الثقافة العربية والمهجر
د. سمير العمري

ليس يخفى على منصف ما تمر به الثقافة العربية من أزمة حقيقية في العقود الثلاثة الأخيرة تتمثل في عدم وجود أطر واضحة ، وقائمة على قصور في الوعي بما يدور وقلة إدراك لصلته بالواقع من جهة وبالواقعية من جهة، وقياسه على المفهوم الواعي للثقافة محررة من عقدة الألفاظ المبهرة ذات المدلولات الفضفاضة، والتشدق بألفاظ أعجمية أو معجمية ونظريات مستوردة غير قابلة لاعتبارها أو لاعتمادها في قراءة ما يتصل بالمجتمع، هذه الأزمة التي أدت لما يلاحظ في شريحة تكاد تطغى على فئة المثقفين من خروج ثقافة الأفراد عن الواقع والبيئة، وترويجهم لثقافات دخيلة بتجلٍ بيّن لعقدة الدونية واستعظام الآخر، وبما يخرج بالثقافة عن كونها ابنة شرعية لبيئتها وانعكاسا لمجموع مكونات حضارة الأمة التي تحملها ، ويحيلها لهجين مرذول وحامليه، كما نرى فيمن يركبون موجتي العولمة كإطار فكري والحداثة كإطار أدبي، فيستحيلون نسخا مشوهة عن الفكر المستورد بدلا من إظهار تمايز الهوية الثقافية العربية وقدرتها على التفاعل مع غيرها من الهويات الثقافية في تبادل إيجابي هادف ومفيد.

وليس يخفى على حصيف ما أحدثه الترويج المغرض لمن اعتبرهم الإعلام رموزا ثقافية وفكرية في الأمة التي لم تعترف بهم كممثلين لها لعدم تماهيهم مع المجتمع وانعدام تقاطعهم مع اهتماماته وحاجاته الأساسية ومتطلبات كينونته، فنشأت حالة الفصل بين الثقافة والأفراد وعزل أو انعزال المثقفين وكفر القاعدة الاجتماعية بالثقافة التي تحولت في الفهم العام لحالة من الترف الذاتي لسكان أبراج الوهم والتهاويم، والمسؤولية هنا مشتركة حيث لا يمكن تبرئة المثقف الحقيقي منها لنكوصه عن القيام بدورة الجاد في مواجهة الواقع الثقافي وتقويم معوجّه، غير أن الإعلام يبقى المسؤول الأكبر عن حالة الانحطاط الثقافي التي وصلتها الأمة، لدوره في رسم ملامح الشخصية الانسانية، وأدواته إلى فكر المتلقي وقدرته على توجيه رؤيته وأدوات قراءته، بما مكنه من اصطناع نجوم أدعياء معزولين عن الهوية الثقافية بمرتكزاتها.
ويقود هذا حتميا للإشكالية الأهم في المشهد الثقافي العربي والمتمثلة بالصراع بين الانعتاق والانغلاق، فبين الانبهار المرضيّ بما هو مستورد وتقمصه حد التبعية بدعوى الانعتاق، وبين الكراهة المطلقة لما ليس موروثا، والانغلاق في وجه كل أشكال الثقافي والتبادل الحضاري، بدعوى الحرص على الهوية الثقافية، بما يعوق التطور الفكري والثقافي الذي يفترض به أن يكون نتيجة طبيعية للممارسة الثقافية، ويحول بالتالي دون مواكبة الركب الحضاري الانساني.

