أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: قراءة في رائعة القاضي " جرح بملامح انسان " للسمان

  1. #1
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.61

    افتراضي

    قراءة في رائعة القاص حسام القاضي " جرح بملامح انسان "

    عندما قرأت قصة " جرح بملامح انسان " للقاص الكبير حسام القاضي , رأيت نفسي , استرجع " سيميائية العنوان في القصة القصيرة " والسيمياء هو العلم الذي يتحول معه النص , بفضل الكلمة أو العلامة أو الدلالة إلى عالم من السحر , ويتحول معها النص إلى عوالم وطلاسم لامجال لفكها سوى من خلال مقاربات قد تصيب وقد تخيب كما هو الحال في التفاعلات السيميائية
    وقد أجمع الأدباء والنقّاد , على أن العنوان هو مفتاح العمل الأدبي , والخطوة الأولى في نجاح العمل , وربطوا بين ذكائية انتقاء العنوان , وبين الغرض الاستراتيجي للعمل , وعملية اختيار العنوان , هي فنّ قئم بذاته , يستدرج القارئ , ويخلق لديه إشكالية , تستحوذ على فكره ونفسه , وتدفعه لمتابعة العمل , ليخفض التوتر الفكري والنفسي , الذي حرّضه العنوان , ولعل هذا ما نلحظه في عنوان " جرح بملامح إنسان ", فهو يخلق لدى القارئ , إشكالية نفسية وفكرية واجتماعية وأدبية , بالإضافة للإشكالية الإنسانية والعاطفية ,
    , ولأكون منصفا , ارى إن العنوان " جرح بملامح إنسان " قد ارتقى في الايحائية , حتى لعلي اراه نصا قصيا أدبيا قائما بذاته , يستحق القراءة الأدبية المعمّقة .
    وبعد أن جعلنا العنوان , نبحر في تهيؤات لحظية مختلفة , ونسافر عبر رؤى نفسية وفكرية واجتماعية متفاوتة الأبعاد , مولّدا جرعة تحريضية كبيرة لفكر القارئ ونفسيته , جاء الدخول الرشيق للمشهد القصي , وفق توظيف مهاري متميّز للمفردات الدلالية, ليرسم اللوحة القصية الأولي , بشكل مكثّف سهل الصياغة , ومحفّز للمتابعة , معطيا الإيحاءات الأولية الهادفة للقصة :
    " بخطواتها الصغيرة البريئة صعدت المنصة، وجديلتها السوداء تتأرجح على ظهر معطفها الأبيض .. أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلماً و.. "
    فالخطى صغيرة , دلالة على المرحلة العمرية لبطلة القصة , وهي خطى صغيرة بريئة , وكأني افهم بأن الصغيرة لم تتدرب على المشهد , وهي غفل ليس لديها خبرة الخطوات التي يجب اتباعها في المناسبات , وربما كان هذا دليلا على الوجل والخوف , وربما كان كل هذا معا , وأما الجديلة السوداء التي تتأرجح على معطفها الأبيض , فأرى في هذا تصويرا للبنية المجتمعية التي تنتمي إليها الطفلة , وهي شريحة بسيطة , فلم يقم الأهل بتوضيب مظهر الطفلة , وقص شعرها , وتسريح الشعر وفق نموذج عصري , يلائم مستوى المناسبة , " ثم أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلما و.. " , وفي لفظة دلالية " أعطوها " , أشعرتني بعالم الفوقية , يتكرم فيعطي , إنه عالم منسلخ تماما عن عالم الطفلة , الذي يمثّل عالما دونيا , هو عالم التلقي والاستجابة , وقد تكرر استخدام اللون الأيض مرتين , سواء في معطف الطفلة , للدلالة على النقاء السلوكي , ونقاء الانتماء , ثم " لوحا ورقيا ابيضأ " , وأذهب في هنا مذهبين , وكلاهما يؤديان ما وظف لأجله اختيار اللون الأبيض , فربما كان على الطفلة أن تكتب على بياض , في حالة من الاستسلام والإقرار , أو ربما كان هذا دلالة على نقاء السريرة
