أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: عبد الرحمن الغافقي(سيرة عطرة)

  1. #1
    الصورة الرمزية عدنان أحمد البحيصي شهيد العدوان على غزة 2008/12/27
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    الدولة : بلد الرباط (فلسطين)
    العمر : 41
    المشاركات : 6,717
    المواضيع : 686
    الردود : 6717
    المعدل اليومي : 0.87

    افتراضي عبد الرحمن الغافقي(سيرة عطرة)

    ما كاد أمير المؤمنين ، وخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ينفض يديه من تراب سلفه سليمان بن عبد الملك ، حتى بـادر يعيد النظر في أمراء الأمصار ، ويعزِل ويولِّي .
    وكان في طليعة من استعمله " السمح بن مالك الخولاني " ..
    فلقد أسند إليه ولاية الأندلس وما جاورها من المدن المفتوحة من بلاد فرنسا .


    * * *


    ألقى الأمير الجديد رحاله في بلاد الأندلس ، وانطلق يبحث عن أعوان الصدق والخير ؛ فقال لمن حوله :
    أَبَقِيَ في هذه الديار أحد من التابعين ؟
    فقالوا : نعم أيها الأمير .
    إنه ما يزال فينا التابعي الجليل عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي . .
    ثم ذكروا له من علمه بكتاب الله ، وفَهمِِهِ لحديث رسول الله ، وبلائه في ميادين الجهاد ، وتشوقه إلى الاستشهاد ، وزهده بعَرَضِ الدنيا الشيء الكثير ..
    ثم قالوا له :
    إنه لقي الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه ، وأنه أخذ عنه ما شاء الله أن يأخذ ..
    وتأسّى به أعظم التأسي .


    * * *


    دعا السمح بن مالك الخولاني عبد الرحمن الغافقي إلى لقائه ، فلما جاءه رحب به أكرم الترحيب وأدنى مجلسه منه ، ثم قعد ساعة من نهار يسأله عن كل ما عنَّ له ...
    ويستشيره في كثير مما أشكل عليه ...
    فإذا هو فوق ما اُخبِرَ عنه ، وأعظم مما ذُكر له ، فعرض عليه أن يوليه عملاً من كبير أعماله في الأندلس .
    فقال له : أيها الأمير ، إنما أنا رجل من عامة الناس ...
    ولقد وفدت إلى هذه الديار لأقف على ثغر من ثُغُور المسلمين ...
    ونذرت نفسي لمرضاة الله عز وجل ...
    وحملت سيفي لإعلاء كلمته في الأرض ...
    وستجدني – إن شاء الله تعالى – ألزم لك من ظِلِّكَ ما لزمت الحق ...
    وأطوع لك من بَنَانِكَ ما أطعت الله ورسوله ...
    من غير ولاية ولا إمارة .


    * * *


    لم يمض غير قليل حتى عزم السمح بن مالك الخولاني على غزو فرنسا كُلها ، وضمها إلى عِقدِ دولة الإسلام العظمى .
    وأن يتخذ من ديارها الرحبة طريقاً إلى دول البلقان ...
    وأن يُفضي من دول البلقان إلى القسطنطينية ، تحقيقاً لبشارة الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
    وكانت الخطـوة الأولى لتحقيق هذا الهدف الكبيـر ، إنما تتوقف علـى احتلال مدينـة ( أربُونَةَ ) .
    ذلك أن ( أربونة ) كانت من أكبر المدن الفرنسية التي تُجاور بلاد الأندلس .
    وكان المسلمون كلما انحدروا من جبال ( البِرِنيهِ ) ، وجدوها تنتصب أمامهم كما ينتصب المارد الجبار .
    وهي فوق ذلك مِفتاح فرنسا الكبرى ...
    ومطمح الطامحين إليها ...


    * * *


    حاصر السمح بن مالك الخولاني مدينة ( أربونة ) ، ثم عرض على أهلها الإسلام أو الجزية ... فعز عليهم ذلك وأبوه .
    فهبَّ يهاجمهم الهجمة تلو الأخرى ، ويقذفهم بالمنجنيقات حتى سقطت المدينة العريقة الحصينة في أيدي المسلمين بعد أربعة أسابيع من الجهاد البطولي الذي لم تشهد أوروبا نظيراً له من قبل .
    ثم بادر القائد المظفر المنتصر ، فتوجه بجيشه الجرَّار إلى مدينة ( تُولُوز ) عاصمة مقاطعة ( أوكتانيَةَ ) .
    فنصب حولها المنجنيقات من كل جهة .
    وقذفها بآلة الحرب التي لم تعرف لها أوروبا نظيراً من قبل .
    حتى أوشكت المدينة المنيعة الحصينة أن تخر بين يديه .
    عند ذلك وقع ما لم يكن في حُسبَان أحد .
    فلنترك الحديث للمستشرق الفرنسي ( رينو ) ليسوق لنا خبر تلك المعركة .
    قال ( رينو ) :-
    "لما أصبح النصر قاب قوسين من المسلمين أو أدنى ، هبَّ ( دوق أوكتانية ) يستنفر لحربهم البلاد والعباد .
    وأرسل رسله فطافوا أوروبا من أقصاها إلى أقصاها .
    وأنذروا مُلُوكها وأمراءها باحتلال ديارهم ، وسَبيْ نسائهم وَوِلدانهم .
    فلم يبق شعب في أوروبا إلا أسهم معه بأشد مقاتليه بأساً ، وأكثرهم عدداً ...
    وقد بلغ من وفرة الجيش ، وعنف حركته ، وثقل وطأته ، ما لم تعرف له الدنيا نظيراً له من قبل . . . حتى أن الغبار المتطاير تحت أقدامه قد حجب عن منطقة ( الرُّون [RHONE:نهر في سويسرا وفرنسا 812 كم من أغزر أنهار فرنسا ، يروي جينيف ، وليون LYON ، وفالنس ، وفاينيون ، وآرل ARLES ويصب في المتوسط غرب مرسيليا]) عين الشمس .
    ولما تدانى الجمعان خُيل للناس أن الجبال تلاقي الجبال ، ثم دارت بين الفريقين رحى معركة ضروس لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل .
    وكان السمح أو ( ذاما ) كما كنا نسميه ، يَظهر أمام جنودنا في كل مكان .
    ويتواثب أمام عسكره في كل اتجاه .
    وفيما هو كذلك أصابته رميةٌ من سهم ، فخر صريعاً عن جواده .
    فلما رآه المسلمون مجندلاً فوق الثرى ، فتَّ الموقف في عضدهم ...
    وبدأت صفوفهم تتداعى ...
    وأصبح في وسع جيشنا الجرار أن يبيدهم عن بكرة أبيهم ...
    لولا أن تتدراكتهم العناية الربانية بقائد عبقري عرفته أوروبا فيما بعد ، هو عبد الرحمن الغافقي .
    فتولَّى أمر انسحابهم بأقل قدر من الخسائر ، وعاد بهم إلى أسبانيا .
    لكنه عقد العزم على أن يعيد الكرَّة علينا من جديد ..."


