوَجْــدَ آهَــــاتٍ مُـعَـتَّـقَـةً***وَأَمْــ أُ الـكَـأْسَ مِـمَّـا أَوْدَعَــتْ فِـيْـنَـا
يَا رَاحَةَ النَّفْسِ إِنْ ضَاقَـتْ بِنَـا سُبُـلٌ***وَمُتْـعَـةَ القَـلْـبِ فِــي أَقْـصَـى تَدَانِيْـنَـا
لَـقَـدْ تَـصَـرَّمَ حُـلْــوُ الـعَـيْـشِ بَـعْـدُكُـمُ***وَكَـانَ مِنْـكُـمْ كَـفَـافُ العَـيْـشِ يَكْفِيْـنَـا
وَكُنْـتُ فِـي اللُـجَّـةِ الـزَّرْقَـاءَ مَرْكَـبَـةً***تَــأْوِي إِلَـيْـكِ وَقَــدْ شَـطَّـتْ مَرَافِيْـنَـا
نعود لذكرياتها لنقتات فُتاتها علها تُصبرنا و تُعيننا , فها هو يعصر الذكريات عصراً ليُخرج كل ما فيها من وجدٍ و عاطفة, كانت هدوء نفسه راحتها و سكنها , كانت ملاذ روحه عندما تشتد خطوبُ الحياةِ من حوله و كأنها كانت زورق النجاةِ الذي يحميه و مرفأ روحه و شاطئها ,هي مُتعة قلبه , لكن الحال تغير فبعد طيب العيش و السرور بالقُرب و عطاء الحبيب و إن قل حلَ زمانُ الجدب و القحط , لم يعد يجدُ ذلك الشاطئ و لا ذلك الملاذ .
يا سارِيَ البَرْقِ غادِ القصرَ وَاسقِ به***مَن كانَ صِرْف الهَوى وَالوُدَّ يَسقينَا
وَاسـألْ هُنالِكَ: هَلْ عَنّى تَذكُّرُنا***إلفاً، تذكُّرُهُ أمسَى يعنّينَا؟
وَيَا نسيمَ الصَّـبَا بلّغْ تحيّتَنا***مَنْ لَوْ على البُعْدِ حَيّا كان يحيِينا
فهلْ أرى الدّهرَ يقضينا مساعفَة***مِنْهُ، وإنْ لم يكُنْ غبّاً تقاضِينَا
يطلبُ من البرق أن يذهبَ إليها , استعان بالبرقِ لقلةِ صبره فالبرقُ سيذهبُ إليها بسرعةٍ تُناسبُ شوقه و شدة اشتياقه لها , سأله أن يعرف فيما إذا كانت تذكره , و حمل النسيم الرقيق العذب تحتاً و سلاماً مُتأملاً أن يعودَ النسيمُ مُحملاً منها بالسلام ,يقول ابن الزقاق البلنسي
أما غير الخيال لنا لقاء *** أما غير النسيم لنا رسول
هذا السلامُ بالرغم من البُعد كفيلٌ بأن يروي ظمأ روحه و يُعيد له حياته , في البُعدِ هو أشبهُ بالميت يتأملُ أن يأتيهِ منها ما يُحيه و لو كان قليلاً , يتساءل فيما إذا أسعفه الدهرُ بالوصال فيُعيدُ لهما شيئاً من ألقِ ما مضى من أيام .