    ثم تأتي صرخة , تنقلنا من المشهد الوصفي , يشكل لافت "- عرفينا بنفسك "وهي عبارة توحي بمفارقة الانتماء المجتمعي , أو ربما أعطت الشعور و الإحساس بقسوة التحقق من الشخصية , وخاصة ونحن أمام طفلة , وكأني بالكاتب يريد ان يؤكد انتماء الطفلة لعالم النكرات . عالم التهميش .
    وتأتي إجابة الطفلة , بشكل غير متوقع , لتجسد ثقافة الاستسلام لواقع التهميش والإهمال , سواء من خلال قولها " سألت أبي عن شهادة ميلادي , فلم يجبني , فهل تخبروني أنتم ؟ . " فالأب على مايبدو قد تقبل قدره في الانتماء إلى مجتمع التهميش , وهي حالة الحبط التي قد تسيطر على مجتمعات الحرمان والتهميش , وقبل بأن لامعنى لشهادة ولادة طفلته , فهي مجرد رقم في مجتمع الصفيح , وربما ونظرا لضعف مستواه الثقافي والإجتماعي طبعا , فهو لايعرف تاريخ ولادة الطفلة , وربما ذهبنا بعيدا , فوجدنا أن الطفلة ربما لم يجر تسجيلها , في تعداد السكان , وهذا أمر شائع في المجتمعات المهملة , وكل ما تقدم يصب في منحى واحد .
    "فهل تخبروني أنتم " وكأن الطفلة تطالب بالاعتراف بها , في توجهها في السؤال إلى مجتمع السطوة ," فهل تخبروني أنتم ؟ " .وفي تراجيديا رهيبة , ينتقل بنا القاص ببراعة إلى مشهد مؤلم , وإن لبس رداء السخرية " ضجت القاعة بالضحك لحظات , ثم ساد وجوم ثقيل قطعته عريفة الحفل ," , هل الضحك استهزاء واستغراب , هل هو سخرية من طلب الطفل شهادة اعتراف بها , ويجيبنا كاتب القصة عن التساؤل من خلال قوله " ثم ساد وجوم ثقيل " في إشارة إلى الصلف في رفض الاعتراف بالطفلة وبوجودها , ورفض مجرد الانتماء للمجتمع , ثم تقطع ضابطة الإيقاع , صورة المشهد , عريفة الحفل , التي ارى فيها رمزا عميق التأثير , ربما أراد منه الكاتب أن يمثّل السلطة التنفيذية , تقطع المشهد بصلافة , وتقول " ارسمي لنا ما تحلمين به " , منهية بذلك حالة الهرج والتراخي في تقبل الحالة ,
    "رسمت نفسها وسماعة الطبيب تتدلى من عنقها ... في الخلفية رسمت بيتا جميلا ذا حديقة غنّاء , وطائرا يحلق بجناحيه ."
    وأي براعة قصية هذه , عندما يأتي رسم الحلم بسيطا مباشرا , يجسّد الشكل الشائع للحلم الطفولي عند بنت صغيرة , حلمها أن تكون طبيبة , ويكون لها بيت , تحقق استمرارية الحياة , وتكوين الأسرة , وحديقة غنّاء , من أجل حياة رغيدة لأسرتها ,
    ولو كانت صبيا ربما اختلف الحلم , أما الطائر الذي يحلّق بجناحيه , فقد جاء دلالة على الحلم بالحرية , حلم الخلاص , والطيران بعيدا عن الواقع المرّ , عن المجتمع العبودي , مجتمع التهميش التي تنتمي إليه ,