    * * *


    وبعدُ ...
    فهل رأيت الغيوم كيف تنقشع عن البدر في الليلة الظلماء .
    فيستضيء بنوره التائهون ...
    ويهتدي بسناه الحيارى ؟ .
    هكـذا انقشعت معركة ( تُولُوزَ ) عن بطل الإسلام الفـذ عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي ...
    وهل أبصرت العِطَاش المُوفِين على الهلاك في جوف الصحراء كيف يلوح لهم الماء .
    فَيَمُدُون أيبديهم إليه .. ليغترفوا منه غرفة تَرُدُ إليهم الحياة ؟ .
    هكذا مد جند المسلمين أيديهم إلى القائد العظيم ينشدون عنده النجاة ... ويبايعونه على السمع والطاعة ...
    ولا غرو فقد كانت معركة ( تولوز ) أول جرح غائر أُصيب به المسلمون منذ وطئت أقدامهم أوروبا .
    وكان عبد الرحمن الغافقي بَلْسَم هذا الجرح ...
    واليد الحانية التي أحاطته بالعناية والرعاية ...
    والقلب الكبير الذي أفاض عليه الحنان ...


    * * *


    أَرْمَضَت أنباء النكسة الكبرى التي مُنِيَ بها المسلمون في فرنسا فؤاد الخليفة في دمشق .
    وأجَّج مصـرع البطل الكميِّ السمح بن مالك الخولاني في صدرها نارَ الحمية للأخذ بالثأر .
    فأصدرَت أوامرها بإقرار الجند على مبايعتهم لعبد الرحمن الغافقي ..
    وعهدَت إليه بإمارة الأندلس من أقصاها إلى أقصاها ..
    وضمَّت إليه ما جاورها من الأراضي الفرنسية المفتوحة .
    وأطلقت يده في العمل كيفما يشاء .
    لا غرو فقد كان الغافقي حازماً صارماً ، تقياً نقياً .. حكيماً مقداماً ...


    ***


    بادر عبد الرحمن الغافقي منذ أسندت إليه إمارة الأندلس ، يعمل على استعادة ثقة الجند بأنفسهم ...
    واسترداد شعورهم بالعزة ، والقوة والغَلَبِ .
    وتحقيق الهدف الكبير الذي طمح إليه قادة المسلمين في الأندلس .
    ابتداء من موسى بن نصير [فاتح المغرب الأقصى والأندلس] ..
    وانتهاءً بالسمح بن مالك الخولاني .
    فلقد انعقدت همم هؤلاء الأبطال على الانطلاق من فرنسا إلى إيطاليا و ألمانيا .
    والإفضاء منهما إلى القسطنطينية .
    وجعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية ، وتسميته ببحر الشام ..
    بدلاً من بحر الروم ...


