غياب
تَزْخَرُ المائِدةُ بأشهى الأطعمة والحلوى الرّمضانيّة، والأولاد يتحلّقون حولها منتظرين وقت الإفطار.
حرارة الجوّ مرتفعة، والصّغار يتلوّون جوعا وعطشا، فيما ينادي أحدهم أخاه الذي يصغي لصوت أذان المغرب معلنا إنهاء الصّيام كي يحظى بالجلوس إلى جانبي.
كلمات الاستغفار والأدعية توحي بالرّضا بهذه الأجواء ، والفرحة ببركة الأيّام تغازل العيون، وتجمّع أفراد العائلة لتناول الطّعام معا يثلج الصّدر.
في ليلة القدر أطال الصّغير العودة حاملا بشارة سماع الأذان. ينظر أفراد العائلة إلى السّاعة المعلّقة قبالتهم، ويوقنون أنّ موعد الإفطار قد حان، ولكن تلبية لرغبة الصّغير لا ينتهي الصّيام إلّا بسماع صوت المؤذّن. (تكّات) السّاعة تضاهيها حدّة دقّات قلبي التي بدأ وجيبها يضايقني، حين راودني شعور أنّ ابني قد وقع عن حافّة الشّرفة وهو يصغي للمؤذّن، ولم أشأ إزعاج عائلتي بوسوساتي. ولكن لمّا رأيت نظرات الصّائمين تلتهم الطّعام، وتعجز الأيدي عن تناوله لأنّها تسوّر أكواب الماء البارد بانتظار الإشارة، قمت ونظرت من الشّرفة التي لم أجده قربها، وإذ به يجري نحو البيت.. فجرجرتني سود أفكاري نحوه للاطمئنان عليه سائلا إيّاه:
ما بك يا بنيّ؟ أين كنت؟ .. وفجأة أحسست ببرد كلماته يطفئ ظمأ قلبي حين قال لي: ذهبت لأخبر جارنا العجوز الأصمّ بأنّ وقت الإفطار قد حان؛ لأنّ أولاده لم يأتوا اليوم إليه!.
تنهّد أبو قاسم وظلّ ناظرا نحو الشّرفة، ونسائم الشّوق تحرّك خصلات تفكيره ومشاعره، فأزعج ذلك زوجه التي نادته مرارا ليبدأ بتناول طعام الإفطار ولم يستجب. فسألته ألا يعجبك الطّعام ؟ ها هي ذي المائدة تعجّ بالأصناف التي تفضّلها، فما بك؟ تفضّل واشرب هذا الكوب من الماء البارد!
تناوله، والزّفرات والآهات أمواجٌ تهزّ الماء في الكوب قائلا:
المائدة ملآى بالطّعام، لكنّ الحلوى التي زيّنتها سنين قد غابت!.