يَا نَفْسُ لا تَعْذِلِي المَلْهُوْفَ مِنْ شَرَقٍ***فَالشَّـرْقُ مَطْلَعُـهَـا وَالـغَـرْبُ يُغْوِيْـنَـا
أَلا وَقَـدْ غَـابَ عَـنْ عَيْنَيْـكِ مَبْسَمُـهَـا***فَلَيْـسَ إِلا الدُّجَـى فِــي عَـيْـنِ نَاعِيْـنَـا
وَلَـيْـسَ إِلا الــذِي قَــدْ أَنْـهَـكَـتْ يَـــدُهُ***قَلْـبًـا يَـــذُوْبُ أَسَـــىً لَـــوْلا تَأَسِـيْـنَـا
تعذله نفسه و تلومه لشدة حزنه و أساه عليها فكيف يتأسى و هو يُعاني غُصةَ و مرارة الفقد , "مهلا أفي وجد بسلمى تعذلاني؟" اللوم لا يثنيه و لايُغير حاله , يقول ابن زريق :
لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ***قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
روحه مُمزقة , يحنُ للشرق إلى أصالته لكن الغرب ببريقه يجذبه , يصور الصراعُ الذي يدور بداخله فيزدادُ حجم ألمه , لم يَعد بإمكانه رؤية وجهها , رؤيتها تُعيد له الحياة و غيابها عنه يُمثل موته, لغيابها ذاب قلبهُ حُزناً لكنه يؤمله باللقاء فيحيى على ذلك الأمل .
رَبيبُ مُلكٍ، كَأنّ اللَّهَ أنْشَأ***مِسكاً، وَقَدّرَ إنشاءَ الوَرَى طِينَا
أوْ صَاغَهُ وَرِقاً مَحْضاً، وَتَوجه***مِنْ نَاصِعِ التّبرِ إبْداعاً وتَحسِينَا
إذَا تَأوّدَ آدَتْهُ، رَفاهِيّة ***تُومُ العُقُودِ، وَأدمتَهُ البُرَى لِينَا
كانتْ لَهُ الشّمسُ ظئراً في أكِلّته***بَلْ ما تَجَلّى لها إلاّ أحايِينَا
كأنّما أثبتَتْ، في صَحنِ وجنتِهِ***زُهْرُ الكَوَاكِبِ تَعوِيذاً وَتَزَيِينَ
ما ضَرّ أنْ لمْ نَكُنْ أكفاءه شرَفاً***وَفي المَوَدّة ِ كافٍ مِنْ تَكَافِينَا؟
يتغنى ابن زيدون بجمال محبوبته و يصف علو مكانتها و رفعتها فهي ليست كباقي البشر , البشر خُلقوا من طين أما هي فإنها قد خُلقت من مسكٍ و توجت بالتبر , يصفُ جمالها و رقتها و لينها إذا انثنت , و كأن الشمس قد أرضعتها و لكنها لعلو مكانتها لم تظهرحتى للشمس إلى نادراً , خداها منبتُ زهورٍ رائعة , يرى أنه أقل منها مكانةً لكن ذلك لا يمنعهما من أن يكونا سوياً فالمحبةُ تكفى ليتساوى قدرُهما .
يَا لَوْعَةَ البَيْـنِ هَـلا غِبْـتِ عَـنْ أُفُقِـي***غِـلْـتِ الـفُــؤَادَ وَقَـطَّـعْـتِ الشَّرَايِـيْـنَـا
جَفَّتْ سَوَاقِي عُيُوْنِ الوَجْـدِ وَاحْتَقَنَـتْ***عَـيْـنُ الغَـمَـامِ وَمَــا جَـفَّـتْ سَوَاقِـيْـنَـا
وَهَـزَّتِ الخَافِـقَ الأَشْـوَاقُ فَارْتَجَفَـتْ***مِـنْــهُ الـضُّـلُـوْعُ وَجَافَـتْـنَـا بَـوَاقِـيْـنَـا
يُخاطب اللوعةَ و كأنها إنسان يسمعُ ويعي يطلبُ منها أن تغيب عن أُفقه علَ شمس عودتها تُشرقُ في عالمه من جديد , ألم الفراق و لوعته أنهكت قلبه و جسده , جفت الغيوم و ما زالت عيناهُ تبكيانها رغم الجفاف , تهتزُ جوانحه لذكراها و كأنه عصفورٌ مذبوح تنتفض أطرافه عند ذبحه , صورةٌ تعرض شدة ألمه و قساوة ما يُعانيه .