    * * *


    لكنَّ عبد الرحمن الغافقي كان يوقن بأنَّ الإعداد للمعارك الكبرى إنما يبدأ بإصلاح النفوس .. وتزكيتها ....
    ويعتقد أنه ما من أمةٍ تستطيع أن تحقق غاياتِها في النصر إذا كانت حُصُونُها مصدَّعة .. مهددة من الداخل ...
    لذلك هبَّ يطوف بلاد الأندلس بلداً إثر بلد ، ويأمر المنادين أن ينادوا في الناس :-
    من كانت له مظلمةٌ عند والٍ من الولاة .. أو قاضٍ من القضاة .. أو أحد من الناس فليرفعها إلى الأمير .
    وأنَّه لا فرق في ذلك بين المسلمين وغيرِهم من المعاهدين .
    ثمَّ طفق ينظر في المظالم مظلمةً مظلمةًَ .
    فيقتص للضعيف من القويّ .... ويأخذ للمظلوم من الظالم .
    ثم يجعل يحقق في أمر الكنائس المُغتَصَبَة ، والمستحدثة .
    فَيَرُدُ ما قضت به العهود إلى أصحابه ...
    ويَهدم ما بُنِيَ منها بالرِّشوة ...
    ثم نظر في أمر عماله واحداً واحداً ....
    فعَزَلَ من ثبتت لديه خيانتُهُ وانحرافُُهُ ...
    وولّى مكانه من استوثق من حِكْمَتِهِ ، وحنكته وصلاحه .
    وكان كلما أمَّ بلداً من البلدان دعا الناس إلى صلاة جامعة ، ثُم وقف فيهم خطيباً ، وانطلق يَحُضُّهم على الجهاد ...
    ويُرَغِبهم في الاستشهاد ...
    ويُمنيهم برضوان الله ، والفوز بثوابه .
    وقد قرن عبد الرحمن القول بالفعل ، ودعَّم الآمال بالأعمال .
    فطفق منذ اللحظة الأولى لولايته ، يعد العتاد ، ويستكمل السلاح .
    ويُرمِّم المعاقل ، ويبني الحصون .
    ويشيد الجسور ، ويُقيم القناطر ...
    وكان من أعظم ما بناه قنطره ( قرطبة ) عاصمة الأندلس .
    وقد شادها على نهر ( قرطبة ) العظيم ، ليعبر عليها الناس والجند ...
    وتَقي البلاد ، وتصون العباد من شر الفيضان .
    وتُعَدُّ هذه القنطرة من أعاجيب الدنيا .
    فقد بلغ طولها ثمانِمِائة باع ...
    وارتفاعها ستين باعاً ....
    وعرضها عشرين ...
    وبلغ عدد حناياها [أقواسها]ثماني عشرة حنيَّة ...
    وعدد أبراجها تسعة عشر بُرجاً ...
    وهي ما تزال قائمة تنعم بها إسبانيا حتى يومنا هذا ...


    * * *


    وقد دأب عبد الرحمن الغافقي على الاجتماع بقادة الجند ووجوه القوم في كل بلد يَحُلُّه .
    وكان يُنصت بجوارحه إلى كل ما يقولون ...
    ويُدون جميع ما يقترحون ...
    ويتملَّى من سائر ما ينصحون .
    وقد أخذ نفسه في هذه المجالس بأن يسمع كثيراً ، وأن يتكلم قليلاً .
    وكما كان يلتقي الغافقي بأعيان المسلمين ...
    فقد كان يجتمع مع كبار أهل الذمة من المعاهدين .
    وكثيراً ما كان يُسائلهم عما خفِيَ عليه من أمور بلادهم ، وما يشغل باله من أحوال ملوكهم وقَوَّادِهِم ..


    * * *


    وفي ذات مرة استدعى أحد كبار المعاهدين من أبناء فرنسا ، وأدار معه حديثاً متشعباً ثم قال له :-
    ما بال ملككم الأكبر "شارل" لا يتصدى لِحربنا ...
    ولا ينصر ملوك المقاطعات علينا ؟!.
    فقال : أيها الأمير ...
    إنكم وفيتم لنا بما عاهدتمونا عليه ، فمن حقكم علينا أن نصدقُكُم القول فيما تسألوننا عنه ...
    إن قائدكم الكبير موسى بن نصير قد أحكم قبضته على إسبانيا كلها ، ثم طَمَحَت همّته لأن يجتاز جبال ( البِرنِيه ) التي تفصل بين ديار الأندلس وبلادنا الجميلة .
    فَجَفَلَ ملوك المقاطعات وقسسها إلى ملكنا الأعظم ، وقالوا له :
    ما هذا الخزي الذي لصق بنا وبحفدتنا أبد الدهر أيُّها الملك ؟!.
    فلقد كنا نسمع بالمسلمين سماعاً ...
    ونخاف وثبتهم علينا من جهة مشرق الشمس ، وها هم أُولاء قد جاءُونا الآن من مغربها ...
    فاستولوا على إسبانيا كلِّها ، وامتلكوا ما فيها من العُدَّة والعتاد ، واعتلوا قمم الجبال التي تفصل بيننا وبينهم .
    مع أن عددهم قليل ...
    وسلاحهم هزيل ...
    وأكثرهم لا يمتلك دِرعاً تقيه ضربات السيوف ، أو جواداً يمتطيه إلى ساحات القتال .
    فقال لهم الملك :
    لقد فكرت فيما عنَّ على بالكم كثيراً ...
    وأمعنت النظر فيه طويلاً .
    فرأيت ألا نتعرض لهؤلاء القوم في وثبتهم هذه ، فإنهم الآن كالسيل الجارف يقتلع كل ما يعترض طريقه ، ويحتمله معه ، ويُلقى به حيث يشاء .
    ووجدت أنهم قوم لهم عقيدة ونية ، تُغنيان عن كثرة العدد ، ووفرة العُدَدِ ...
    ولهم إيمان ، وصدق ، يقومان مقام الدروع ، والخيول ...
    ولكن أمهلوهم حتى تمتلي أيديهم من الغنائم ..
    ويتخذوا لأنفسهم الدُّور والقصور ...
    ويستكثروا من الإماء والخدم ...
    ويتنافسوا فيما بينهم على الرئاسة ...
    فعند ذلك تتمكنون منهم بأيسر السبل ، وأقل الجهد .

    فأطرق عبد الرحمن إطراقة حزينة ، وتنهَّد تنهَّداً عميقاً ، وفضَّ المجلس وقال :
    حي على الصلاة ، فقد اقترب وقتها .


