طُموح
....................( المحاولة الثالثة )
.
.
.
.
- مَنْ فيكم يُسَابِقُنى إلى الأرض ؟
فى حماسٍ مُعتَادٍ منه ، قالها لرفاقه فى المهمة ، و هو ينظر فى إتجاهٍ واحدٍ إلى الأمام ، يبدو للوهلة الأولى و كأنما فُطِرَت عيناه على هذا الإتجاه . وبرغم أنه قد ألقى السؤال على مسامع جميع رفاقه ؛ إلا أنه لم ينتظر إجابةً من أحدهم ، و لم يأبه حتى للكم الهائل من نظرات رفاقه المندفعة إليه من كل حدبٍ و صوبٍ لتمطر عليه بوابلٍ من معانى السخرية و الاستخفاف . لطالما كانوا يهزأون بطموحاته و أحلامه ، يَرونَهُ مجنونًا ، و هو يراهم مجموعة من الحمقى عديمى المنفعة .. يهمس أحدهم للآخرين محاولاً تبرير نظراتهم الساخرة :
- تمامًا مثل إخوته .. يبدو أن الجنون صفة جينية فى تلك العائلة.
***
- هل اقتربنا ؟!
مازال يخترق المسافات الفارغة بين رفاقه بعوده النحيف جدًا و خطواته المتلاحقة و المندفعة بشكلٍ يشبه سباق السيارات .. تتزايد أمامه المسافات الفارغة – كمحاولة من رفاقه لتجنبه بأسهل الطرق – فتتسارع خطواته نحو الوصول إلى الصفوف الأمامية .. يأخذ نفسًا عميقًا ليبثَّ الهدوء مجددًا فى نبضات قلبه المتتالية ، و التى تزايدت بشكل تلقائى مع خطواته ، من الضرورى أن يسيطر على حماسه كى لا يفقد الكثير من طاقته ؛ فهو من المؤكد سيحتاجها حين يصل إلى هناك .
اقترب كثيرًا من الصفوف الأمامية .. الكثير من الأفكار تنبعث داخل عقله ، تتزايد بشكل سريع ، تملأ كل ذرة فى عقله ، يحاول بقدر ما يستطيع أن يفرغ القليل منها خارج جمجته الصغيرة ليركِّز فى تقدمه نحو الأمام لكن تبوء جميع محاولاته بالفشل .. تتزايد نبضات قلبه مجددًا معلنة إقترابهم فبدت ابتسامة خفية على شفتيه ؛ أخيرًا سيفوز بحلمه الوحيد الذى ربما يكون بالفعل قد ورثه عن أجداده الذين سبقوه إلى هناك .. لا يستطيع أن يرى المكان بعد !! يأخذ نفسًا عميقًا مرةً أخرى ، يُنشِّط خلايا جسده بمزيدٍ من الطاقة .. فقط بضع خطواتٍ أخرى و يصل إلى الصفوف الأمامية.
***
- على رُسُلِك يا رجل ، كأنك لا تعلم أننا نتجه نحو الجحيم بعينه !! .. يبدو أن قائد مديتنا الشمسية أراد أن يتخلص منَّا – نحن الملعونون – فأرسلنا لنكافح من أجل الحياة فى تلك المنطقة.
قالها أحدهم و هو يحاول أن يُحدَِّ قليلاً من شعلة الحماس لديه .. ينتبه إلى عبارة رفيقه و هو يعدو خطواته الأخيرة كى يصل إلى المقدمة ، يتوقف عقله للحظة عن إنتاج المزيد من الأفكار ، ينجح – بشكل غير إرادى – فى أن يفرغ ما بجعبته من أفكارٍ تجاه المهمة ، لكنه فى ذات الوقت يذهب بمخيلته إلى إتجاهٍ آخر ليبدأ دورةً جديدةً من التفكير .. " الجحيم !! .. بماذا يهذى هذا المخبول ؟ ربما هم فعلاً ملعونون بحماقتهم اللامتناهية " بدأ يحدث نفسه ليمحى إحساسه بالفضول ، و بالرغم من ذلك نجحتْ بالفعل تلك العبارة فى عبور محيط أفكاره لتحتل شعورًا داخله جعله لا ينتبه أنه قد تخطى بالفعل الصفوف الأمامية .. يستعيد إداركه مجددًا على همهمة الآخرين .. ما يفصل بينهم و بين المنطقة المقصودة سوى دقائق قلائل.