    وياتي رسم الملهاة المحزنة , بشكل لافت , فالمجتمع السطوي , يرى في الأنماط الفردية والمجتمعية , المنتمية إلى قطيع التهميش , مجتمع الكتل البشرية في بيوت الصفيح , أدوات تستخدم حيث يلزم , ضمن بروتوكولاته , وحركات النظرة والفعل التفوقي , ولإظهار حرص هذا المجتمع السطوي , على رعاية مجتمع القطيع في بيوت الصفيح , ضمن منظومة زيف إنسانية , لإرضاء النفوس المضطربة المريضة , ويأتي الزيف مبرمجا , فالتصفيق البروتوكولي , وصيحات الإعجاب , ترسم صورة التفوق والتعالي , خلال تشجيع نمطي , مثلما يشجع هذا المجتمع الخيول , أو الطيور أو حيوانات التنافس , " التهبت الأكف بالتصفيق ... انطلقت صيحات الإعجاب والتأييد ... " وتأتي براعة القاص , بملامسة المشاعر الإنسانية " وانهمرت عبرات " , وقد جاءت أخيرا في الترتيب , وهي على شكل عبرات , دلالة على التركيز على الحد الأدنى من التعبير , هي ليست دموعا أبدا , وقد ترك القاص مساحة كبيرة للخيال والمحاكمة النفسية للقارئ , عندما ترك العبرات مرسلة دون إيضاح مرجعيتها , فقد تكون من قبل بعض أفراد مجتمع السطوة , وهذا أمر يحدث , فلا يخلو مجتمع من نماذج إنسانية , أو ربما كان مرد العبرات , عيون المتابعين من أهل الطفلة , او افراد المجتمع الهامشي , في بيوت الصفيح , أو ربما المجتمع الانساني بصورة عامة , الذي تركه الكاتب دون اشارة منظورة ظاهريا , ولكنه موجود بقوة في البعد غير المنظور .
    وبقسوة درامية تأتي القفلة , في توافق مذهل بين التعبير الصوري المرأي المنظور , وبين التعبير الفكري غير المنظور , يتلاقى المنظوران حينما يتم استرداد المعطف , وتترك الطفلة مع لوحتها , سقطنت الأقنعة , وانتهى توظيف الطفلة , أو بكلام أشمل انتهى توظيف مجتمع بيوت الصفيح ( الكيربي ) , بما يخدم اسباغ مسحة تجميلية على مجتمع السطوة, لتعود الطفلة من حيث أتت ., وتعود الأمور كما كانت , حالة انسلاخ , مجتمع يعيش في ضيق العيش , وحياة مليئة بالأسى والحزن والفاقة والتخلف , مجتمع بيوت الصفيح , وليس لدى الطفلة , سوى هذا المجتمع الهامشي , سوى مضغة من أحلام , وليبقى هذا المجتمع يسعى بقوة للبقاء والاستمرار , كي لايسقط نهائيا , وينتهي , أو تزداد حالته سوءا , انها نزعة التشبث بالحياة ,
    ومع براعة سيمياء العنوان , ووقوفنا طويلا بإعجاب , أمام العنوان الذي قد اسلفت القول فيه , واعتبرته يمثّل نصا أدبيا , قائما بذاته , يستحق الدراسة المعمّقة , إضافة إلى الربط القوي الذي لحظناه بين العنوان والنص , ورأينا كيف أن هذا العنوان شكّل حالة تحريضية كبيرة , لنفس وفكر القارئ , وجدتني أقف طويلا مرة أخرى , أمام كيميائية النص , وهذا التوظيف البارع لكل مفردة من المفردات , ولكل جزئية من الجزئيات , في توليف متميّز , حتى شعرت بأنني لا يمكنني أن أتصوّر لفظة تحل محل لفظة من مفردات النص , أو اتخيل منظومة مفردات ترسم مشهدا يختلف عن ما هو محقق في النص , إنه لتوظيف مدهش , وتكثيف بارع , ففي التفاعل الكيميائي , لايمكن الاستغناء عن مكون , او جزئية , فكل له وظيفته .
    قصة " جرح بملامح انسان " عمل ابداعي متميّز , يستحق الكثير من القراءة , كما يستحق الدراسة النقدية .