    * * *


    لبث عبد الرحمن الغافقي عامين كاملين يُعِدُ العُدةَ للغزو الكبير ...
    فكتَّبَ الكتائب ، وعبَّأ الجنود ...
    وشَحَذَ الهمم ، وعَمَّرَ القلوب ...
    واستنجد بأمير إفريقية فأمدَّهُ بنخبة من الجند ، يتلظَّون شوقاً إلى الجهاد ...
    ويتحرَّقون لهفةً على الاستشهاد ...
    ثم أرسل إلى عثمان بن أبي نُسْعَةَ أمير الثغور بأن يُشاغِل الثغور بغاراته إلى أنْ يقْدَم عليه هو بجمهرة الجيش .
    لكنَّ عثمان هذا كان ينضوي على ضغينة لكل أمير بعيد الهمَّة عظيم الطموح ، يُقْدِمُ على عمل كبير يَرْفَع ذكره في الأنام ، ويُخمل غيره من الولاة والعمَّال .
    أضف إلى ذلك أنَّه قد ظفر في أحدى غاراته السابقة على فرنسا بابْنَة ( دوق أوكتانية ) وتدعى ( مينينَ ) .
    وكانت ( مينينُ ) هذه فتاةً ريَّانة الشباب ، بارعة الجمال .
    قد جمعت إلى فتنة الحُسْن عِزَّة الملك ...
    ومَزجت بين رونق الصِّبا ودلال بنات القصور .
    فشغفت فؤاده حُبْاً ، وهام بها وجداً ، وحَظيَتْ عنده كما لم تحظ زوجة .
    وقد زينت له أن يُهادن أباها ، فعقد معه معاهدة .. أمَّنهُ فيها من غارات المسلمين على مقاطعته التي كانت تُتَاخم الثغور الأندلسية .
    فلما جاءه أمر عبد الرحمن الغافقي بالزحف على بلاد حَمِيهِ ( دوق أوكتانية ) سُقِطَ في يده ...
    وبات حَيْران لا يدري ماذا يفعل ؟.
    لكنَّه ما لبث فكتب إلى الأمير الغافقي يُراجعه فيما أمره به ، ويقول له :-
    إنه لا يستطيع أن يَخْفِرَ عهد ( دوق أوكتانية ) قبل انقضاء أجله ...
    فاستشاط عبد الرحمن الغافقي منه غضباً ...
    وبعث إليه يقول :
    إنَّ العهد الذي قطعته للفرنجة دون عهد أميرك لا يُلْزِمُهُ ، ولا يُلزم جيوش المسلمين بشيء .
    وإن عليك أن تبادر إلى إنفاذ ما أمرتك به دون تردد أو تلكؤ .....
    فلما يئس ابن أبي نُسْعَة من حمل الأمير على الإقلاع عن عزمه ، بعث إلى حميه رسولاً يُخْبِرَهُ بما جرى .
    ويدعوه لأن يأخذ حِذره ....


    * * *


    لكنَّ عيون عبد الرحمن الغافقي كانت ترصد حركات ابن أبي نُسْعَة وسكناته .... فنقلت إلى الأمير أخبار اتصاله مع العدو .
    فبادر الغافقي وجهّز كتيبة اختار رجالها من ذَوِي الشِّدَة والبأس ....
    وعقد لوائها لمُجاهد من الكُمَاة المجرَّبين ..
    وأمره بأن يأتي بعثمان بن أبي نُسْعَة حياً أو ميتاً .
    باغتت الكتيبة ابن أبي نُسْعَة وأوشكت أن تظفر به لولا أنَّه نَذِرَ بها[وقف على أمرها وعلِمه] في آخر لحظة ..
    ففرَّ إلى الجبال يصحبه عدَدٌ من رجاله ...
    ومعه زوجته الحسناء ( مينين ) التي كان لا يفارقها أبداً ولا يرى الدنيا إلى بها .
    فَمَضَت الكتيبة في إثره ، وأحاطت به وبمن معه .
    فدافع عن نفسه وعن زوجته دِفاع الأسد عن شِبلهِ ...
    وظلَّ يناضل دُونها حتَّى سَقَطَ قتيلاً ...
    وفي جسمه ما لا يحصى من ضربات السيوف ، وطعنات الرِّماح .....
    فاحتَزَّ الجنود رأسه ، وحملوه مع الأميرة الحسناء إلى عبد الرحمن الغافقي .
    فلمَّا صارت بين يديه ورأى جمالها الباهر ، غَضَّ من طرْفِهِ ....
    وأشاح عنها بوجهِهِ ...
    ثم أرسلها هدية إلى دار الخلافة ...
    فانتهت حياة الأميرة الفرنسية الحسناء في حرم الخليفة الأمويِّ في دمشق
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    الصورة الرمزية عدنان أحمد البحيصي شهيد العدوان على غزة 2008/12/27
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    الدولة : بلد الرباط (فلسطين)
    العمر : 41
    المشاركات : 6,717
    المواضيع : 686
    الردود : 6717
    المعدل اليومي : 0.87

    افتراضي

    قال الشاعر الإنكليزي " سوذي " يصف جيوش المسلمين التي غزت أوروبا بعد فتح الأندلس :-

    ( جُمُوعٌ لا تُحْصَى ...

    من عرب ، وبربر ، وروم خوارج ....

    وفُرْس ، وقبط ، وتتر ، قد انضووا جميعاً تحت لواء واحد ...

    يجمعهم إيمان ثائر ، راسخ الفُتُوُّة ....

    وحَمِيِّةٌ مُتَلَظِّيَةٌ كالشَّرَر ، وأخوةٌ مذهلة لا تفرق بين البشر ...

    * * *

    ولم يكن قادتهم أقل ثقة منهم بالنصر بعد أن ثَمِلُوا بحُمَيَّا الظَّفر ...

