قراءة في رائعة القاص حسام القاضي " جرح بملامح انسان "
عندما قرأت قصة " جرح بملامح انسان " للقاص الكبير حسام القاضي , رأيت نفسي , استرجع " سيميائية العنوان في القصة القصيرة " والسيمياء هو العلم الذي يتحول معه النص , بفضل الكلمة أو العلامة أو الدلالة إلى عالم من السحر , ويتحول معها النص إلى عوالم وطلاسم لامجال لفكها سوى من خلال مقاربات قد تصيب وقد تخيب كما هو الحال في التفاعلات السيميائية
وقد أجمع الأدباء والنقّاد , على أن العنوان هو مفتاح العمل الأدبي , والخطوة الأولى في نجاح العمل , وربطوا بين ذكائية انتقاء العنوان , وبين الغرض الاستراتيجي للعمل , وعملية اختيار العنوان , هي فنّ قئم بذاته , يستدرج القارئ , ويخلق لديه إشكالية , تستحوذ على فكره ونفسه , وتدفعه لمتابعة العمل , ليخفض التوتر الفكري والنفسي , الذي حرّضه العنوان , ولعل هذا ما نلحظه في عنوان " جرح بملامح إنسان ", فهو يخلق لدى القارئ , إشكالية نفسية وفكرية واجتماعية وأدبية , بالإضافة للإشكالية الإنسانية والعاطفية ,
, ولأكون منصفا , ارى إن العنوان " جرح بملامح إنسان " قد ارتقى في الايحائية , حتى لعلي اراه نصا قصيا أدبيا قائما بذاته , يستحق القراءة الأدبية المعمّقة .
وبعد أن جعلنا العنوان , نبحر في تهيؤات لحظية مختلفة , ونسافر عبر رؤى نفسية وفكرية واجتماعية متفاوتة الأبعاد , مولّدا جرعة تحريضية كبيرة لفكر القارئ ونفسيته , جاء الدخول الرشيق للمشهد القصي , وفق توظيف مهاري متميّز للمفردات الدلالية, ليرسم اللوحة القصية الأولي , بشكل مكثّف سهل الصياغة , ومحفّز للمتابعة , معطيا الإيحاءات الأولية الهادفة للقصة :
" بخطواتها الصغيرة البريئة صعدت المنصة، وجديلتها السوداء تتأرجح على ظهر معطفها الأبيض .. أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلماً و.. "
فالخطى صغيرة , دلالة على المرحلة العمرية لبطلة القصة , وهي خطى صغيرة بريئة , وكأني افهم بأن الصغيرة لم تتدرب على المشهد , وهي غفل ليس لديها خبرة الخطوات التي يجب اتباعها في المناسبات , وربما كان هذا دليلا على الوجل والخوف , وربما كان كل هذا معا , وأما الجديلة السوداء التي تتأرجح على معطفها الأبيض , فأرى في هذا تصويرا للبنية المجتمعية التي تنتمي إليها الطفلة , وهي شريحة بسيطة , فلم يقم الأهل بتوضيب مظهر الطفلة , وقص شعرها , وتسريح الشعر وفق نموذج عصري , يلائم مستوى المناسبة , " ثم أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلما و.. " , وفي لفظة دلالية " أعطوها " , أشعرتني بعالم الفوقية , يتكرم فيعطي , إنه عالم منسلخ تماما عن عالم الطفلة , الذي يمثّل عالما دونيا , هو عالم التلقي والاستجابة , وقد تكرر استخدام اللون الأيض مرتين , سواء في معطف الطفلة , للدلالة على النقاء السلوكي , ونقاء الانتماء , ثم " لوحا ورقيا ابيضأ " , وأذهب في هنا مذهبين , وكلاهما يؤديان ما وظف لأجله اختيار اللون الأبيض , فربما كان على الطفلة أن تكتب على بياض , في حالة من الاستسلام والإقرار , أو ربما كان هذا دلالة على نقاء السريرة
ثم تأتي صرخة , تنقلنا من المشهد الوصفي , يشكل لافت "- عرفينا بنفسك "وهي عبارة توحي بمفارقة الانتماء المجتمعي , أو ربما أعطت الشعور و الإحساس بقسوة التحقق من الشخصية , وخاصة ونحن أمام طفلة , وكأني بالكاتب يريد ان يؤكد انتماء الطفلة لعالم النكرات . عالم التهميش .