    د. محمد حسن السمان


  2. #2
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.33

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة د. محمد حسن السمان مشاهدة المشاركة
    قراءة في رائعة القاص حسام القاضي " جرح بملامح انسان "

    عندما قرأت قصة " جرح بملامح انسان " للقاص الكبير حسام القاضي , رأيت نفسي , استرجع " سيميائية العنوان في القصة القصيرة " والسيمياء هو العلم الذي يتحول معه النص , بفضل الكلمة أو العلامة أو الدلالة إلى عالم من السحر , ويتحول معها النص إلى عوالم وطلاسم لامجال لفكها سوى من خلال مقاربات قد تصيب وقد تخيب كما هو الحال في التفاعلات السيميائية
    وقد أجمع الأدباء والنقّاد , على أن العنوان هو مفتاح العمل الأدبي , والخطوة الأولى في نجاح العمل , وربطوا بين ذكائية انتقاء العنوان , وبين الغرض الاستراتيجي للعمل , وعملية اختيار العنوان , هي فنّ قئم بذاته , يستدرج القارئ , ويخلق لديه إشكالية , تستحوذ على فكره ونفسه , وتدفعه لمتابعة العمل , ليخفض التوتر الفكري والنفسي , الذي حرّضه العنوان , ولعل هذا ما نلحظه في عنوان " جرح بملامح إنسان ", فهو يخلق لدى القارئ , إشكالية نفسية وفكرية واجتماعية وأدبية , بالإضافة للإشكالية الإنسانية والعاطفية ,
    , ولأكون منصفا , ارى إن العنوان " جرح بملامح إنسان " قد ارتقى في الايحائية , حتى لعلي اراه نصا قصيا أدبيا قائما بذاته , يستحق القراءة الأدبية المعمّقة .
    وبعد أن جعلنا العنوان , نبحر في تهيؤات لحظية مختلفة , ونسافر عبر رؤى نفسية وفكرية واجتماعية متفاوتة الأبعاد , مولّدا جرعة تحريضية كبيرة لفكر القارئ ونفسيته , جاء الدخول الرشيق للمشهد القصي , وفق توظيف مهاري متميّز للمفردات الدلالية, ليرسم اللوحة القصية الأولي , بشكل مكثّف سهل الصياغة , ومحفّز للمتابعة , معطيا الإيحاءات الأولية الهادفة للقصة :
    " بخطواتها الصغيرة البريئة صعدت المنصة، وجديلتها السوداء تتأرجح على ظهر معطفها الأبيض .. أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلماً و.. "
    فالخطى صغيرة , دلالة على المرحلة العمرية لبطلة القصة , وهي خطى صغيرة بريئة , وكأني افهم بأن الصغيرة لم تتدرب على المشهد , وهي غفل ليس لديها خبرة الخطوات التي يجب اتباعها في المناسبات , وربما كان هذا دليلا على الوجل والخوف , وربما كان كل هذا معا , وأما الجديلة السوداء التي تتأرجح على معطفها الأبيض , فأرى في هذا تصويرا للبنية المجتمعية التي تنتمي إليها الطفلة , وهي شريحة بسيطة , فلم يقم الأهل بتوضيب مظهر الطفلة , وقص شعرها , وتسريح الشعر وفق نموذج عصري , يلائم مستوى المناسبة , " ثم أعطوها لوحا ورقيا أبيض وقلما و.. " , وفي لفظة دلالية " أعطوها " , أشعرتني بعالم الفوقية , يتكرم فيعطي , إنه عالم منسلخ تماما عن عالم الطفلة , الذي يمثّل عالما دونيا , هو عالم التلقي والاستجابة , وقد تكرر استخدام اللون الأيض مرتين , سواء في معطف الطفلة , للدلالة على النقاء السلوكي , ونقاء الانتماء , ثم " لوحا ورقيا ابيضأ " , وأذهب في هنا مذهبين , وكلاهما يؤديان ما وظف لأجله اختيار اللون الأبيض , فربما كان على الطفلة أن تكتب على بياض , في حالة من الاستسلام والإقرار , أو ربما كان هذا دلالة على نقاء السريرة