يا روضة طالما أجنت لواحظنا***وردا، جلاه الصبا غضا، ونسرينا
ويا حياة تملينا، بزهرتها،***منى ضروبا، ولذات أفانينا
ويا نعيما خطرنا، من غضارته،***في وشي نعمى، سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالا وتكرمة،***وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة***فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا
يُنادي ابن زيدون محبوبته بالروضة و الحياة ليصورَ مدى أهميتها في حياته و ما يعنيه وجودها في حياته من نعيمٍ و سعادة, فهي الروضة التي أظلته و منحته أجمل الأزهار و أرقها , هي تنفردُ عن غيرها في تلك الصفات لا يُدانيها أحدٌ قَدراً و منزلةُ .
كُنَّـا وَكَـانَـتْ لَـنَـا الأَسْـبَـابُ سَانِـحَـةً***وَاليَـوْمَ نَرْجُـوْ اللِقَـا وَالوَصْـلُ قَالِيْنَـا
كَــأَنَّ بَـاسِـمَ أَيَّـامِــي وَقَـــدْ عَـبَـسَـتْ***وَجْـهُ المَنُـوْنِ بِثَـغْـرِ الـيَـأْسِ يُشْقِيْـنَـا
مَنْ عَاَش فِي أَمَلٍ عَاشَـتْ مُشَعْشِعَـةً***فِـيْـهِ الحَـيَـاةُ وَأَوْفَــى العَـهْـدَ وَالدِّيْـنَـا
يعود للتحسُرِ على ما مضى من ودٍ و قُربٍ و ما آل له الحال من بُعدٍ و أملٍ ضئيلٍ في اللقاء و الاجتماع من جديد , كانت حياته سعيدةً هانئةً لكنها عبست و قطبت الجبين , مَن يحيى على أملِ اللقاء بعثَ فيه الأملُ طاقةً تُعينه على مواجهة الحياة ,طاقةً تُمكنه من الوفاء بما قطع من عهودٍ .
يا جنة الخلد أبدلنا، بسدرتها ***والكوثر العذب، زقوما وغسلينا
كأننا لم نبت، والوصل ثالثنا،***والسعد قد غض من أجفان واشينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم ***في موقف الحشر نلقاكم وتلقونا
حسرةُ الفقد حولت الكوثر و العنب إلى الزقوم و الغسلين , هذه الأطعمة و الأشربة تدل على الجنة و النار فالكوثر و العنب من طعام الجنة بينما الزقوم و الغسلين طعام أهل النار لكنه لم يستخدم كلمة الجنة و كلمة النار صريحتان و إنما أورد ما يدلُ عليهما , لو ذكرهما مُباشرة لكانت الصورة أضعفُ مما هي عليه لأنه انتقلَ من الجنةِ إلى النار دون ذكرِ تفاصيلٍ توضحُ المعاناة و تزيدُ من قسوة الانتقال , بعدَ انتقاله و شدة ما قاساه بدى و كأنهُ لم ينعم بقربها و لم يعش يوماً هانئاً , يعودُ ليواسي نفسه و يُصبرها راجياً لقائها في الآخرةِ إن لم يلقها في الدُنيا , هذا حالُ العشق لا ييئس من اللقاء حتى و إن استحال فإن لم يكن في الدنيا كان في الآخرة فيكون لقاءا راقياً حيثُ تلتقي الأرواح عند بارئها .
وَمَنْ تَمَطَّى عَلَى خَرْجِ القُنُوْطِ قَضَى***وَأَصْـبَـحَ التِّـبْـرُ فِــي أَحْـزَانِـهِ طِيْـنَـا
سَـقَـى المُهَيْـمِـنُ أَيَّـامًـا بِـكُـمْ أَنُـسَــتْ***وَلَـيْـسَ تَـعْـرِفُ أُنْـسًـا فِــي تَجَافِيْـنَـا
لَئِنْ قَضَـى الدَّهْـرُ قَسْـرًا فِـي تَشَتُّتِنَـا***فَنُـوْرِك المُقْتَـدَى فِـي القَـلْـبِ يَهْدِيْـنَـا
من طال يأسهُ و قنوطه تحول الذهب عنده إلى طينٍ لا يُساوي شيئاً فيفقدُ قيمة الحياة و بهجتها , المُتأملُ يعيشُ على أملِ اللقاء على أمل أن يسمعَ خبراً يُعيد الحياة لروحه و قلبه من جديد , رغم انقضاء أيام اجتماعهما و مُضيها إلا أنها ما زالت حيةً في قلبه و ذاكرته و عاطفته , حتى و إن كان القدرُ قد حكم بالفراق و البُعد فإن النور الذي غرستهُ في قلبه سيبقى مضيئاً و هادياً يقتدي به لكي لا يضلَ عن طريقه .
