شَاخَ الليلُ حتَّى أَطلَقَتْ إِرْهَاصَاتُ فَجْرِهِ بَلابِلَ صَمتِهِ طُيَورًا تَسْعَى لأَرْزَاقِهَا مُسَبِّحَةً رَبَّهَا العَظِيمَ. وَكَانَ عَصْفُ رِيحٍ مُثقَلةٍ بِبَردٍ قَارِسٍ فِي مُنتَصَفِ كَانُون يُشِيبُ مَا تَبَقَّى مِن خصُلاتِهِ المُظْلمَةِ قَبلَ أَنْ يَرتَفِعَ صَوتُ أَذَانِ الفَجْرِ نَدِيًّا يُنَادِي إِلى خَيرِ العَمَلِ. كَانَ مُخْتَارٌ قَد سَبَقَ عَصَافِيرَ الفَجْرِ يَحُثُّ الخُطَى خَلفَ وَالدِهِ فِي الطَّريقِ المُحَاذي للسَّاحِلِ وَالذِي يَمُرُّ عَبرَ أَجَمٍ مِن نَخِيلٍ شَاهِقٍ. رَهْبَةُ الصَّمْتِ وَعَويلُ الرِّيحِ وَشِدَّةُ الظُّلْمَةِ تَرْسُمُ فِي خَيَالهِ بَعضَ خَوفٍ طُفُولِيٍّ أَذْكَتْهُ حِكَايَاتُ جَدَّتِهِ إِذْ يَغْفُو في حضْنِهَا كُلَّ لَيلَةٍ ، وَتُحْجِمُ يَدُهُ مُجَدَّدًا أَنْ تَطْلُبَ يَدَ وَالِدِهِ الصَّارِمِ بَحْثًا عَن أَمانٍ.

كاَن َالبَحْرُ يَزْبدُ غَاضِبًا مِنْ لَطْمِ الرِّيحِ يَتَطَاوَلُ مَوجُهُ لِيَصفَعَ مَا يَخَالهُ خَصْمًا. وَكانَ بَعْضُ صَقِيعٍ يُدَثِّرُ الأَرضَ بِثَوبٍ قُطْنِيٍّ لامِعٍ امْتَدَّ حَتَّى غَطَى قَارِبَهُم الصَّغِيرَ.
لَقَدْ بَدَأَ نَهَارٌ جَدِيدٌ فِي حَيَاةِ هَذَا الطِّفْلِ ذِي السَّنَوَاتِ العَشْرِ فَأَسْرَعَ إِلى تَطْبيقِ مَا تَعَلَّمَ بِخِفَّةٍ وَحِرْفَةٍ ، ثُمَّ جَلَسَ قبَالَةَ وَالِدِهِ يُزِيحُ مِثْلَهُ بِيَدَيهِ العَارِيَتَينِ أَكْوَامَ الثَّلْجِ لِيَصلَ
لِلأسْمَاكِ المُجَمَّدَةِ يُلْقِمُهَا الشُّصُوصَ طُعْمًا لِصَيدٍ يُوَفِرُّ القُوتَ لِعَائِلَتهِ الكَبيرَةِ ، وَكُلَّما تَجَمدَتْ أَطْرَافُهُ حَدَّ الشَّللِ أَسْرَعَ يَغْمِسُهَا فِي مِيَاهِ البَحْرِ الباردة لِتَدْفَأَ فَتَسْتَعِيدَ حَرَكَتَهَا مِنْ جَدِيدٍ.

البَحرُ يَعْلُو وَيَهْبِطُ ، وَالرِّيحُ تَعْوِي وَتَصْفرُ ، وَالقَارِبُ الصَّغِيرُ يَكَادُ يَدْفَعُ ثَمنَ صِرَاعِهمَا يَصْطَفقُ بِقُوَّةٍ تَكادُ تَخلعُ قَلبَ الصَبيِّ وهُوَ يَنظُرُ فِي الأُفُقِ مُبتَهِلا للهِ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُمْ هَذَا اليَومَ مِن الرِّزْقِ مُعِيلا. أَغْمَضَ عَينَيهِ يَستَعيدُ شَريطَ ذِكرَياتٍ مُتَبَاينةٍ ثُمَّ انْشَغَلَ يَدعُو اللهَ بِرِزْقِ العِيالِ حتَّى إِذَا صَفَا ذِهْنُهُ فِي تَأَمُّلٍ بَدَا كَحُلُمٍ لَمْ يَخْتَرْهُ رَأَى سَمَكةً تَعُومُ عَلَى السَّطْحِ تَتَّجِهُ إِلَيهِ فَيَمُدُّ يَدَهُ فَيَلْتَقِطُهَا. هَزَّ رَأْسَهُ يَضحَكُ مِنْ نَفسِهِ ؛ لا بُدَّ أَنَّ الحَاجَةَ الشَّدِيدَةَ لِلمَالِ وَنُدْرَةَ الصَّيدِ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرةِ هُمَا مَا رَسَمَا هَذَا فِي مُخَيِّلَتِهِ.