    واختالوا بتلك القوة القوية التي لا يقف أمامها شيء ....

    وأيقنوا أن جيوشهم لا يُمكن أن يُــلِــم بها الكَلال ...

    فهي دائماً فتــيَّــةٌ مَشبوبةٌ كما انطلقت أول مرة ...

    وآمنوا بأنها حيثما تحركت مشى في ركابها النصر والغلب ....

    وأنها ستندفع دائماً إلى الأمام ....

    حتى يُصبح الغرب المغلوب كالشرق ....

    يُطَأْطىء الرَّأس إجلالاً لاسم مُحمد ...

    وحتى ينهض الحاج من أقاصي المتجمد ...

    إلى أن يطأ بأقدام الإيمان الرِّمال المُحْرقة ....

    المنتثرة على صحراء العرب ....

    ويقف فوق صخور مكة الصَّلْدة .... )

    * * *

    لم تكن أيها الشاعر بعيداً عن الحقيقة .

    أو هائماً في أودية الخيال في كثير مما قلت .

    فقد كانت الجيوش التـي قادها المجاهدون لإخراج آبائِك من جاهليتهم الجهلاء كما وَصَفْتَ ...

    ففيها عرب أقوياءُ بالله هَبُّوا إليكم .

    من الشام ...

    من الحجاز ...

    من نجد ...

    من اليمن ...

    من كل مكان من جزيرة العرب ...

    كما تَهُبُّ الريحُ المرسلة .

    وفيها بربر أَعِزَةٌ بالإسلام تدفقوا عليكم من فوق جبال الأطلس كما يتدَّفق السيل العَرِم ..

    وفيها فُرسٌ عافت عقولهم وثنية الأكاسرة ، وفاءت إلى دين التوحيد ...

    وصراط العزيز الحميد .

    وفيها رومٌ خوارج ، كما قلت ...

    ولكنهم خرجوا على الظلم ، والظلمات ...

    وانحازوا إلى نور السماوات والأرض ...

    وهُدُوا إلى دين القيِّمة .

    وفيها قِبْطٌ رَفَعوا عن رِقَابِهِمْ نِــيــرَ العُبُودِيَّــةِ لِلْقَــيَـــاصِـــرَة .

    ليعيشوا كما ولدتهم أمهاتهم أحراراً في أكناف الإسلام ....

    نعم ... لقد كان الجيش الذي قاده عبد الرحمن الغافقي وأسلافه لإنقاذ أجدادك من الجاهلية ... فيه الأبيض والأسود ، والعربي والأعجميُّ .

    لكنهم انصهروا جميعاً في بوتقة الإسلام ...

    فأصبحوا بنعمة الله إخواناً .

    وقد كان هَمُّهُمْ - كما ذكرت - أن يُدْخِلُوا الغرب في دين الله كما أدخلوا الشرق من قبل ...

    وأن يجعلوا البشرية كُلَّها تُطأطىء الرَّأس لإله الناس .

    وأن يعُم نور الإسلام بِــطَـــاحكم وأوديتكم .

    وأن تشرق شمسه في كل بيت من بيوتكم .

    وأن يُسَـــوِّي عدْله بين مُلُوكم وسُوقَتِكُمْ .

    وكانوا قد عزموا على أن يدفعوا أرواحهم ثمناً لهدايتكم إلى الله ...

    وإنقاذكم من النار ....

    * * *

    وبعد .... فإليكم القصة الأخيرة لهذا الجيش .

    وخبر بطله الفذِّ عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي .

    تناهت إلى " دوق أُكتَانْية " الأخبار المفزعة عن مصرع صِهره عثمان بن أبي نُسعة .

    وبلغته أنباء النهاية الحزينة التي صارت إليها ابنته الحسناء " مينين " ....

    فأدرك أن طبول الحرب قد دَقَّتْ ...

    وأيقن أن أسد الإسلام عبد الرحمن الغافقي مُمْسِ في دياره ، أو مُصْبِح ....

    فتأهبَّ للدفاع عن كل شبر من أرضه دفاع المستميت .

    واستعدَّ للنِّضال دون نفسه ومملكته ، استعداد المُسْتَبْسِل ...

    فقد كان يخشى أن يُساق هو الآخر أسيراً إلى دار الخلافة في الشام كما سيقت ابنتُهُ .

    أو أن يُحمل رأسه على طبق ، ويُطاف به في أسواق دمشق كما طِيفَ برأس " لُذَرِيقَ " ملك أسبانيا من قبل .

    * * *

    لم يُكذَِّب عبد الرحمن الغافقي ظنَّ الدُّوق ...

    فانطلق بجيشه اللجب من شمال الأندلس كما ينطلق الإعصار .

    وانصبَّ على جنوب فرنسا من فوق جبال " البِرِنِيهْ " كما يَنْصَبُّ السيل .

    وكانت عِدَّةُ جيشه مائة ألف مجاهد .

    بين جوانح كل منهم قلب أسد ....

    وفي عُرُوقِهِ عزمَةُ مارد ...

    * * *



    يَمَّمَ الجيش الإسلامي وجْهه شطر مدينة " آرل " [ Arles: مدينة في جنوب فرنسا على نهر الرون شمالي مرسيليا] الواقعة على ضفاف نهر " الرُّون "

    فلقد كان له معها حساب ...

    ذلك أنَّ " آرل " هذه كانت قد صالحت المسلمين على أن تدفع لهم الجزية .