ولعل تناول المشهد الثقافي تقييما أو تقويما يدفع بقوة باتجاه تناول دقيق لمعنى الثقافة باعتبارها الكلي الذي لا يصح أن يبتسر كما يحصل في الخلط غير الواعي بين العالم والمثقف، فيذهب بالرؤية الواعية لكنهها ومضامينها، ولا يجوز أن يوسع فيحمل معها ما ليس منها ويبعثر بالتالي معناها ويربك مدلولها، ولعل الوقوف على المعنى الاصطلاحي للثقافة هو يلزم مراجعته والإدراك بأنها تتدرج من اعتبارها وصفا لما يمتلكه الأفراد في شريحة المبدعين وما صقلت على أساس منه شخصياتهم من إدراك واع ورؤى معرفية على تنوع ما يشتغلون به من فنون، إلى اعتبارها وصفا لمجموع العلوم والمعارف والفنون التي تتمايز بها الحضارات، وتتشكل على خلفيتها البنى الاجتماعية والمنظومات القيمية والفكرية للمجتمعات وما يتصل بها من علوم ومعارف وفنون.
والعلاقة بين جدلية المفهوم وإشكالية الفهم دائبة دائمة تتمحور عادة حول الرؤى الانطباعية للفرد والتوجه المعرفي من جهة والمنفعي من جهة أخرى بما دفع عجلة التشرذم الفكري والتشتت السلوكي إلى سرعات كبيرة تنأى بكل فصيل على حدة وتدفع كل فريق إلى تطرف في المواقف باعتماد ثقافة الإقصاء والإحلال معتمدين على عوامل عدة أهمها موازين القوى والوسائل المتاحة لتحقيق التفوق في هذا الصراع لا أقول الثقافي بل المنفعي. ولعل أبرز مظاهر هذا الصراع تتبلور في الأطروحات الفكرية والأيدولوجيات الفلسفية كقضايا العولمة والاستغراب ، وكذا في الأطروحات الأدبية والأساليب التعبيرية كالحداثة مقابل الأصالة والانعتاق مقابل الانغلاق. وهنا نجد أن كلا الطرحين يحمل ذات السمات من التطرف وتفرد التصرف بما يؤذي المشهد الثقافي العربي بشكل كبير ويغرقه في خصومات وصراعات تشغله عن العمل الثقافي المتزن والمنصف ذي الأرب وذي الطرح الموضوعي.

والمتتبع لأحداث التاريخ يدرك أن جل الصراعات البشرية والحروب قامت على أسس فرض التبعية والهيمنة على ثقافة الآخر والسيطرة على موارده وطمس هويته ، ولعل هذا يبرز جليا في عصرنا الحالي الذي يسيطر عليه قطب واحد متعدد الرؤوس فيستخدم إمكاناته وطاقاته ومخترعاته في فرض الهيمنة على هوية الآخر من خلال معلمين بارزين؛ أما الأول فهو فرض الهيمنة الثقافية من خلال ما يسمى بالحداثة وما بعد الحداثة ، وأما الثاني فهو فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية من خلال ما يسمى بالعولمة.
ومن هنا كانت الأهمية الكبيرة لتناول أصدق وأدق وأشمل لأدب المهجر وللصورة الثقافية العربية فيه بعيدا عن التناول النمطي والمجتر لحقبة القرن الماضي والتقلب بين الرابطة القلمية بأعلامها والعصبة الأندلسية والأسباب المختلفة لهذه الهجرات بين ظاهرة الاستعمار أو الحروب والفتن أو النظم المستبدة والطغيان أو أسباب شخصية بحتة. ولعل أهم أسباب تكون هذا الوعي غير الدقيق يرتكز على ثلاثة عوامل أساسية. أما العامل الثالث فهو تدني مستوى الحالة الإبداعية النقدية وزيادة الاعتمادية على محركات البحث والنسخ واللصق من مقالات محددة تتناسخ تناسخا مزعجا ومربكا. وأما العامل الثاني فهو حالة النمطية الطاغية في التعامل مع المشهد الثقافي عموما والمشهد الأدبي خصوصا فإن ذكر الشعر في عمل نقدي ركز الأدباء على المتنبي وكأن الله لم يخلق سواه ، وإلا فيكون لكل قطر عربي شاعر يروج له ويقدم واجهة أدبية كالجواهري في العراق وقباني في سوريا ودرويش في فلسطين وشوقي في مصر وهكذا ، إذ أن العقل العربي لا يزال يراوح في العمل النمطي ويميل للاتباع الثقافي أكثر من الابتداع. وأما العامل الأول فهو تلك الحالة المزمنة من النكوص الزماني والاستغراق في الماضي والاستطراق في الحاضر والفرق من المستقبل ، فالتمجيد والتقدير في الذهن العربي لا يمنح إلا لمن قضى ومضى ، ولا تجد لديهم رغبة في استشفاف أعماق الحاضر أو استشراف آفاق المستقبل برؤية منصفة وقراءة دقيقة ودعم دؤوب.

