الْغَــــــــــــــدُ
بقلم / الأديب الْمُفوّه مصطفى لطفي المنفلوطي ( رحمه الله )
عرفت أني فكرت ليلة أمس فيما أكتب اليوم ، وعرفت أني آخذ الساعة بقلمي بين أناملي ، وأن بين يدي صحيفة بيضاء تَسْوَدُ قليلاً كلما أجريت القلم فيها ، ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو دون غايته ؟ وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه ، أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها ؟ لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئا ، ولأن المستقبل بيد الله . عرفت أني لبست أثوابي في الصباح ، وأني لا أزال ألبسها حتى الآن ، ولكني لا أعلم ، هل أخلعها بيدي ، أو تخلغها يدُ الغاسل ؟
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد ، فربما كان ملكا رجيما ، وربما كان شيطانا جيماً ، بل ربما كان سحابه سوداء ، إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها ، وبعثرت ذراتها ، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود
الغد بحر ، خضم ، زاخر ، يعب عبابه ، وتصطخب أمواجه ، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر ، أو الموت الأحمر .
لقد غمض الغد عن العقول ، ودق شخصه عن الأنظار ، حتى لو أن إنسانا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره ، لا يدري أيضعها على عتبة القصر أم على حافة القبر .
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار ، تحوم حوله البصائر ، وتتسقطه العقول ، وتستدرجه الأنظار ، فلا يبوح بسر من أسراره ، إلا إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال
كأني بالغد وهو كامن في مكمنه ، رابض في مجثمه . متلفع بفضل إزاره ، ينظر إلى آمالنا نظرات الهزء والسخرية ، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء ، يقول في نفسه : لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب ، وهذا الولد أن يلد للموت : ما جمع الجامع ، ولا بنى الباني ، ولا ولد الوالد .
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم ، فاتخذ نفقا في الأرض ، وصعد في سلم إلى السماء ، وعقد مابين المشرق والمغرب بأسباب من حديد ، وخيوط من نحاس ، وانتقل بعقله إلى العالم العلوي ، فعاش في كواكبه ، وعرف أغوارها وأنجادها ، وسهولها ، وبطاحها ، وعامرها ، وغامرها ، ورطبها ويابسها ، ووضع المقاييس لمعرفة أبعاد النجوم ومسافات الأشعة والموازين لوزن كرة الأرض إجمالاً وتفصيلاً .
وغاص في البحار فعرف أعماقها ، وفحص تربتها ، وأزعج سكانها ، ونبش دفائنها ، وسلبها كنوزها ، وغلبها على لآلئها وجواهرها .
ونفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها ، وعرف كيف يعيشون وأين يسكنون ، وماذا يأكلون ويشربون .
وتسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة ، فعرف النفوس وطبائعها ، والعقول ومذاهبها ، والمدارك ومراكزها ، حتى كاد يسمع حديث النفس ، ودبيب المنى .
واخترق بذكائه كل حجاب ، وفتح كل باب ، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزاً مقهوراً لا يجرؤ على فتحه ، بل لا يجسر على قرعه ، لأنه باب الله ، والله لا يطلع على غيبه أحد .
أيها الشبح الملثم بلثام الغيب ، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى صفحة واحدة من صفحات وجهك المقنع ؟ أو لا ، فاقترب منا قليلاً ، وعلنا نستشف صورتك من وراء هذا اللثام المسبل دوننا ، فقد طارت قلوبنا شوقاً إليك ، وذابت أكبادنا وجداً عليك .
أيها الغد ، إن لنا آمالا كبارا وصغارا ،وأماني حسانا وغير حسان , فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منك؟ وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها ؟ أأذللتها واحتقرتها ، أم كنت لها من المكرمين ؟
لا ، لا ، صن سرك في صدرك ، وأبقِ لثامك على وجهك ، ولا تحدثنا حديثا واحداً عن آمالنا وأمانينا ، حتى لا تفجعنا في أرواحنا ونفوسنا ، فإنما نحن أحياء بالآمال ، وإن كانت باطلة ، وسعداء بالأماني ، وإن كانت كاذبة .
وليست حياة المرء إلا أمانيا ــــــــــ إذا هيَ ضاعت فالحياة على الأثر
النّظرات ج 1 ص 35 . 36 . 37