وتأتي إجابة الطفلة , بشكل غير متوقع , لتجسد ثقافة الاستسلام لواقع التهميش والإهمال , سواء من خلال قولها " سألت أبي عن شهادة ميلادي , فلم يجبني , فهل تخبروني أنتم ؟ . " فالأب على مايبدو قد تقبل قدره في الانتماء إلى مجتمع التهميش , وهي حالة الحبط التي قد تسيطر على مجتمعات الحرمان والتهميش , وقبل بأن لامعنى لشهادة ولادة طفلته , فهي مجرد رقم في مجتمع الصفيح , وربما ونظرا لضعف مستواه الثقافي والإجتماعي طبعا , فهو لايعرف تاريخ ولادة الطفلة , وربما ذهبنا بعيدا , فوجدنا أن الطفلة ربما لم يجر تسجيلها , في تعداد السكان , وهذا أمر شائع في المجتمعات المهملة , وكل ما تقدم يصب في منحى واحد .
"فهل تخبروني أنتم " وكأن الطفلة تطالب بالاعتراف بها , في توجهها في السؤال إلى مجتمع السطوة ," فهل تخبروني أنتم ؟ " .وفي تراجيديا رهيبة , ينتقل بنا القاص ببراعة إلى مشهد مؤلم , وإن لبس رداء السخرية " ضجت القاعة بالضحك لحظات , ثم ساد وجوم ثقيل قطعته عريفة الحفل ," , هل الضحك استهزاء واستغراب , هل هو سخرية من طلب الطفل شهادة اعتراف بها , ويجيبنا كاتب القصة عن التساؤل من خلال قوله " ثم ساد وجوم ثقيل " في إشارة إلى الصلف في رفض الاعتراف بالطفلة وبوجودها , ورفض مجرد الانتماء للمجتمع , ثم تقطع ضابطة الإيقاع , صورة المشهد , عريفة الحفل , التي ارى فيها رمزا عميق التأثير , ربما أراد منه الكاتب أن يمثّل السلطة التنفيذية , تقطع المشهد بصلافة , وتقول " ارسمي لنا ما تحلمين به " , منهية بذلك حالة الهرج والتراخي في تقبل الحالة ,
"رسمت نفسها وسماعة الطبيب تتدلى من عنقها ... في الخلفية رسمت بيتا جميلا ذا حديقة غنّاء , وطائرا يحلق بجناحيه ."
