بعد قراءتها لقصة " صفعة زوج" أصرت علي الكاتبة المبدعة الشابة نوال الغنم لأكتب قصة أخرى أنهي بها المأساة التي ترسمها نهاية القصة...
***
و الحقيقة أن الدكتور أنور لما عاد إلى البيت.. وجده يلتحف السواد .. و يضج بالصمت .. قرر ألا يدخل غرفة النوم.. ارتمى على أريكة في البهو، و أطلق العنان لعينيه كما لم يبك من قبل.
تسمرت عيناه في صورة ابنه ..بدت الصورة متحركة .. الطفل يبتسم، يكلمه، يناديه ..يناجيه .. يجري نحوه.. فتح أنور حضنه .. ثم ازدادت شهقاته ... تخيل زنوبة رشيقة تتحرك في البيت .. جميلة كانت .. أجمل من الجمال.. وحدها من النساء تثيره ..وحدها تحميه من الحركات الزائدة للممرضات و بعض المريضات أيضا .. ما جرب أن يعشق قبل أن يعرفها ..
خرج أنور من سياحته الذهنية مرددا ... لماذا..؟؟ لماذا زنوبة.!؟
***
خرجت زينب من المحكمة ..و قد خارت قواها .. لم تستوعب ما جرى ..فقط أبواها كانا يحاولان أن يهدئا من روعها.. كانت تنتحب ..لمحت أنور مسرعا نحو سيارته ..فكرت أن تجري وراءه.. تذكرت أن هذه أمور لا تصح إلا في الأفلام..
انطلق بها أبواها صوب بيت الأب..بيت لا أنثى تتحمل أن تعود إليه طالقة تحمل أوزار الفشل في عش الزوجية .. لم تكن تقول شيئا ..غطت وجهها بكفيها وهي تنتحب .. وفي رأسها الكثير من كلام لا يقال جهرا ..
" أنور أنت تعلم أنني أحبك ..أنت تعلم أنني تخليت عن دراستي من أجلك.. قررت أن يكون حلمي أنت ..أنت فقط.. رضيت أن أكون شبه خادمة في البيت ..عفوا لست خادمة .. أن زوجة.. سيدة البيت ..كان عطفك يغمرني .. حنانك يرويني.. حبك يكفيني..كنت كل شيء لي ... هذا الولد ما ذنبه !؟ لقد كان ثمرة غراس حب وعشق وهيام.. وها هو الآن يضيع بين يدي ..سينشأ بشلل نصفي.._تزداد شهقات زينب_ لا أريده معاقا..رزقنيه الله سليما ..لا أريده معاقا"
ازدادت شهقات زينب ، و ارتمت في حضن أمها مرددة : لماذا!؟ لماذا !؟
شعر الأب بقشعريرة غريبة...بينما قاومت الأم كثيرا لتكظم نحيبا تحتاجه.. فربتت على ظهر ابنتها :
_ عين الحساد يا ابنتي ..!َ!
***
لم ينم أنور ليلتها .. مستحيل أن ينام ..لأول مرة يبتعد عن دفء زينب ... قضى جزءا من الليلة منتحبا ...تذكر أنه لم يأكل شيئا..لكنه لا يشعر بالجوع..لمح الحذاء في رجليه .. رابطة العنق فوق المائدة ..أخذ وسادة أخرى ووضعها على وجهه ولم ينم...
فجأة يقف ..يستعيذ من الشيطان الرجيم،يتلو سورة الفلق؟؟سار خطوات .. أسند رأسه على جدار..اتجه صوب المطبخ ..أخذ حبة موز ..قشرها .. نقاها من خيوط على القشرة ظلت عالقة بالموزة .. سار نحو الغرفة مجددا ..اقتطع شيئا يسيرا من الموزة أحس طعمه مرا .. فكه عاجز عن الحركة.. ابتلعه على مضض .. وضع الموزة على المائدة و ارتمى على الأريكة...
***
ما أطولك يا ليل !
حين نأرق و ننتظر إشراقة صبح
هو أطول ليل في حياة أنور .."و ليل أقاسيه بطيء الكواكب........... و ليل كموج البحر أرخى سدوله" الآن فقط عاش أقوال الشعراء ممن عذبهم الليل .. تجرع مرارتهم ... يحدث نفسه بأنه أتعس رجل في العالم " أن تعيش حياتك تعيسا أهون من أن تتعس بعدما كنت سعيدا"..
يا صبح تعال
أخرجني من صمتي
من سجني
اخرجني مني إليك
تمدد و عيناه على النافذة، ينتظر أن يشم رائحة شيء اسمه الصباح.. أحس بنسمات برد تبشره بالمهدي المنتظر .. نسمات كبشير يعقوب أبصر أنور النور و اتسعت عيناه .. وضع وسادة أخرى أسفل رأسه ليرتفع أكثر فصار أقرب إلى الجلوس، وواصل الانتظار..
***
أطل من النافذة ..ثم اتجه إلى الحمام، وقف أمام المرآة قليلا .. أخذ غرفة من الماء,غسل وجهه خلل شعره ..ثم غادر البيت..
فتح باب السيارة .. جلس .. اتكأ على المقعد ..رفع رأسه إلى الأعلى ..ثم حناه .. أدار المفتاح ..قام بحركات معتادة بيده ورجله اليسرى ثم اليمنى ..انطلقت السيارة ..
***
وصل الدكتور إلى بيت حميه .. انتظر قليلا .. فكر في العودة إلى البيت أو التوجه إلى العمل ..وضع رأسه على المقود " من جاء بي إلى هنا .أأذهب للعمل ؟..لا يصلح أن أعمل بهذه الأعصاب المتوترة .. أحتاج أشياء ليس أقلها النوم.. "
فجأة يقف و كأن شيئا وخزه .. يتجه نحو الباب ..ضغط على الزر بهدوء لكن صوت الجرس لا يتغير كثيرا أضغط بقوة أو برفق..
من فوق كانت هناك امرأة .. تقطع مسافة الغرفة طولا وعرضا .. فشلت في مراودة النوم كما فشلت امرأة العزيز في مراودة يوسف ..حاولت أن تتصل لكنها تعلم أن زوجها لما يغضب يخرج أمعاء الهاتف و كأنه يقوم بعملية جراحية يفصل البطارية عن الهاتف و البطاقة ويرمي الهاتف في أي مكان ..
***
أطلت المستيقظة من النافذة .. وهل نامت أصلا!؟ ..شعرت بشيء غريب ..لا يصدق .. فكرت أن تقفز من النافذة .. ارتبكت ..تريد أن تقول شيئا ، أن تفعل شيئا.."كنت أعلم.." قالتها بصوت مرتفع انهمرت دموعها من جديد .. جرت نحو المرآة ..ابتسمت ..فتحت الباب تجري .. تذكرت أنها تجري حافية القدمين .. عادت.. انتعلت شيئا ..لما اقتربت من الدرج ..رجعت مرة أخرى .. طرقت باب غرفة أمها .. رأت أمها جالسة ترفع كفيها إلى السماء .." أمي ..أنور .." لم تنتظر ردها ..جرت نحو الدرج كطفلة صغيرة تريد أن ترغم أباها على مرافقته ..تذكرت دميتها .. عادت مرة أخر تجري نحو الغرفة.. كان الطفل غارقا في نومه ..حملته ضمته إلى صدرها ..غمرت وجهه بدموعها ..
انطلقت كالسهم نحو الدرج دون أن تلتفت هذه المرة..