سَيطَرَ عَلَيهِ هَذَا الحِسُّ وَطَارَدَ خَاطِرَه صَيدُ خَيَالِهِ حتَّى فَتَحَ عَينَيهِ يَطْردُ بِنُورٍ بَعِيدٍ هَوَاجِسَهُ هَذِهِ فَلَمْ يُفلِحْ. اتَّخَذَ وَضْعًا يُمَكِّنُهُ مِن مُرَاقَبَةِ مَا تَسْمَحُ بِهِ الظُّلْمَةُ مِنْ سَطْحِ البَحْرِ دُونَ أَنْ يُفَرِّطَ في اسْتِرخَائهِ ثُمَّ انتَفَضَ فَجْأَةً صَائِحًا:
ـ تَوَقَّفْ يَا أَبِي ، هَذِهِ سَمَكَةٌ تَعُومُ إِلَينَا.
دُهِشَ أَبُوهُ حَتَّى لَقَدْ خَشِيَ عَلَيهِ منْ هَذَيَانِ رَهَقٍ ، فَابْتَسَمَ بِرِفْقٍ وَقَالَ:
ـ لَعَلنَا نَصْطَادُ اليومَ سَمَكًا كَثِيرًا بِإذْنِ اللهِ. السَّمَكُ لا يَأتِي النَّاسَ يا بُنَيَّ ، وَالعَتْمَةُ هَذِهِ لا تَسْمَحُ بِرُؤيَةِ أَي شَيءٍ الآنَ. استَرِحْ رَيثَمَا نَصِلُ إِلى حَيث نَبْدَأُ الصَّيدَ.
ـ وَلَكِنْ يَا أَبِي أَرَاهَا ، هَا هِي تٌقْبِلُ ، وَاللهِ أَرَاهَا هُنَاكَ.
هَالَ الأبَ نَبرُةُ ابْنِهِ الوَاثِقَةُ وَذهلَ حِينَ رَأَى إِذْ دَنَا تِلْك السَّمَكةِ تَتَّجِهُ نَحْوَ القَارِبِ فِي استِسْلامٍ. لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً وَلَكِنَّهَا كَانَتْ ثَقِيلةَ الوَقْعِ لِتبعَثَ الفَرْحَةَ وَالرَّهْبَةَ فِي آنٍ مَعًا وَهُوَ يُمْسِكُ بِهَا حَيَّةً طَازَجَةً مُردِّدًا:
ـ سُبْحَانَ اللهِ!

وَصَلا إِلى حَيْث بَدَأَ الصَّيدُ مَرَاسِمَهُ المَعهُودَةَ ، وَطَالَ انْتِظَارٌ دُونَ جَدْوَى. وفَجْاَة إِذْ قَارَبَتِ النِّهَايةُ عَلَى غَرْزِ طَعْنَةِ إِحبَاطٍ تَزيدُ النَّصَبَ شُدَّ الخَيطُ بِقُوَّةٍ جَبَّارةٍ وَبَدَأَتْ الشُّصُوصُ تَنْطَلقُ مِن مَكَامِنِهَا كَرَصَاصَاتٍ سَرِيعَةِ الطَّلَقَاتِ.

صَرَخَ الأَبُ مُستَنْفِرًا:
ـ ارْتَدِدْ إِلى الخَلْفِ بِلا جَلَبَةٍ يَا مُختَارُ وَخُذْ حِذْرَكَ!