    فلمَّا استشهد ( السمح بن مالك الخولانيُّ ) في معركة " تولوز " [Toulouse : مدينة في جنوب فرنسا على نهر الغارون وهي قاعدة محافظة غارون العليا ] وتضعضع المسلمون لمصرعه ، نبذ أهل " آرل " الطاعة ، ونكثوا العهد ، وامتنعوا عن دفع الجزية .

    ولمَّا بلغ عبد الرحمن الغافقي ضواحي المدينة ، وجد أنَّ " أَودَ " " دُوقَ أكتانية " قد عبأ قواته الكثيفة عندها .

    وَحَشَدَهَا حول تُخُومها ...

    وتصَّدى لرد الزحف الإسلامي عليها ...

    ثُمَّ ما لبث أن التقى الجيشان وجهاً لوجه .

    ودارت بين الفريقين معركة طَحُونٌ ...

    قذَفَ خلالها عبد الرحمن الغافقي بكتائب من جيشه تُحِبُّ الموت أكثر ممَّا يُحبُّ أعداؤها الحياة ، فزلزل أقدام العدو .... ومزَّقَ صُفُوفَهُ ...

    ودخل المدينة في هذه المرّة حرباً ...

    فأعمل السيف في رقاب أهلها ..

    وأثخن فيهم إثخاناً ..

    وغنم منهم غنائم عزَّت على الحصر ..

    أما الدوق " أود " فقد فرَّ بمن بقي حيّاً من جنوده ...

    وطفق يُعِدُّ العُدة للقاء آخر من جيوش المسلمين ..

    فقد كان يعلم أن معركة " آرل " كانت بداية الطريق ، وليست نهايته .

    * * *

    عَـبَــرَ عبدُ الرحمن الغافقي بجيشه الجرَّار نهر " الجارون " ، وطفقت كتائبه الظافرة تجُوسُ مقاطعة أوكتانية ذات اليمين ، وذات الشمال .

    وأخذت المدن والقرى تتساقط تحت سنابك خيْله كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف إذا هبَّتْ عليها الرياح الهُوجُ .

    وأضاف المسلمون إلى غنائمهم السابقة غنائم لاحقة لم ترها عيْنٌ من قبل ...

    ولم تسمع بها أُذُنٌ ...

    وقد حاول دوق " أُكتانية " أن يتصدى لهذا الزحف الكبير مرة أخرى فاشتبك مع المسلمين في معركة ضروس .

    لكنَّ المسلمين ما لبثوا أن هزموه هزيمة طاحنة ...

    وأنزلوا به نكبة ساحقة مُدَمِّرة ...

    ومزَّقوا جيشه شر ممزَّق ...

    وتركوا جيشه بين قتيل ، وأسير ، وهَزِيم ..

    * * *

    ثم اتجه المسلمون إلى مدينة " بوردو " كبرى المدن الإفرنسية آنذاك ، وعاصمة مقاطعة " أُكتانية " .

    وخاضوا مع أميرها معركة لا تقل هوْلاً عن المعارك السابقة ...

    استبسل فيها المهاجمون والمدافعون استبسالاً يُثير العجب والإعجاب ...

    لكنَّ المدينة الكبيرة الخطيرة ما لبثت أن سقطت في أيدي المسلمين كما سقطت أخواتُها من قبل .

    وما لبث أميرها أن قُتل في جملة القتلى .

    وأحرز المسلمون من غنائم " بوردو " ما هَوَّن في أعينهم كل ما أحرزوه من غنائم .

    وقد كان سقوط " بوردو " في أيدي المسلمين فاتحةً لسقوط مدن أخرى كثيرة خطيرة .

    أهمُّها " ليون " و " بيزانسُون " و " سانس SENS " .

    * * *

    اهتزَّت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها لِسُقُوط نصف فرنسا الجنوبي كله في يدي عبد الرحمن الغافقي خلال بضعة أشهر ....

    وفتح الفرنجة أعينهم على الخطر الداهم .

    ودبَّ الصريخ في كل مكان يدعو العجزة والقادرين إلى الوقوف في وجه هذا الهوْل القادم من الشَّرق .

    ويَحُضُّهُمْ على التَّصَدِّي له بالصدور إذا عزَّت السيوف .

    ويدعوهم إلى سدِّ الطريق أمامه بالأجساد إذا انعدم العَــتَاد ..

    فاستجابت أوروبا لدعوة الدَّاعي ..

    وأقبل الناس على الانضواء تحت لواء " شارل مارتل " ومعهم الشَّجر ، والحَجَر ، والشَّوك ، والسِّلاح .

    * * *

    كان الجيش الإسلامي آنذاك قدْ بلغ مدينة " تُورَ TOURS " طليعةَ مدنِ فرنسا وَفْرَةً في السكان ، وقُوَّةً في البُنْيَان ، وعراقة في التَّاريخ ....

    وكانت المدينة - فوق ذلك - تختال على أكثر مدن " أوروبا " بكنيستها الفخْمة ، الضخمة ، العامرة بجليل الأعلاق [الآثار القديمة ، النفيسة الثمينة ] ، وكريم النَّفائس .

    فأحاط بها المسلمون إحاطة الغُلِّ بالعُنُق ....

    وانصبُّوا عليها انْصباب المنون إذا جاء الأجل ...

    واسترخصوا في سبيل افتتاحها الأرواح والمُهَج ...

    فما لبثت أن سقطت بين أيديهم على مرأى " شارل مارتل " وَمَسْمَعِه ....

