أَرِيقِي بَرِيقَ الوَدْقِ قَبْلَ التَّفَرِّقِ=وَرِقِّي لِدَمْعٍ سَحَّ مِنْ عَيْنِ مُطْرِقِ
تتابع للقاف موسيقي الوقع في مطلع يحمل لقافية قافيّة في جرها انسجام مع انكسار القلب للفراق مدهش
أطلت التغني بها طربا وانبهارا فلله ما أروعه مطلعا يعلن صفو مشارب القول وينبىء بخلايا رحيقه

لَئِنْ ضَاقَ مِنْكِ الصَّدْرُ مِنْ غَيرِ عِلَّةٍ=فَإِنَّ فُؤَادِي لمْ يَضِقْ مِنْكِ مَا سُقِي
وفي بيت واحد يتكشف الوجع، فإذا العتاب تغزّل ووعد صفاء وتسامح وشكوى من تبرّم لا حجة له
فصدرها يضيق دونما سبب، فتسقيه الجوى ولا يضيق منه صدر ولا قلب

تَمُوجُ اللَيَالِي بَينَ نَوْءٍ وَفَتْرَةٍ=وَحِضْنُكِ فِيهَا حِضْنُ يَمٍّ لِزَوْرَقِ
إِذَا رَقَّ هَمْسُ الرِّيحِ يُرْخِي شِرَاعَهُ=وَإِنْ هَبَّ عَصْفُ الوَهْمِ بِالذَّنْبِ يَغْرَقِ

ولوحة هنا مرسومة بساحر حرف وباهر حس تتحدى أرباب الريشة والألوان أن ياتي أحدهم بمثلها
ومشهد في بيتين يرسم من المعاني والوصف ما يعجز بشارا بن برد في قصيدة بحالها

وَإِنِّي عَزِيزُ الـجَنْبِ أَسْمُو عَنِ الـخَنَا=وَتَأْنَفُ نَفْسِي كُلَّ قَولٍ مُلَفَّقِ
دفع اتهام ظالم يئن ندى ولا يخلع بردة عزّه في ذروة ألمه
وقول يشي في موقعه بشيء ويكتم شيئا فيحلق القاريء وراء المعاني

أَنَاهِزُ تِلكَ الرُّوحَ فِي عُمْقِ كَوْنِهَا=وَلِلقِمَّةِ القَعْسَاءَ أَسْعَى وَأَرْتَقِي
أَنَا الكَوْكَبُ الدُّرِيُّ فِي عَتْمَةِ الرُّؤَى=أَعِيشُ غَرِيبًا بِاجْتِهَادِي وَمَنْطِقِي

وبمهارة يعرج الحرف نحو فخر يقول فيه الشاعر أن التهاون مع الحبيب ليس هوانا
وما أجمل الفخر حين يجيء بعد مناجاة حملت المتلقي لنشوة تجعل لكل حرف بعدها قبولا

وَكُلُّ فُؤَادٍ فِي يَدِ الغَيبِ جَدُّهُ=وَمَا يَعْلَمُ المَرْءُ السَّعِيدَ مِنَ الشَّقِي
وحكمة تدخل شعر الأمير منتظرا ودقها في بيت أو أبيات
وتستلمها بعد توطئة شعرية مائزة فتنساب لا منظّرة ولا معلّمة

مَقَامُكِ فِي قَلْبِي مُنِيفٌ مُقَدَّمٌ=وَقَدْرُكِ عِنْدِي فِي الوَرَى تَاجُ مَفْرِقِ
وَحِسُّكِ دِفْءُ الرُّوحِ فِي رَجْفَةِ الـمَدَى=وَحُسْنُكِ يُنْبُوعِي الذِي مِنْهُ أَسْتَقِي

أوتفارق بعد هذا غير خرقاء؟
مناجاة عاشق يسلم القلب والروح قنوتا ويعلن ودّا مطلقا لا ذريعة لها بعده لكدر
ولا إخال عاشقة بعده تملك غير الاستكانة هوى وثقة وانصهارا

فَيَا لِطَرِيحٍ قَلْبُهُ فِي زُجَاجَةٍ=وَيَا لِضَرِيحٍ لِلذِي لَمْ يُصَدِّقِ
وليس أن للجناس في بديع الشاعر عموما سحره، لكن له هنا مذاق ساحر ونشوة تسبقيك مرددا البيت بلا اكتفاء

أَبُثُّ إِلَى الأَيَّامِ وَجْدِي وَلَوْعَتِي=وَأَنْفُثُ فِي الأَوْهَامِ إِلْهَامَ مُـخْفِقِ
ولإيقاع المفردة عذوبة موسيقى الطبيعة حين ينسجم انسياب غدرانها مع زقزقة عصافيرها وهفيف نسيمها لحظة غروب صيفي ساحر

وَأَبْحَثُ فِي الأَحْلامِ عَنْ صَفْوِ بَهْجَةٍ=وَمَا كُنْتُ أَلْقَاهَا إِلَى حِين نَلْتَقِي
رَضِيتُ لَكِ السُّكْنَى بِغَيرِ مَنَازِلِي=وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ هَلاكٍ مُحَقَّقِ

فالفراق واقع وليس قرارا أو اختيارا، والحرمان عذاب يعانيانه كلاهما، وليس هجرا
كأني بجميل بثينة يقرأ في الحرف هنا قصته

وَكُنَّا تَنَازَعْنَا هَوَانَا تَفَكُّهًا=نُحَلِّقُ شَوْقًا أَيُّنَا ذُو التَّفَوُّقِ
فَطِرْنَا حَنِينًا فِي رَبِيعٍ مِنَ الرِّضَا=وَعُدْنَا سُكَارَى مِنْ حَنَانٍ مُعَتَّقِ

وهذا شاهد آخر لها ، وقد تكررت الشواهد تشي باتحاد قلبين وانصهار روحين معا في سماء تتطلع من علٍ لافتراق مفروض على الحبيبين

وَدَاعًا بِطَعْمِ الجُرْحِ يَا بَلْسَمَ النَّدَى=يَئِنُّ لَهُ نَوْحُ الحَمَامِ الـمُطَوَّقِ
وَدَاعًا وَمَا فِي النَّفْسِ إِلا صَبَابَةٌ=وَدَعْوَةُ مَلْهُوفٍ بِعَيْشٍ مُوَفَّقِ

ولا أجد هنا للوداع مقاما، فما حكت الأبيات المتقدمة من تماسك الحبيبين واتحاد قلبيهما لا يسمح بفراق وإن افترقت الأجساد وطالت بينهما المسافات

فَإِنَّ الذِي يَهْوَى يُضَحَّي بسَعْدِهِ=وَيَدْفَعُ عَنْهَا الهَمَّ فِي كُلِّ مَأْزَقِ
وِمَنْ يَطْرُقِ اللذَّاتِ يَصْخَبْ إِذَا مَضَتْ=وَمَنْ يَصْدُقِ الإِحْسَاسَ يُكْرِمْ ويَرْفُقِ
وَمَا السَّعْدُ إِلا فِي الفَرَاغِ مِنَ الـهَوَى=إِذَا كَانَ قَلْبٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ بَقِي


وبحكمة هي ديدن أمير الشعر ونسق حرفة يختم القصيدة مدهشا الحروف قبل المتلقي

متعة كانت جولتي في أفياء هذه الساحرة حسا وحرفا

دام لشعرك وهج يعشي البصر عما سواه

تحاياي