وأي براعة قصية هذه , عندما يأتي رسم الحلم بسيطا مباشرا , يجسّد الشكل الشائع للحلم الطفولي عند بنت صغيرة , حلمها أن تكون طبيبة , ويكون لها بيت , تحقق استمرارية الحياة , وتكوين الأسرة , وحديقة غنّاء , من أجل حياة رغيدة لأسرتها ,
ولو كانت صبيا ربما اختلف الحلم , أما الطائر الذي يحلّق بجناحيه , فقد جاء دلالة على الحلم بالحرية , حلم الخلاص , والطيران بعيدا عن الواقع المرّ , عن المجتمع العبودي , مجتمع التهميش التي تنتمي إليه ,
وياتي رسم الملهاة المحزنة , بشكل لافت , فالمجتمع السطوي , يرى في الأنماط الفردية والمجتمعية , المنتمية إلى قطيع التهميش , مجتمع الكتل البشرية في بيوت الصفيح , أدوات تستخدم حيث يلزم , ضمن بروتوكولاته , وحركات النظرة والفعل التفوقي , ولإظهار حرص هذا المجتمع السطوي , على رعاية مجتمع القطيع في بيوت الصفيح , ضمن منظومة زيف إنسانية , لإرضاء النفوس المضطربة المريضة , ويأتي الزيف مبرمجا , فالتصفيق البروتوكولي , وصيحات الإعجاب , ترسم صورة التفوق والتعالي , خلال تشجيع نمطي , مثلما يشجع هذا المجتمع الخيول , أو الطيور أو حيوانات التنافس , " التهبت الأكف بالتصفيق ... انطلقت صيحات الإعجاب والتأييد ... " وتأتي براعة القاص , بملامسة المشاعر الإنسانية " وانهمرت عبرات " , وقد جاءت أخيرا في الترتيب , وهي على شكل عبرات , دلالة على التركيز على الحد الأدنى من التعبير , هي ليست دموعا أبدا , وقد ترك القاص مساحة كبيرة للخيال والمحاكمة النفسية للقارئ , عندما ترك العبرات مرسلة دون إيضاح مرجعيتها , فقد تكون من قبل بعض أفراد مجتمع السطوة , وهذا أمر يحدث , فلا يخلو مجتمع من نماذج إنسانية , أو ربما كان مرد العبرات , عيون المتابعين من أهل الطفلة , او افراد المجتمع الهامشي , في بيوت الصفيح , أو ربما المجتمع الانساني بصورة عامة , الذي تركه الكاتب دون اشارة منظورة ظاهريا , ولكنه موجود بقوة في البعد غير المنظور .
وبقسوة درامية تأتي القفلة , في توافق مذهل بين التعبير الصوري المرأي المنظور , وبين التعبير الفكري غير المنظور , يتلاقى المنظوران حينما يتم استرداد المعطف , وتترك الطفلة مع لوحتها , سقطنت الأقنعة , وانتهى توظيف الطفلة , أو بكلام أشمل انتهى توظيف مجتمع بيوت الصفيح ( الكيربي ) , بما يخدم اسباغ مسحة تجميلية على مجتمع السطوة, لتعود الطفلة من حيث أتت ., وتعود الأمور كما كانت , حالة انسلاخ , مجتمع يعيش في ضيق العيش , وحياة مليئة بالأسى والحزن والفاقة والتخلف , مجتمع بيوت الصفيح , وليس لدى الطفلة , سوى هذا المجتمع الهامشي , سوى مضغة من أحلام , وليبقى هذا المجتمع يسعى بقوة للبقاء والاستمرار , كي لايسقط نهائيا , وينتهي , أو تزداد حالته سوءا , انها نزعة التشبث بالحياة ,
ومع براعة سيمياء العنوان , ووقوفنا طويلا بإعجاب , أمام العنوان الذي قد اسلفت القول فيه , واعتبرته يمثّل نصا أدبيا , قائما بذاته , يستحق الدراسة المعمّقة , إضافة إلى الربط القوي الذي لحظناه بين العنوان والنص , ورأينا كيف أن هذا العنوان شكّل حالة تحريضية كبيرة , لنفس وفكر القارئ , وجدتني أقف طويلا مرة أخرى , أمام كيميائية النص , وهذا التوظيف البارع لكل مفردة من المفردات , ولكل جزئية من الجزئيات , في توليف متميّز , حتى شعرت بأنني لا يمكنني أن أتصوّر لفظة تحل محل لفظة من مفردات النص , أو اتخيل منظومة مفردات ترسم مشهدا يختلف عن ما هو محقق في النص , إنه لتوظيف مدهش , وتكثيف بارع , ففي التفاعل الكيميائي , لايمكن الاستغناء عن مكون , او جزئية , فكل له وظيفته .
قصة " جرح بملامح انسان " عمل ابداعي متميّز , يستحق الكثير من القراءة , كما يستحق الدراسة النقدية .
د. محمد حسن السمان