سران في الخاطر الظلماء يكتمنا،***حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت***عنه النهى، وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى، يوم النوى، سورا***مكتوبة، وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك، فلم نعدل بمنهله***شربا وإن كان يروينا فيظمينا
يكتم حبه و شوقه لها بداخله و كأن جوفه الظالم و لسانه الذي يكادُ يُفشي السر نور الصباح التي تجلو الظلام و تمحوه , قد نُهي عن الحُزن و أُمر بالصبرِ و التأسي لكن فراقها كان أقوى من الصبر فهو سورٌ مكتوبةٌ يدوم أثرها و يبقى بينما كان الصبرُ مما تعلمهُ تلقيناً من غيره فيكف يكون الصبرُ أقوى من الحزن الذي يوجدُ له أثرٌ مادي "مكتوب " قد ظهر على جوارحه و جسده لما أصابه من وهنٍ و تعب و سقم , كان هواها منهلاً يشربُ منه ماء الحياة لكنه لم يروي عطشه , يقول الحلاج " يا نسيم الريح قولي للرشا لم يزدني الوردُ إلا عطشا" .
وَاللهِ مَـا انْصَرَفَـتْ عَنْكُـمْ ضَمَائِرُنَـا***يَـوْمًـا وَلا رَغِـبَــتْ عَـنْـكُـمْ أَمَانِـيْـنَـا
مَـا كُـلُّ مَـنْ فَـارَقَ الأَحْبَـابَ مُفْتَـرِقٌ***بَعْـضُ الفِـرَاقِ يَزِيْـدُ الـحُـبَّ تَمْكِيْـنَا
يؤكد الشاعر وفائه و بقائه على العهد فعاطفته لم تتغير ما زال مُحباً مُخلصاً لها بالرغم من البُعد , قد يكون البُعدُ سبباً في زيادة قوة الحب و تمكنيه في القلوب , فغيابها عن عينه لا يعني غيابها عن قلبه و فكره .
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه ***سالين عنه، ولم نهجره قالينا
ولا اختيارا تجنبناه عن كثب،***لكن عدتنا على كره، عوادينا
نأسى عليك إذا حثت، مشعشعة***فينا الشمول، وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا***سيما ارتياح، ولا الأوتار تلهينا
ينفي ابن زيدون أن يكون قد نسيَ محبوبته أو هجرها مُتجنباً رؤيتها لكن الحياة أكرهتهُ و أجبرته على ذلك , فقد وصفها بأُفق الجمال إي أن عالمه و حياته من دونها لا جمال فيها و كيف له أن يختار غيابها بإرادته , لم يشغله عنها شاغل و لم تُلهيه عنها مُتعُ الحياة و زينتها فكلُ شئٍ يُذكرهُ بها .
لَيْتَ التِي أُوْدِعَـتْ رُوْحِـي تَـرِقُّ لَهَـا***وَلَيْتَـهَـا مِــنْ لَـذِيْـذِ الـوَصْـلِ تُحْيِـيْـنَـا
وَلَيْـتَ أَنَّــا وَمَــا أَبْـقَـى الـزَّمَـانُ بِـنَـا***نَـعُـوْدُ نَـمْـرَحُ صَـفْـوًا فِــي رَوَابِيْـنَـا
هُنَـاكَ حَيْـثُ رُبُــوْعِ الأَهْــلِ عَابِـقَـةٌ***بِكُـلِّ صِـرْفٍ مِــنَ التَّحْـنَـانِ يُنْشِيْـنَـا
استجداءٌ للمحبوبة علها ترق له و ترأف بحاله فتُعيدُ له روحه و تُحيه فتسقيه من ماء اللقاء بعد أن جفت حياته , عل زمان الوصل يعودُ فيمرحان و تصفو الحياة , فيكون اللقاء في الوطن حيثُ الحنان و الدفئ و تنتشي روحه و تُحلق في سماء السعادة, لا يكون الدفئُ و الحنان و العاطفةُ الصادقة إلا في موطنه و بين أهله .