    ثم تأتي صرخة , تنقلنا من المشهد الوصفي , يشكل لافت "- عرفينا بنفسك "وهي عبارة توحي بمفارقة الانتماء المجتمعي , أو ربما أعطت الشعور و الإحساس بقسوة التحقق من الشخصية , وخاصة ونحن أمام طفلة , وكأني بالكاتب يريد ان يؤكد انتماء الطفلة لعالم النكرات . عالم التهميش .
    وتأتي إجابة الطفلة , بشكل غير متوقع , لتجسد ثقافة الاستسلام لواقع التهميش والإهمال , سواء من خلال قولها " سألت أبي عن شهادة ميلادي , فلم يجبني , فهل تخبروني أنتم ؟ . " فالأب على مايبدو قد تقبل قدره في الانتماء إلى مجتمع التهميش , وهي حالة الحبط التي قد تسيطر على مجتمعات الحرمان والتهميش , وقبل بأن لامعنى لشهادة ولادة طفلته , فهي مجرد رقم في مجتمع الصفيح , وربما ونظرا لضعف مستواه الثقافي والإجتماعي طبعا , فهو لايعرف تاريخ ولادة الطفلة , وربما ذهبنا بعيدا , فوجدنا أن الطفلة ربما لم يجر تسجيلها , في تعداد السكان , وهذا أمر شائع في المجتمعات المهملة , وكل ما تقدم يصب في منحى واحد .
    "فهل تخبروني أنتم " وكأن الطفلة تطالب بالاعتراف بها , في توجهها في السؤال إلى مجتمع السطوة ," فهل تخبروني أنتم ؟ " .وفي تراجيديا رهيبة , ينتقل بنا القاص ببراعة إلى مشهد مؤلم , وإن لبس رداء السخرية " ضجت القاعة بالضحك لحظات , ثم ساد وجوم ثقيل قطعته عريفة الحفل ," , هل الضحك استهزاء واستغراب , هل هو سخرية من طلب الطفل شهادة اعتراف بها , ويجيبنا كاتب القصة عن التساؤل من خلال قوله " ثم ساد وجوم ثقيل " في إشارة إلى الصلف في رفض الاعتراف بالطفلة وبوجودها , ورفض مجرد الانتماء للمجتمع , ثم تقطع ضابطة الإيقاع , صورة المشهد , عريفة الحفل , التي ارى فيها رمزا عميق التأثير , ربما أراد منه الكاتب أن يمثّل السلطة التنفيذية , تقطع المشهد بصلافة , وتقول " ارسمي لنا ما تحلمين به " , منهية بذلك حالة الهرج والتراخي في تقبل الحالة ,
    "رسمت نفسها وسماعة الطبيب تتدلى من عنقها ... في الخلفية رسمت بيتا جميلا ذا حديقة غنّاء , وطائرا يحلق بجناحيه ."
    وأي براعة قصية هذه , عندما يأتي رسم الحلم بسيطا مباشرا , يجسّد الشكل الشائع للحلم الطفولي عند بنت صغيرة , حلمها أن تكون طبيبة , ويكون لها بيت , تحقق استمرارية الحياة , وتكوين الأسرة , وحديقة غنّاء , من أجل حياة رغيدة لأسرتها ,
    ولو كانت صبيا ربما اختلف الحلم , أما الطائر الذي يحلّق بجناحيه , فقد جاء دلالة على الحلم بالحرية , حلم الخلاص , والطيران بعيدا عن الواقع المرّ , عن المجتمع العبودي , مجتمع التهميش التي تنتمي إليه ,
