الاستبداد ومصادرة الآراء عند العرب
بسم الله الرحمن الرحيم
تناقشت مع أخي الكريم : طارق السكري حول موضوع يخصني ، وهمٍّ يلفني ، فأضاء لي أخي الكريم إضاءات أستند إليها في مقالي هذا .
إن العرب هم العرب ، لا يغيّرهم غير الدين ، فمتى ما تمسكوا به بقصد التعبد صلحوا ، وإن هم تمسكوا به بقصد فرض السيطرة على المجتمع ؛ ازدادوا في طغيانهم ، وأنا لا أتكلم عن الحكام وذوو السلطة والنفوذ وحدهم - أيا كان ذاك النفوذ وتلك السلطة - ، بل حتى عامة العرب .
من سمات العربي الاستبداد وفرض الرأي ومصادرة الآراء ، وهي صفة قد نقول أنها موروثة ، أو أنه قد تلقاها من ثدي أمه ، والأُولى أصح عندي من الثانية .
يحبُّ العربي أن يمنع من يخالفه – أيا كانت تلك المخالفة - ، ويستخدم لذلك كل الوسائل المتاحة له بحسب قدرته ، فالمسؤول له قدراته اللامحدودة ، والشيخ له منبره وزبانيته ، والقبيلة لها ضغطها الاجتماعي وأسلوب العزل والإقصاء ، والوالد له الضغط من باب الرضا عنك ومحبتك له والمخافة عليك ، والغوغاء لهم الهمز واللمز ومباشرة الأذى الميداني ، وأسوؤها ما تضافرت فيه القوى السالفة الذكر معا .
وأكثر المصادرات الحالية ليست من قِبل المسؤول في مجتمعنا ، بل هي من المؤسسة الدينية وتوابعها ، إذ تتضافر معها القبيلة في كثير من الأحيان ، وخشية الوالد ، وغوغائية الشارع .
إن أي مخالفة لرأي فقهي ، أو طريقة تعامل اعتادت المؤسسة الدينية اتباعها ؛ قد يوقعك في مهالكها ، ويستدعي استثارتها لبقية توابعها ، مما قد يوقعك في حرب الإقصاء ومصادرة الآراء .
كما بدأت مقالي ؛ فمصادرة الآراء سمة عربية أصيلة ، ليست مهجّنة أو مستعربة ولا دخيلة ، يدل على ذلك تاريخ العرب مع الإسلام ، ومحاربتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته للإسلام ، فقد استخدموا مؤسستهم الدينية وبيّنوا أنهم باقون على ما اعتادوا عليه من عبادات ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ، والسلطة السياسية فرضت سلطتها على الواقع بالعزل في الشِّعْب ، والضغط القبلي بالمقاطعة اتباعا للرأي الديني والسياسي ، ومن ثَمَّ ضغط الوالد ؛ وكان في طلب عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب بترك الدعوة للإسلام خوفا عليه ومحبة له ، وأما الغوغاء فحدث عن فعلهم ولا حرج ؛ كأم جميل التي تضع الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم .
ومما سبق نتيقن أن مصادرة الآراء هي سمة عِرقية يتسم بها العرب ، ولا يمكن تغييرها إلا بالدين الحق المراد منه التعبد لا التسلط ، وظهر لنا دوره في الصحابة رضوان الله عليهم ، وفي خلافهم في فهم الدين ومسائله ، وبُعدِهم عن التسلط على الآخر ، ومصادرة رأيه ، بل عُرِف بعضهم بالتشديد والآخر بالتيسير ؛ كابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ، ولم يعِب أحد منهم الآخر ، فضلا عن أن يصادر رأيه ، بل عُدّت سمة لهما عُرفت على مدى القرون .
أن الحركة الفكرية في زمننا هذا تحتاج إلى تحرر من هذه القيود ، وصبر وجَلَد في تحمل أعبائها ، وإن العاقل الفطن ليرى بصيص ضوء في الأفق يبشّر بفتح الطريق أمام مرحلة جديدة ، يكون للعقل فيها كلمته ؛ متّبعا الدين ، غير مجافٍ عنه ، لا كما هو الحال في مرحلتنا ، من إغفال لصوت العقل ؛ حتى ينفرد ذوو السلطة الدينية بالمجتمع يسيرونه كيفما شاؤوا ، دون مخافة من عاقبة هذا الظلم والاستبداد .
إن أيامنا هذه هي أيام ثورات ، قد عمّت حمّاها أرجاء الوطن العربي ، وكلها تنادي بدفع الظلم ، ونبذ الاستبداد – طبعا هذا رأي الجمهور فقط ، أما أصحاب الكرفتات والعباءات فلهم أهدافهم الخاصة - ، وإني أنتظر اليوم الذي تخرج فيه الجموع منادية برفع الاستبداد الديني ، بعد أن نجحوا في إزالة رؤوس أنظمة استبدادية ، وقد ذكر الشيخ سلمان العودة في إحدى رسائله على صفحته الفيس بوكية : أن أشد الاستبداد ما اجتمع فيه استبداد المؤسسة الدينية مع استبداد الدولة .
ومن هنا أرى أنه من الواجب على كل ذي عقل وفكر أن يكون عونا لأخيه المفكر والمثقف ، وأن يقف معه في محنته إن هو تعرض للإقصاء ومصادرة الآراء ، وأن يستمر المثقف المفكر في نفس الطريق الذي يدين الله به .
باسم الجرفالي
20 / 4 / 1433هـ