كَانَ مُخْتاَرٌ يَعْلَمُ مَا يَجِبُ عَلَيهِ فِعْلُهُ وَإِنْ أَرْبَكَهُ اخْتلافُ قُوَّةِ الشَّدِّ هَذِهِ المَرَّةِ فَكَانَ أَكْثَرَ حَذَرًا. سَاعَتَانِ مَرَّتَا كَدَهْرٍ وَالقَارِبُ يُجَرُّ إِلى حَيث شَاءَ ذَلكَ القِرْشُ الضَّخْمُ وَقَدْ فَاقَ حَجْمُهُ حَجْمَ قَارِبِهِمَا قَبْلَ أنْ تَخُورَ قِوَاهُ حَدًّا مَكَّنَهُمَا مِنْ شَدِّهِ لِلقَارِبِ. مَا إِنِ اقْتَرَبَ حَتَّى عَقَدَ الذُّهُولُ العَينَ وَاللِسَانَ حتَّى لَقَدْ عَجِزَا عَنْ رَفْعِهِ لِلقَارِبِ فَمَدَّدَاهُ إِلى جَانِبِهِ يَكَادُ أَنْ يَمِيدَ بِهِ.
وَقَفَ جَمعٌ كَبيرٌ يَنْظُرُ بَعْضٌ بِفُضُولٍ وَبَعْضٌ بِحَسَدٍ وَهُمْ يَرَونَ القَارِبَ يَكَادُ يَغُوصُ يَحْسَبُونَهُ امْتَلأَ سَمَكًا. حتَّى إِذَا وَصَلا الشَّاطِئَ أَسْرَعَ بَعضُ الوَاقِفِينَ لِلمُسَاعَدَةِ إِذِ احْتَاجَ إِخْرَاجُ القِرْشِ لِلبَرِّ عَشْرَةَ رِجَالٍ. كَانَ المَشْهَدُ مَهُولا جَمَعَ القَومَ عَلَيهِ حَتَّى فَرَّقَهُمْ تَاجِرُ السَّمَكِ الكَبِيرُ فَنَظَرَ فِي الصَّيدِ ثُمَّ قَالَ بِلَهْجَةٍ حَاسِمَةٍ:
ـ عَشْرُ لِيرَاتٍ فِي هَذِهِ السَّمَكَةِ ، وَلا أُرِيدُ هَذَا القِرْشَ فَلا طَلَبٌ عَلَيهِ.

تَجَرَّأَ أَحْدُ التُّجَارِ الصِّغَارِ بَعْدَ أَنْ مَضَى ذَاكَ فَقَالَ:
ـ أَشْتَرِيهِ بِقِرْشِ.

دَارَتْ الدُّنْيَا بِالصَّبِيِّ. أَبَعْدَ كُلِّ هَذَا العَنَاءَ وَالخَطَرَ؟؟ رَحْمَتَكَ رَبِّي!
نَظَرَ فِي عَيْنَيِّ أَبِيهِ وَقَدْ تَعَلَّقَتَا بِالقِرْشِ وَتَعَلَّقَ فِيهمَا حُزْنٌ وَحَسْرَةٌ وَقَالَ بِسُخْرِيَةٍ مَرِيرَةٍ:
ـ حَسَنًا ، خُذْهُ بِقِرْشٍ!
ـ يَا أَبِي ....
ـ أُصْمُتْ يَا مُخْتَارُ!
ـ يَا أَبِي ... هَذَا لَيسَ بِعَدْلٍ. دَعْنِي أَبِعْهُ فِي السُّوقِ قِطَعًا.
ـ لَنْ تُفْلِحَ يا بُنَيَّ فَلَحْمُهُ مِمَّا يُزهَدُ بِهِ ، وَهُمْ لَنْ يَسْمَحُوا لَكَ.

صَمَتَ لِسَانُ الصَبِيِّ وَتَحَدَّثَتْ عَينَاهُ بِكُلِّ مَا أَصَابَ القَلْبَ مِنْ قَهْرٍ وَأَسَى ، يَنْظُرُ إِلى التَّاجِرِ كَأَنَّهُ يُقَطِّعُ مِنْهُ لَحْمَهُ قَبلَ أَنْ يُقَطِّعَ لَحْمَ القِرشِ ذَاكَ. وَمَا إِنْ فَتَحَ التَّاجِرُ بَطْنَهُ حَتَّى جُنَّ جُنُونُ الصَبِيِّ يَصْرخُ بِأَبيهِ يَنظُرُ كِلاهُمَا بَينَ الذُّهُولِ وَالأُفُولِ لَكِنَّ أَبَاهُ نَهَرَهُ بِرِفْقٍ قَائِلا:
ـ لا يَا وَلَدِي ، لا يَتَرَاجَعُ الحُرُّ عَنْ البَيْعٍ حَتَّى لَوْ وَجَدُوا فِي بَطْنِهِ كُلَّ هَذَا الخَيرِ ، هِيَ أَرْزَاقٌ يَا بُنَيِّ وَأَقْدَارٌ لا يَجِبُ فِيهَا أَنْ يَدْفَعَنَا السُّخْطُ إِلى أَنْ نَزِلَّ أَوْ أَنْ نَضِلَّ أَو أَنْ نَنْكثَ عَهْدًا أَو أَنْ نَخُونَ أَمَانَةً.