    وياتي رسم الملهاة المحزنة , بشكل لافت , فالمجتمع السطوي , يرى في الأنماط الفردية والمجتمعية , المنتمية إلى قطيع التهميش , مجتمع الكتل البشرية في بيوت الصفيح , أدوات تستخدم حيث يلزم , ضمن بروتوكولاته , وحركات النظرة والفعل التفوقي , ولإظهار حرص هذا المجتمع السطوي , على رعاية مجتمع القطيع في بيوت الصفيح , ضمن منظومة زيف إنسانية , لإرضاء النفوس المضطربة المريضة , ويأتي الزيف مبرمجا , فالتصفيق البروتوكولي , وصيحات الإعجاب , ترسم صورة التفوق والتعالي , خلال تشجيع نمطي , مثلما يشجع هذا المجتمع الخيول , أو الطيور أو حيوانات التنافس , " التهبت الأكف بالتصفيق ... انطلقت صيحات الإعجاب والتأييد ... " وتأتي براعة القاص , بملامسة المشاعر الإنسانية " وانهمرت عبرات " , وقد جاءت أخيرا في الترتيب , وهي على شكل عبرات , دلالة على التركيز على الحد الأدنى من التعبير , هي ليست دموعا أبدا , وقد ترك القاص مساحة كبيرة للخيال والمحاكمة النفسية للقارئ , عندما ترك العبرات مرسلة دون إيضاح مرجعيتها , فقد تكون من قبل بعض أفراد مجتمع السطوة , وهذا أمر يحدث , فلا يخلو مجتمع من نماذج إنسانية , أو ربما كان مرد العبرات , عيون المتابعين من أهل الطفلة , او افراد المجتمع الهامشي , في بيوت الصفيح , أو ربما المجتمع الانساني بصورة عامة , الذي تركه الكاتب دون اشارة منظورة ظاهريا , ولكنه موجود بقوة في البعد غير المنظور .
    وبقسوة درامية تأتي القفلة , في توافق مذهل بين التعبير الصوري المرأي المنظور , وبين التعبير الفكري غير المنظور , يتلاقى المنظوران حينما يتم استرداد المعطف , وتترك الطفلة مع لوحتها , سقطنت الأقنعة , وانتهى توظيف الطفلة , أو بكلام أشمل انتهى توظيف مجتمع بيوت الصفيح ( الكيربي ) , بما يخدم اسباغ مسحة تجميلية على مجتمع السطوة, لتعود الطفلة من حيث أتت ., وتعود الأمور كما كانت , حالة انسلاخ , مجتمع يعيش في ضيق العيش , وحياة مليئة بالأسى والحزن والفاقة والتخلف , مجتمع بيوت الصفيح , وليس لدى الطفلة , سوى هذا المجتمع الهامشي , سوى مضغة من أحلام , وليبقى هذا المجتمع يسعى بقوة للبقاء والاستمرار , كي لايسقط نهائيا , وينتهي , أو تزداد حالته سوءا , انها نزعة التشبث بالحياة ,
    ومع براعة سيمياء العنوان , ووقوفنا طويلا بإعجاب , أمام العنوان الذي قد اسلفت القول فيه , واعتبرته يمثّل نصا أدبيا , قائما بذاته , يستحق الدراسة المعمّقة , إضافة إلى الربط القوي الذي لحظناه بين العنوان والنص , ورأينا كيف أن هذا العنوان شكّل حالة تحريضية كبيرة , لنفس وفكر القارئ , وجدتني أقف طويلا مرة أخرى , أمام كيميائية النص , وهذا التوظيف البارع لكل مفردة من المفردات , ولكل جزئية من الجزئيات , في توليف متميّز , حتى شعرت بأنني لا يمكنني أن أتصوّر لفظة تحل محل لفظة من مفردات النص , أو اتخيل منظومة مفردات ترسم مشهدا يختلف عن ما هو محقق في النص , إنه لتوظيف مدهش , وتكثيف بارع , ففي التفاعل الكيميائي , لايمكن الاستغناء عن مكون , او جزئية , فكل له وظيفته .
    قصة " جرح بملامح انسان " عمل ابداعي متميّز , يستحق الكثير من القراءة , كما يستحق الدراسة النقدية .