    * * *

    وفي العشر الأخير من شهر شعبان سنة أربعٍ ومائة للهجرة ، زحف عبد الرحمن الغافقي بجيشه اللجب على مدينة " بُوَاتْييه POITIERS " ..

    وهناك التقى مع جيوش أوروبا الجرَّارَة بقيادة " شارل مارتل " ..

    ووقعت بين الفريقين إحدى المعارك الفاصلة لا في تاريخ المُسلمين والفِرنجة فحسب ..

    وإنما في تاريخ البشريَّة كُلِّها .

    وقد عُرِفَتْ هذه المعركة بمعركة ( بَلاطِ الشُّهَدَاءِ ) .

    * * *

    كان الجيش الإسلامي يومئذ في ذروة انتصاراته الباهرة .

    لكنَّ كاهله كان مُثقلاً بتلك الغنائم التي انْصبَّت عليه انصِباب الغيْث ....

    وتكدَّست في أيدي جُنُوده تكدُّس السُّحب ...

    وقد نظر عبد الرحمن الغافقي إلى هذه الثروة الطائلة الهائلة نظرة قلق وإشفاقٍ .

    وتوجَّس منها خيفةً على المسلمين .

    فقد كان لا يأمن أن تَشْغَلَ هذه النَّفائس قُلُوبَهم عند اللِّقاء ..

    وأن توزِّع نفوسهم في لحظات البأس ...

    وأن تجعل إحدى عيْني الواحد منهم على العدو المُقبل عليه ...

    وعيْنه الأخرى على الغنائم التي في يديه ...

    ولقد همَّ بأن يأمر جُنُودَه بالتَّخلص من هذه الثروات الطائلة الهائلة ...

    ولكنَّه خشي ألَّا تطيب قلوبهم بذلك القرار الخطير ....

    وألَّا تسمح نُفُوسهم بالتَّخلي عن هذا الكنز الثمين .

    فلم يجد وسيلة خيراً من أن يجمع هذه الغنائم في مخيمات خاصَّة ...

    وأن يجعلها وراء المُعسكر قبل إنشاب القتال [إثارة الحرب] .

    * * *

    وقف الجيشان الكبيران بضعة أيام كلٌّ منهما قُبَالة الآخر في سكون ، وتَرَقُّب وصمت ، كما تقف سلسلتان من الجبال إحداهما في وجْه الأُخرى ...

    فقد كان كلٌّ من الجيشين يخشى بأس عدُوِّه ، ويحسبُ للقائِهِ ألْف حِسَاب .

    فلمَّا طال الوقت على هذه الحال ، ووجد عبد الرحمن الغافقي مراجل الحمِيَّة والإقدام تغلي في صدور رجاله ، آثر أن يكون هو البادىء بالهجوم مُعْتمداً على مناقب جُنْدِهِ [مزاياهم وخصائصهم] ...

    مُتفائلاً بحُسْن طالعه في النَّصر .

    * * *

    انقضَّ عبد الرحمن الغافقي بفُــرْسانه على صفوف الفرنجة انقضاض الأسود الكاسرة .

    وصمد لهم الفرنجة صُمُود الأطواد الرَّاسخة [الجبال] .

    وانقضى اليوم الأول من أيَّام المعركة دون أن ترجح فيه كَفَّةٌ على كَفَّةٍ ...

    ولم يحجز بين المتقاتلين غير هبوط الظلام على ميدان القتال ...

    ثمَّ تجدَّد النِّزال في اليوم التالي ، وحمَلَ المسلمون على الفرنجة حملات باسلةً ، ولكنهم لم ينالوا منهم وَطَراً [بُغية] .

    وظلَّت المعركة تدور على هذه الحال سبعة أيام طويلةً ثقيلةً.

    فلما كان اليوم الثامن كَـرَّ المسلمون على عدوهم كرَّةً واحدة .

    ففتحوا في صفوفه ثُغْرةً كبيرة لاح لهم من خلالها النصر كما يلوح ضوءُ الصبح من خلال الظلام .

    عند ذلك أغارت فِرقةٌ من كتائب الفِرِنجةِ على مسكرات الغنائم.

    فلما رأى المسلمون أن غنائمهم قد أوشكت أن تقع في أيدي أعدائهم .

    انكفأ [تراجع] كثير منهم لاستخلاصها منه.

    فتصدعت لذلك صفوفهم ...

    وتضعضعت جموعهم...

    وذهبت ريحهم...

    فهب القائد العظيم يعمل على رد المنكفئين ...

    ومدافعة المهاجمين ..

    وسدِّ الثغور...

    وفيما كان بطل الإسلام عبد الرحمن الغافقي يذرع أرض المعركة على صهوة جواده الأشهب جيئةً وذهاباً ...

    وكرّاً وفرّاً..

    أصابه سهم نافذ فهوى عن متن فرسه كما يهوي العُــقَاب [طائر من الجوارح] من فوق قمم الجبال .

    وثوى صريعا شهيدا على أرض المعركة.

    فلما رأى المسلمون ذلك عمهم الذعر وسادهم الاضطراب .

    واشتدت عليهم وطأة العدو ، ولم يوقف بأسَه عنهم إلا حلولُ الظلام.


    * * *


    فلما أصبح الصبح وجد " شارل مارتل " أن المسلمين قد انسحبوا من " بُواتْيِيهْ "..

    فلم يجرؤ على مطاردتهم ...

    ولو طاردهم لأفناهم .

    ذلك أنه خشي أن يكون انسحابهم مكيدة من مكائد الحرب دُبِّرت في ليلٍ ...

    فآثر البقاء في مواقعه مكتفيا بذلك النصر الكبير .