دومي على العهد، ما دمنا، محافظة***فالحر من دان إنصافا كما دينا
فما استعضنا خليلا منك يحبسنا***ولا استفدنا حبيبا عنك يثنينا
ولو صبا نحونا، من علو مطلعه،***بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
يطلبُ منها ابن زيدون أن تبقى على عهدها و أن لا تترضي غيرهُ حبيباً تهواه , فتكون بذلك قد عاملته بالمثل له لأنه لم يرتضِ غيرها حبيبةً و لم ينشغل عنها بغيرها مهما علة مكانة غيرها و بلغت قدراً عالياً من السمو فإنه لن يرضى بغيرها .
نُعَاقِـرُ الـرُّوْحَ حِيْنَـاً مِـنْ غَضَارَتِهَـا***مِــنَ القُـلُـوْبِ وَنَسْـقِـي وُدَّهَــا حِـيْـنَـا
لَــوْلا تَـعَـلُّـلِ مُـشْـتَـاقٍ لَـمَــا خَـفَـقَـتْ***فِي القَلْبِ مِـنْ خَفْقَـةٍ بِالشَّـوْقِ تُرْدِيْنَـا
تُداوم روحه أن تشرب و تقتات من غضارة العيش و طيبه فيما مضى مع محبوبته في زمان الوصل , فلولا تصبره و تأسيه و أمله باللقاء لتوقف خفقان قلبه, شوقه لها يكادُ يقتله لشدة خفقان قلبه كلما تذكرها و اشتاق لها .
أبكي وفاء، وإن لم تبذلي صلة،***فالطيف يقنعنا، والذكر يكفينا
وفي الجواب متاع، إن شفعت به***بيض الأيادي، التي مازلت تولينا
عليك منا سلام الله ما بقيت***صبابة بك نخفيها، فتخفينا
يختتم ابن زيدون قصيدتها بعرض صورته باكياً علها ترأفُ لحاله , فهو قد رضيَ منها بالقليل , طيفها يُقنعهُ و ذكرها له يكفيه ,فإن تكرمت و بعثت له جواباً كان ذلك سبب إمتاع روحه و سعادته , و يُنهي خطابه لها بأن اقرأها السلام من الله ما بقيَ حُبها مُستقراً في قلبه و ما بقيت صبابتهُ محفوظةً في قلبه يُخفيها عن الناس لكنها قد تكون سبب هلاكه و سقمه . الخاتمةُ قدمت صورةً غايةً في الرقة لعاشقٍ شقيَ و تعذب .
إِنِّــي أَمُــوْتُ بِـهَـذَا البَـيْـنِ فَاجْتَـهِـدِي***أَنْ لا أَمُــوْتَ بَعِـيْـدًا عَــنْ أَرَاضِيْـنَـا
لا زِلْتِ أَنْتِ شَذَى الأَنْفَاسِ فِـي مِقَـةٍ***وَلا يَــزَالُ لَــكِ الإِحْـســاسُ يُدْنِـيـنَـا
حَبِيْـبَـةً بِالْحَـنِـيـنِ الـعَــذْبِ تَسْكُـنُـنِـي***وَفِــي الـشِّـغَـافِ أَنَـادِيْـهَـا فِلِسْطِـيْـنَـا
يُناجيها مُستجدياً أن تجتهد ليلقاها فالهجرُ و البعد قد أضنيا روحه , تُرعبهُ فكرة موته بعيداً عن وطنه , ابن زيدون قد رضي بالقليل منها لكن الصورة هنا كانت أروع , بأن تمنى منها فقط أن تحوي رفاته ميتاً , قد رضيَ منها بالوصل و إن عاد لها و قد فارقتهُ روحه , فهي ما زالت الهواء العليل الذي يُحييه و ما زالَ إحساسه و شوقه لها يُقربانه منها مهما بعدت المسافةُ بينهما , هي التي تسكنُ حنايا روحه و تُقيمُ في شغاف القلب إنها فلسطين ..................... هُنا كانت الروعة بعينها عشنا في جو نصٍ غايةٍ في الرقةِ و الجمال , نصٌ يُقدم أروعَ ما يُمكن أن يكون عليه حال العاشق الذي فارق محبوبته, لكنه فاق النص الأصلي روعةً عندما باغتنا بعد كل تلك الصور العشقية بأن المحبوبة هي فلسطين .