    د. محمد حسن السمان

    أخي الحبيب وأستاذي الكبير علما وأدبا وخلقا ومقاما / د محمد حسن السمان
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    أعود خصيصا للتعقيب لأرفع رائعتك النقدية هذه للنور مرة أخرى ليقرأ ويستفيد من لم يرها قبلا
    دراسة نقدية رائعة وفريدة طوقت بها عنقي وعنق عملي المتواضع لتحوطه بهالة من نور

    ما بين سيميائية العنوان وكيميائية النص جاءت دراستك النقدية والتي أراك تقدم لنا بها أنموذجا في النقد
    ليس لأنها عن عملي المتواضع بل لسماتها المتميزة الواضحة..
    "......... , رأيت نفسي , استرجع " سيميائية العنوان في القصة القصيرة " والسيمياء هو العلم الذي يتحول معه النص , بفضل الكلمة أو العلامة أو الدلالة إلى عالم من السحر , ويتحول معها النص إلى عوالم وطلاسم لامجال لفكها سوى من خلال مقاربات قد تصيب وقد تخيب كما هو الحال في التفاعلات السيميائية"
    يرغم ذيوع مصطلح السيميائية الا انني اراه هنا للمرة الأولى في نقد لعمل قصصي بالغ القصر وبهذا الشكل المبهر .. توظيفكم له هنا في الاشارة إلى العنوان ودلالاته يدعو لقراءة جديدة وربما قراءات وهذا ما بدا هنا..
    " ولأكون منصفا , ارى إن العنوان " جرح بملامح إنسان " قد ارتقى في الايحائية , حتى لعلي اراه نصا قصيا أدبيا قائما بذاته , يستحق القراءة الأدبية المعمّقة .
    وبعد أن جعلنا العنوان , نبحر في تهيؤات لحظية مختلفة , ونسافر عبر رؤى نفسية وفكرية واجتماعية متفاوتة الأبعاد , مولّدا جرعة تحريضية كبيرة لفكر القارئ ونفسيته , جاء الدخول الرشيق للمشهد القصي , وفق توظيف مهاري متميّز للمفردات الدلالية, ليرسم اللوحة القصية الأولي , بشكل مكثّف سهل الصياغة , ومحفّز للمتابعة , معطيا الإيحاءات الأولية الهادفة للقصة .."

    كان هذا عن سيميائية العنوان فقط أستاذي القدير
    ثم كان ابحارك العميق في كيميائية النص والذي أبهرني..
    في تحليل تفصيلي تغلغلت في ثنايا الحروف لا الكلمات لتبدغ لنا هذا الدرس ..
    لو طاوعت نفسي لاقتبست في كل تعقيب كل النص مرة اخرى فقد تناولت كل تفصيلة بتحليل دقيق ..رصين
    براءة الطفولة .. القاء الضوء على الطبقة المنتمية اليه تلك الطفلة وأحلامهم البسيطة والمستحيلة..
    قضية التهميش والتي تطال مجتمعات بأسرها .. سقوط الأقنعة وانكشاف الزيف المستتر..
    [COLOR="blue"]" وجدتني أقف طويلا مرة أخرى , أمام كيميائية النص , وهذا التوظيف البارع لكل مفردة من المفردات , ولكل جزئية من الجزئيات , في توليف متميّز , حتى شعرت بأنني لا يمكنني أن أتصوّر لفظة تحل محل لفظة من مفردات النص , أو اتخيل منظومة مفردات ترسم مشهدا يختلف عن ما هو محقق في النص , إنه لتوظيف مدهش , وتكثيف بارع , ففي التفاعل الكيميائي , لايمكن الاستغناء عن مكون , او جزئية , فكل له وظيفته ."
    [/COLOR
    لم تكن "كيميائية النص" المستحدثة هذه بمستغربة من أديبنا وناقدنا الكبير وعالمنا الجليل أستاذ الكيماء في الجامعة السورية..
    مهما قلت أستاذي فلن أفيك حقك ازاء هذا العمل الرائع النبيل
    فجزاك الله خيرا الجزاء

    وأرجو أن تتقبل من تلميذك أسمى آيات التقدير والامتنان والاحترام
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  3. #3
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.61

    افتراضي

    الأخ الجبيب الغالي القاص البارع الأستاذ حسام القاضي
    سلام الله عليكم
    عدت إليك أيها الأديب , وقد قرأت ما علّقت به على دراستي النقدية : قراءة في رائعة القاص حسام القاضي
    " جرح في ملامح انسان " , وقد أدهشني الرد الأدبي , مثلما أدهشتني قصتك الرائعة , أدهشتني بهذا التوغل
    والتمثل للدراسة الأدبية , والذي لايقدر عليه إلا مثقف مطلع , وصاحب فطرة متفوق , وكم كنت أتمنى أن تنشر
    الدراسة في قسم النقد الأدبي , في الواحة المباركة , ليطلع عليها الأخوة والأخوات الأفاضل من النقاد والدارسين ,
    ونسعد بما يتفضلون به , فتكتمل الدراسة وتعم الفائدة .