وأدب المهجر بمفهومه الاصطلاحي لا أراه إلا يمثل حقبة تاريخية مضت ولم تعد تصف الحالة الحاضرة بتوفر ظروف مغايرة واختلافات جذرية تتمثل أساسا في الثورة المعلوماتية والتقدم العلمي والإعلام ؛ ولم يعد المثقف معزولا في مهجره بل معايشا لكل الأحداث في الوطن وفي مختلف البلدان في ظل إعلام قوي ومتعدد كقنوات فضائية وشابكة إلكترونية وحديثا وسائل التواصل الاجتماعي عبر الشابكة وعبر الهاتف. وبهذا كله تصبح الثقافة عموما والأدب خصوصا كواجهة لها امتداد أو حالة تفاعلية لا تتأثر بشكل ملموس بالمكانية ولا بالزمانية بقدر تأثرها بالمنهجية والرؤى الذاتية.
ثم إن اعتبار اللفظ كاصطلاح بحاجة لمراجعة؛ ذلك أن المعنى قد لا يكون دالا في ظل وجود مصطلحات كأدب الاغتراب وأدب المنفى مطروحة إلى جانب أدب المهجر يحدد دلالتها طبيعة الحدث وتوجه الحرف وعلاقة المثقف بالوطن والموطن وحيثيات المفارقة. وربما بات الحاجة ملحة في الوقت الحاضر للبحث عن مصطلح شامل ودقيق يشمل هذه الحالات كلها أو أن يتم التعامل معه وفق منظور شامل للثقافة والأدب باعتباره جزءا أصيلا من الثقافة العربية وليست حالة منعزلة عنها أو غريبة عليها وهذا في ظني هو الأجدر بالاعتبار.

إن أهم إشكالية تتعلق بالمفهوم السائد لأدب المهجر هو في جدلية الانتماء أو الارتماء ؛ الانتماء للوطن وقضاياه وهويته أو الارتماء في أحضان الموطن والانكفاء على الذات. وظلت أهم العقبات التي تعترض سبيل التداعي الإيجابي نحو فهم لأهمية دور أدب المهجر في الريبة في مدى الولاء والانتماء باعتبار كل من ترك الوطن متهم ومجترم فلا يحظى عادة بتعامل محترم ولا يجد له مكانا في الوسط الثقافي في الوطن. هو موقف يتجاهل حقائق الحياة وفروض الواقع التي قد تدفع بحيثيات مختلفة نحو مفارقة الوطن طوعا وقسرا وأملا وألما وابتعادا واقترابا. ولعل أكثر ما يتداعى للذهن بمجرد سماع تعبير الثقافة العربية ، صورة المثقف العربي بما يعاني من تضييق ، وما تفرضه عليه من قيود واختناقات فكرية واجتماعية علاقته بالسلطة التي تتعامل مع الفكر الإبداعي بتوجس فتتجاهل موهبة المبدع وتكرس القيود الضابطة لنتاجه الفكري والإبداعي، ناهيك عن حالة الاغتراب التي يعيشها في وطنه لاتساع الهوة الفكرية والحسية بينه وبين مجتمعه بشرائحه العامة غير النخبوية، والتي تنسحب بشكل تلقائي على تفاعله وقدرته على الاندماج في أوساط النخبة الإبداعية بما تشكل لحماية نفسها من هيئات ومؤسسات مدنية وفكرية واجتماعية، لا تستطيع جميعها في ظل أنظمة تحترف التقييد منحه الفضاءات الدافعة للأداء الإبداعي من حرية وأمن وانفتاح تام على الآخر يسمح بالتلقي والتلقين في إطار عملية تثاقفية لا تكبلها المخاوف ولا تعرقلها العقبات المحبطة عقديا وقيميا وسياسيا ، ولعل خير دليل على ذلك ما تبينه التقارير الصادرة عن جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي من هجرة العقول العربية للخارج، بما بلغ أرقاما هائلة ذات دلالات تستحق وقوفا مطولا عندها، حيث تضم أمريكا وحدها نحو نصف مليون عربي من حملة الشهادات العليا، وحيث يعزف ما يزيد على خمسين بالمئة من الطلاب العرب الذين يتلقون تعليمهم العالي في الخارج عن العودة لأوطانهم.