تهدفُ المُعارضة كما تمت الإشارةُ سابقاً إلى مُحاكاة نصٍ شعري وزناً و قافيةً و موضوعاً في مُحاولةٍ للتفوق على النص الأصلي , تحقق الهدفُ في هذه المُعارضة و بلغ درجة التفوق بأن كانت النهايةُ غير مُتوقعةٍ مُباغتةً قالبةً المقاييس ليُعيدَ القارئُ تأملَ النصِ من جديد بعد أن اتضحت الرؤية و اكتملت فيقفُ مُستكشفاً التلميح الذي احتوته القصيدة , قد تحدثَ عن صراعه بين الشرق و الغرب فتكتمل الرؤيا و الفهم بعد أن يُكمل القارئُ القصيدة "فَالشَّـرْقُ مَطْلَعُـهَـا وَالـغَـرْبُ يُغْوِيْـنَـا"
و استخدامه للتين في قوله :
وَأَلْـثِـمُ الـزَّهْـرَ فِــي خَـدَّيْـكِ وَالتِّـيْـنَـا , من المعروف أن التين من أهم الأشجار التي تشتهرُ بها فلسطين , النور الذي تحدث عنه اكسبها قُدسيةً و أضاف هالةً نورانية و كأنه دليلٌ على المكانة الدينية لفلسطين و القدس تحديداً :
نُـوْرِكِ المُقْتَـدَى فِـي القَـلْـبِ يَهْدِيْـنَـا
ثم حديثُه عن ربوع الأهل و حنانهم في قوله :
هُنَـاكَ حَيْـثُ رُبُــوْعِ الأَهْــلِ عَابِـقَـةٌ***بِكُـلِّ صِـرْفٍ مِــنَ التَّحْـنَـانِ يُنْشِيْـنَـا
كان ذلك تلميحاً يدلُ على هوية المحبوبة فأتت آخر كلمة في آخر بيت لتضع النقاط على الحروف و تُعلنها صريحةً بأن المحبوبة الرائعة هي فلسطين , محبوبةٌ لا تُشببها محبوبةٌ لا قدراً و لا مكانةً و لاقيمةً و لا يوازي غيابها و البعد عنها أي جُرح , فراق المحبوبة لا يوازي فراق الوطن و ضياع الحب لا يوازي ضياع الوطن ,بداحُزنُ ابن زيدون و ألمه أمامها ضئيلاً صغيراً و كان التفوق كله هنا .