    د. محمد حسن السمان

  4. #4
    الصورة الرمزية أحمد عيسى قاص وشاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : هـنــــاكــــ ....
    المشاركات : 1,961
    المواضيع : 177
    الردود : 1961
    المعدل اليومي : 0.30

    افتراضي

    قراءة نقدية غنية تدل على عمق الثقافة والقدرة الجميلة على سبر أغوار هذا النص الجميل

    أشكرك أ السمان والتقدير للقاص الراقي : حسام القاضي

    ننتظر الأجمل منكما دائماً
    أموتُ أقاومْ

  5. #5
    الصورة الرمزية د. محمد حسن السمان شاعر وناقد
    تاريخ التسجيل : Aug 2005
    المشاركات : 4,319
    المواضيع : 59
    الردود : 4319
    المعدل اليومي : 0.61

    افتراضي

    الأخ الفاضل الأديب القاص والشاعر أحمد عيسى
    أشكر لك كلماتك الطيبة , ومرورك الكريم على القصة الرائعة لصديقك القاص حسام القاضي , ومرورك الكريم أيضا على القراءة النقدية , سعدت جدا بك .
    تقبل تقديري واحترامي

    د. محمد حسن السمان

  6. #6
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.47

    افتراضي

    ببراعة سبرت أغوار النص واقتنصت من أعماقه الدرّ تفرشه على بسط العرض في قراءة نقدية مائزة لا تكون إلا بيراع أديب متمكن يعرف كيف يسلط أضواءه الكاشفة على زوايا المقروء معلنا جمالياتها

    تهانينا للقاص المبدع حسام القاضي بالقراءة الجميلة ، وقوافل الشكر لبديع قراءتك

    دمتما بألق

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  7. #7
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,774
    المواضيع : 353
    الردود : 21774
    المعدل اليومي : 4.87

    افتراضي

    بين هذه الدرر الثمينة قضيت أحلى صباح
    بين قصة قصيرة بارعة مميزة, ودراسة نقدية
    تتغلغل بين ثنايا الحروف بتحليل دقيق لكل كلمة فيه
    بارك الله فيك د. السمان على متعة وجدتها في متابعة
    طريقتك في النقد وأسلوبك في تذوق الكلمة والمعنى
    وبارك الله فيك أيها الكاتب الرائع .. حسام القاضي
    تحياتي لكليكما ووافر تقديري.

  8. #8

  9. #9
    الصورة الرمزية عدنان الشبول شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2013
    المشاركات : 5,981
    المواضيع : 225
    الردود : 5981
    المعدل اليومي : 1.44

    افتراضي

    ليس كلّ من يمر على نص أدبي يستطيع أن يرى أبعاده ويخرج جواهره ومقاصده .

    ما شاء الله عليك أستاذنا الدكتور محمد السلمان ، تجمل النصوص بردودك ونقدك وإضاءاتك.



    ألف تحية وألف سلام

  10. #10

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة في قصة " على الوغد الذي..!!" لحسام القاضي
    بواسطة كريمة سعيد في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 09-01-2023, 11:47 AM
  2. جرح بملامح انسان ق.ق.ج
    بواسطة حسام القاضي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 62
    آخر مشاركة: 25-01-2015, 03:43 PM
  3. جرحٌ على جرح
    بواسطة عبد السلام دغمش في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 33
    آخر مشاركة: 12-03-2014, 10:52 PM
  4. قراءة تحليلية في قصة "جرح بملامح انسان" للقاص حسام القاضي
    بواسطة أحمد عيسى في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 16-05-2012, 03:38 AM
  5. قراءة تاويلية في قصة "ربطة عنق " للأستاذ / حسام القاضي
    بواسطة الشربينى خطاب في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 07-09-2007, 01:20 PM