***
ما لبث أن وصل الجميع إلى ذلك المكان إلا أن أصبحوا فى دهشةٍ ملكت جميع حواسهم .. هذه الخضرة المبعثرة هنا و هناك ، المياة التى تملأ المكان بكثرة ، الهواء الذى يلطف من لهيبهم ، تلك الوجوه التى تبدو علي بعضها الغفوة و على البعض الآخر الإرهاق .. ذهبوا جميعًا يتفقدون المكان و هم يفكرون فى المجهول الذى ينتظرهم.
أما هو ؛ شعر وكأنما رُدَّتْ رُوْحُهُ إلى جسده .. جميع أحلامه التى عاش لأجلها تجسدت أمامه لتصبح واقعًا ملموسًا . يتجول فى كل مكان ، يتأمل فى كل شىءٍ يراه ، يرتفع مع الهواء إلى أعلى ما يكون ، يسبح فى الماء و يغوص إلى أقصى ما يستطيع .. يسمع ضحكة هذا الرجل الأشقر، و يرى دمعة تلك المرأة العجوز التى تحتضن شابًا مغطى بالدماء و تبكى ، يستمع إلى تلك الحفلات الصاخبة ، و يحزن على ذلك الدمار فى هذا الجزء من المكان .
***
- هل هذا هو الجحيم ؟! ههه الأمر فعلاً كان يستحق التضحية .. ما بال هؤلاء الحمقى الأشقياء ؟ تراهم ماذا يفعلون الآن ؟! .. أرتاحُ قليلاً وَ من ثَمَّ أُعَاوِد مهمتى.
يهمس بداخله و هو مُستَلْقٍ على شاطىءٍ بحرى ، يدندن بعض الكلمات التى سمعها فى حفلةٍ ما ، لكنه يتذكر الطفل الذى كان يبكى من شدة الجوع فيصمتْ .. يرى مدينته التى أتى منها تودعه و هى تطفأ لهيبها فى نهاية البحر – على مَدِّ بصره – يبتسم مرة أخرى و هو يتذكر تلك الأيام التى قضاها هناك ، أسرته و أصدقائه و محبوبته ، لن ينساهم إلى الأبد .. هَمَّ أن يقوم مع الرمق الأخير من مدينته.
فجأة يشعر بقلبه ينقبض ، شىءٌ ما يُمحى بداخله و يسبب له الألم .. مدينته اختفت تمامًا عن أنظاره ، الألم يزداد و هو يشعر بالضعف أكثر ، القلق يتسرب إلى نفسه دون سيطرة ، يلمح ثمة شىء أسود يقترب منه تدريجيًا من كل ناحيةٍ تحيط به فيحاول أن يستنفذ كل طاقته ليجرى بأقصى سرعةٍ له يبحث عن رفاقه و لكن لا فائدة .. جميع الأشياء تبهت من حوله و مازال ذلك الشىء الأسود يقترب منه فى سرعةٍ متزايدة ، يضعف أكثر فيستقر فى مكانه و يدقق النظر فى الشىء القادم إليه ، لا مفر من المواجهة ، يتأهب بما تبقى له من قوة ، يأخذ أنفاسه بعمق ، و قبل أن يهم بالمواجهة يفزع من مكانه و ترتعش جميع أوصاله .
***
أعدادٌ هائلة من جنود الظلام تنقض عليه من جميع الجهات ،يقاتل من مكانه ، لا مكان للهروب و لا طاقة لمواجهة كل هؤلاء ، يقاوم بأنفاسه المتبقية و جروحه البالغة .. مرت الساعات و الظلام يستمر فى هجومه الشرس و هو يستمر فى المقاومة ، أصبح يتنفس بصعوبة ، ضعفتْ قوته تمامًا و لا يقوى على الاستمرار ، انهالوا عليه بالضربة القاضية .. يسقط فوق ذلك المنزل المتهدم ، يحل الظلام الحالك ، لا يرى شيئًا ، لا يشعر سوى بنبضاته الأخيرة ..
الله أكبر الله أكبر ** الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله ** أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن محمدًا رسول الله ** أشهد أن محمدًا رسول الله
حى على الصلاة ** حى على الصلاة
حى على الفلاح ** حى على الفلاح
الصلاة خير من النوم ** الصلاة خير من النوم
الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله
ينصت إلى ذاك الصوت المتردد فى كل مكان ، هذا الهدوء الذى يشعر به .. يبتسم مرة أخيرة .. يتذكر أحلامه و أسرته و أصدقائه و محبوبته ، لن يناسهم إلى الأبد.