bodyبناء القصيدة
ولعل مما يزيد من روعة "لوعة البين"و يجدر الإشارة إليه هنا قوة بنائها و روعته , حيث جاءت الألفاظ و العبارات مُناسبةً لموسيقى القصيدة و للوزن الشعري , وعمل هذا التناسق على تعزيز المعنى , وقد قرن الشاعر بين الماضي و الحاضر بطريقةٍ توضح المُفارقة بين ما مضى و ما هو كائنٌ حالياً ,و بين جمال الطبيعة و روعتها و جمال محبوبته
وبالنظر إلى النص الأصلي لابن زيدون نرى بوضوح تغنيه بالطبيعة في إشارة إلى محبوبته و قد أشار الدكتور ناصر الدين الأسد إلى هذه الحيثية بقوله “إنّ إحساس ابن زيدون بالطبيعة كان جزءاً من إحساسه العام بالجمال ممزوجاً بإحساسه بالمرأة وشعوره بها, ومن ذوب هذه الأحاسيس صاغ شعره في الغزل والتشوّق والتذكر... فهو لا ينظر إلى الطبيعة بعين عقله ولا بعين خياله ليتصيد الأوصاف والتشبيهات... وإنما هو شاعر فنان يستجيب لدواعي نفسه ولأحاسيسه الداخلية ومشاعره الخاصة الذاتية... ومن هنا جاء شعوره بالطبيعة مبثوثاً في ثنايا شعره الذي يعبر فيه عن ذوب عاطفته"
و قال الدكتور إحصان عباس "وقد بلغ ولعهم بالطبيعة والاستعانة بها في أغراضهم الشعرية حداً يصعب معه على القارئ أن يدري إذا كان الشعراء يتحدثون عن الطبيعة أم كانت الطبيعة تتحدث عنهم لفرط ما تغلغلت في نفوسهم ولكثرة ما وصفوا من مناظرها"
لقد تفوق ابن زيدون برسم صورٍ رائعة للطبيعة و توظيفها كرمزٍ في نصوصه ففاق غيره من شعراء الأندلس بذلك ولم يكن وصفه للطبيعة يتعلق فقط بالشكل الخارجي و إنما وظف ذلك لكي يُشير به إلى العاطفة الداخلية ولم يقتصر وجود الطبيعة في قصيدته على كونها موقعاً فقط و إنما كانت مُتفاعلةً مع ما حدث و مُتأثرةً به
بالمقابل كانت لوعة البين تحاكى قصيدة ابن زيدون في النقاط السابقة , لكن التفوق كان عندما يكتشفُ القارئ أن الصور تلك كانت فعلاً للطبيعة و الوطن و بذلك يكون النص قد ضاعف الصور، فقد حمل القارئ في البداية على رسم صورة المحبوبة من خلال صور الطبيعة التي تم استخدامها وتم لاحقاً إعادة رسم الصورة بتحويلها من صورةِ امرأة إلى صورة وطن .
الصور البيانية كانت صادقةً مُعبرة , بحيث أن القارئ لا يشعر أن النص مُتكلف أو أن بعض المٌفردات تم إقحامها في النص خضوعا للقافية أو ليستقيم الوزن الشعري ويُناسب النص الأصلي لابن زيدون, و إنما كانت كل مُفردةٍ في مكانها المُناسب دون تصنعٌ أو افتعال للعاطفة , الألفاظ ناسبت موسيقى القصيدة و أكسبتها رقةً و عذوبة , الصور امتازت بسعة الخيال حيث تمت الإشارة إلى الود و الهناء و طيب العيش من خلال تصوير تلك الفترة بأرق الصور و أعذبها فاستخدم مثلاً "الفردوس و الروضة " ليُشير إلى تلك الفترة , شبه محبوبته بالمركب الذي يحميه من لُجة البحر و أهواله ,استخدام هذه العبارات و الصور عزز من قوة بناء القصيدة ,
أدت التراكيب البنائية في القصيدة دوراً في إيضاح البنية المعنوية للنص و حافظت القصيدة على الوحدة العنصرية .
تضمن القصيدة أساليب بديعية وظفت بذكاءٍ في النص ,مثلاً تم استخدام اسلوب الطباق في قوله "
وَأُمْـنِـيَـاتٍ بَــتُــوْلٍ مِــــنْ سُـلافَـتِـهَـا" وصف أُمنياته لطهارتها بأنها بتولٌ و قرن بين لفظِ بتول و سُلاف و هي الخمر أو من الشئ خالصه فكان ذلك مما يدلُ نقائها بالرغم مما قد يُحيطُ بها من كدر فكان ربط هاتان الكلمتان سويةً سبباً يُعزز الصور و يُقويها لأن ربط و مُقارنة الشئ بنقيضه تزيد من وضوح الفارق.باكتمال روعة البناء و قوته و تفوقه تكتمل روعة القصيدة و تفوقها .