ويعتبر الاغتراب في مقابل الهوية العنوان المؤطر لإشكالية اندماج النخب الثقافية في المهجر ، ودورها في رسم المشهد الثقافي بآثاره السياسية والاجتماعية والفكرية في الوطن كما في الدول المستضيفة، حيث لا مناص من الانطلاق هنا من فهم الهوية باعتبارها الأنا، ولا يتحقق هذا الفهم إلا بمعرفة الآخر الذي يوصل فهمه بما يشكل مما ليست الأنا عليه لتجذير فهمها لما هي عليه وبالتالي معرفة الذات والهوية، إذ لا يكون فهم الذات أبدا معزولا عن فهم الآخر لأن المفارقة بينهما تحدد واقع الأنا وترسم تطلعاتها، ولعل هذا ما كان وراء نشاط النخب الفكرية في المهجر منذ الدفعة الأولى بدايات القرن الماضي، لإنشاء مراكز ثقافية تجمعهم وطباعة صحفهم، ورسم صورتهم الثقافية الممتدة الجذور في أوطانهم ومجتمعاتهم الأصلية ، فالاغتراب عن الوطن يزيد الجذور الممتدة فيه رسوخا، بينما ترتفع الأغصان في سماء المهجر مماثلة الجذور في شكلها وطبيعتها، في محاولة لتشكيل الذات بهويتها بملامح تستقي التضاد والتمايز عن الآخر رفضا للذوبان فيه، ولعل هذا ما جعل المثقف في المهجر يعاني من حالة الاغتراب عن محيطه فيما يزعم بعض المفكرين أنه ناشئ عن عجزه عن أن يكون إنسانا كونيا متحررا من عقدة كونه ممثلا لحضارة الوطن، في مقابل حضارة الآخر الذي يعيش ضيفا لديه، وهو ما لا بد منه في الواقع لكي يصح تكليفه المباشر او غير المباشر بتمثيل الثقافة العربية واعتباره جسر التواصل الثقافي وبوابة تسويق الثقافة العربية وترويجها .

ولأن الهوية الثقافية هي المعلم الأبرز فإن دور الوطن في مساعدة أبنائه في المهجر على رسم وحماية وتكريس ملامح هويتهم الثقافية يعتبر دورا رئيسا يجدر بالنخب الثقافية في الوطن تحريكه وتوجيهه بوعي لكون الاغتراب الحسي بالبعد عن الوطن قد يكون أقل غربة في واقعه من اغتراب البعض في قلب الوطن ، بالاغتراب عن الذات وفقدان الهوية والميل للتبعية والخضوع لهيمنة الثقافات الأخرى عليهم، واستعبادهم الفكري والأيدولوجي من قبل الآخر المتغلغل في فكر وثقافة المنسلخين من أصولهم. ولعل أهم ما يجب إدراكه في هذا الإطار أن المغترب لم يفقد مواطنته بالابتعاد عن الوطن بل لعلهم أكثر التصاقا ووفاء لقضايا الوطن والأمة أكثر من بعض من يقطنها من مثقفين منكفئين على الذات أو تحركهم تبعية فكرية أو ثقافية مختلفة والواقع يؤكد أن أكثر وأصدق من يحمل القضية هم المثقفون الذين يسكنهم الوطن لا المثقفين الذين يسكنون الوطن.

ومن هنا كان من الضروري إعادة تقييم الحالة الثقافية في التعاطي مع مثقفي المهجر وتقويم المسار نحو اعتبار مثقفي المهجر جزءا أصيلا من المشهد الثقافي العربي والوطني وليس كما كان من اعتبارهم أغرابا أو دخلاء عليه. وأجد أنه لا بد من بذل جهود حقيقية فاعلة وبتعاون الأجهزة الحكومية على اختلافها والمنظمات الرسمية وغير الرسمية للبحث عن وسائل وضع سياسة استراتيجية معنية بالتنمية الثقافية تتحقق عبرها الرعاية المؤسسية للمثقفين، وخلق بيئة تمتلك رؤية أكثر اتساعا لمفهوم الثقافة تساعد على الخروج من الإطار الضيق نحو أفق أرحب من النمط الفكري والإبداعي ودور النخب الثقافية في تحقيق التغيير الاجتماعي المؤهل لتطوير القواعد الفكرية والقيمية المشكلة للمنظومة الفكرية للمجتمعات والمسؤولة بالتالي عن نهضتها والانتقال بها لمراحل مدنية وحضارية أعلى، وهو ما يستدعي حقن الثقافة العربية بشيء من الإيجابية في التعاطي مع الثقافات الأخرى بنصب الموائد الحوارية المؤهلة لخلق مثقف قادر على خوض حوار الثقافات والمساهمة فيه مؤثرا ومتأثرا بما يخدم فكرة الاستدعاء أو الاكتساب الانتخابي من ثقافة الآخر، وعرض رصيده الثقافي والحضاري بلغة وأسلوب إيجابيين قادرين على كشف جماليات معروضه وبيان مزاياه.