    لقد كان يوم بلاط الشهداء يوما حاسما في التاريخ .

    أضاع فيه المسلمون أملاً من أعز الآمال ...

    وفقدوا خلاله بطلا من أعظم الأبطال ...

    وتكررت فيه مأساة يوم " أُحُدْ "...

    سُنَّة الله في خلقه ...

    ولن تجد لسنة الله تبديلا ...


    * * *


    هزَّت أنباء فاجعة يومِ بلاطِ الشهداء نفوسَ المسلمين في كل مكان هزاً عنيفاً...

    وزُلزِلت لهولها أفئدتهم زلزالا شديدا ...

    وعَمَّ الحزنُ بسببها كلَّ مدينة وكلَّ قرية وكلَّ بيت.

    وما زال جرحُها الممِضُّ ينزفُ من قلوبهمْ دماً حتى اليوم.

    وسيظل ينزف ما بقي على ظهر الأرض مسلمٌ.


    * * *


    ولا تحسبنَّ أن هذا الجرح العَميق الغائر قد أمَضَّ أفئدة المسلمين وحدهم.

    وإنما شاركهم في ذلك طائفةٌ من عقلاء الفرنجة .

    رأوا في انتصار أجدادهم على المسلمين في " بواتييه " مصيبة كبرى رُزِئت بها الإنسانيةُ.

    وخسارةً عظمى أصابت " أوُرُبَّا " في صميمها ...

    ونكبةً جُلَّى نُكبت بها الحضارة .



    وإذا شئت أن تقف على رأي بعض هؤلاء في فجيعة بلاط الشهداء فاستمع إلى " هنري دي شامبون " مديرِ مَجلةِ " ريفي بارلمِنْتِير " الفَرَنْسِية حيث قال :

    ( لولا انتصار جيش " شارل مارتل " الهمجيِّ على العرب المسلمين في " فرنسا " لما وقعت بلادنا في ظلمات القرون الوسطى [وهي القرون المظلمة التي امتدت من سنة 476 إلى سنة 1500]...

    ولَمَــا أصيبت بفظائعها ..

    ولا كابدت المذابحَ الأهلية التي دفع إليها التعصُّبُ الديني المذهبي ...

    نعم ، لولا ذلك الانتصار الوحشيُّ على المسلمين في " بواتييه " لظلَّت " إِسبانيا " تنعم بسماحة الإسلام .

    ولَـنَــجتْ من وصمة محاكم التفتيش [هي المحاكم التي عقدها فرديناند والملكة إيزابيلا للمسلمين في الأندلس وارتكبا فيها من الجرائم الإنسانية ما يندى له جبين التاريخ ] .

    ولما تأخر سيرُ المدنية ثمانيةَ قرونٍ.

    ومهما اختلفت المشاعر والآراء حول انتصارنا ذاك .

    فحن مَدينون للمسلمين بكل محامد حضارتنا في العلم ، والفن ، والصناعة .

    مدعُوُّون لأن نعترف بأنهم كانوا مثالَ الكمال البشري .

    في الوقت الذي كنا فيه مثالَ الهمَجية .

    وافتراءٌ ما ندَّعيه اليوم من أن الزمانَ قد استدارَ [ استدار : عاد إلى ما كان عليه ].

    وأن المسلمين وصلوا في هذا العصر إلى ما كنا عليه في العصور الوسطى ).


    من كتاب صور من حياة التابعين
    لعبد الرحمن رأفت باشا

  3. #3
    الصورة الرمزية عدنان أحمد البحيصي شهيد العدوان على غزة 2008/12/27
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    الدولة : بلد الرباط (فلسطين)
    العمر : 41
    المشاركات : 6,717
    المواضيع : 686
    الردود : 6717
    المعدل اليومي : 0.87

    افتراضي

    الإخوة الكرام

    إن الناظر للتاريخ الإسلامي يرى سيرا عطرة لرجال باعوا الأنفس من أجل أن يعز دين الله في الأرض


    والناظر لحاضر الأمة يرى _إلا في قلة قليلة_ هوانا وانتكاسا عن الدرب القويم



    فأختاروا لأنفسكم الطريق

  4. #4

  5. #5
    الصورة الرمزية عدنان أحمد البحيصي شهيد العدوان على غزة 2008/12/27
    تاريخ التسجيل : Feb 2003
    الدولة : بلد الرباط (فلسطين)
    العمر : 41
    المشاركات : 6,717
    المواضيع : 686
    الردود : 6717
    المعدل اليومي : 0.87

    افتراضي

    أخي الكريم بارك الله فيك


    لعل السيرة العطرة تتحدث عن نفسها



    وعندما يتكلم التاريخ


    ينبغي لنا أن نتعلم في صمت ونستخلص العبر


    بورك فيك

المواضيع المتشابهه

  1. ( حكاية عِطْرَة )
    بواسطة علي الزهراني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 12-06-2014, 01:46 AM
  2. باقات عطرة من حديقة الشعر
    بواسطة حاتم ناصر الشرباتي في المنتدى مُخْتَارَاتٌ شِعْرِيَّةٌ
    مشاركات: 18
    آخر مشاركة: 04-08-2012, 12:24 AM
  3. اغتسال بذكرى عطرة
    بواسطة عدنان الفضلي في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 02-02-2008, 03:44 PM
  4. تحية عطرة ..لأهل القلم ..
    بواسطة بثينة محمود في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 27-07-2003, 03:11 PM
  5. تحية عطرة
    بواسطة د. الخضاري في المنتدى الروَاقُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 05-01-2003, 12:17 AM