ويقودنا هذا للسؤال حول من هو المسؤول الفعلي عن غياب هذه الإيجابية وإلى أي مدى يمكن تحميل المثقف العربي وزرها مستقلا، لنجد أن المواقف السياسية والأيدولوجية وما تفرضه قوانين اللعبة الاقتصادية، تتحكم بشكل مباشر في عمليات الترجمة المؤهلة " بكسر الهاء" لوضع قواعد يقوم عليها فهم الآخر بجوهره وعرض جوهر الذات بعيدا عن القشور القابلة لتلوينها بفلسفات مموهة تغيب معها الحقائق، وتحقيق معادلة الأنا والآخر ودورها في ترسيخ الهوية الثقافية ونقل الصورة الحضارية للوطن بالمفهوم الشامل للثقافة كمرآة عاكسة لكل مكونات المجتمع ولكل مكنونات النفس ورؤيتها الفكرية والفلسفية. ومن هذا المنطلق يكون تعامل المثقف العربي في مواطن المهجر والاغتراب نابعا من طرح الثقافة العربية كصورة زاهية قادرة على التأثير قبل التأثر وعلى التنوير قبل التبختر وإعجاب كل ذي ثقافة بثقافته.
ولعل خير من يمثل الثقافة العربية متحررة ابتداء من أزمة الترجمة هم المثقفين العرب في المهجر، وهم يشكلون شريحة مهمة في المجتمعات التي اندمجوا فيها بجذور اختلفت درجات امتدادها عمقا في تاريخ تلك المجتمعات، تبعا لوقت انطلاقها نحوها في دفعات متعددة من الهجرة متعددة الأسباب خلال السنوات المائة الأخيرة، يضاف إليها النسبة الأهم والمتمثلة في هجرة الأدمغة العربية هربا من الاضطهاد الفكري، ومحدودية فرص الابداع العلمي والابتكار. والمثقف الأصيل في المهجر يعاني من حالة الاغتراب عن محيطه ناهيك حالة الاغتراب الأكثر إيلاما من إقصاء وتجاهل القائمين على المشهد الثقافي العربي من مؤسسات حكومية ومن منظمات مدنية ومن إعلام موجه له ولدوره. ويضاف إلى هذا دور المؤسسات الثقافية في المهجر كعنصر فاعل في خدمة المشهد الثقافي العربي بشكل يمكن الرهان عليه ، ولعل أحد أهم الأمثلة في هذا المجال هو رابطة الواحة الثقافية التي تقوم برسالة ثقافية ذات هوية أصيلة الانتماء ويمتد تأثيرها من آفاق المهجر حتى أعماق الوطن رغم محدودية المصادر وعظيم التجاهل الإعلامي لها وللقائمين عليها بما لا يمكن تفسيره ولا تبريره بحال.

ويعني هذا بالضرورة وجود مسؤولية حتمية على حكومات الدول العربية في حال كان لديها حرص حقيقي على تنمية ثقافتها وبثها أن تجتهد في تحقيق الرعاية المؤسسية للمثقفين العرب في المهجر لدعمهم وتجميعهم وتوطيد تواصلهم مع أوطانهم ومثقفيها بشكل مدروس وممنهج بعيدا عن الأنشطة الذاتية والمبادرات الفردية، إلى جانب الاهتمام بعقد لقاءات فكرية تضم المفكرين العرب في أوطانهم والمفكرين العرب في المهجر ونظرائهم الأجانب، للخروج من ما تعانيه الثقافة العربية حاليا من حصرها في الإطار الضيق. ومن ثم العمل على الدعم الإعلامي والمادي ونشر الإبداع إعلاميا وورقيا وهو ما لا بد منه في الواقع لكي يصبح تكليف مثقفي المهجر المباشر أو غير المباشر بتمثيل الثقافة العربية واعتباره جسر التواصل الثقافي وبوابة تسويق الثقافة العربية وترويجها أمرا منطقيا ودورا داعما للقضايا العربية وأثرا فاعلا في أبعاد الحضارة الإنسانية.