الأستاذ عاطف ياغي
لقاء حواري ثقافي شامل
مع شيخ شعراء بعلبك
الأستاذ عاطف ياغي
حوار: حسين أحمد سليم

السؤال الأول:
رُدْ بي حقب الأمس واحملني على أجنحة الخيال, وعُد بالذكرى للماضي وارسم لي لوحات طفولتك في مشهديات من بيت أبويك في مدينة الشمس بعلبك؟...

الجواب الأول:
دخلت المدرسة الرشدية سنة 1943 , وذهبت برفقة أخي الأكبر, وما أن وصلنا الى الباب الرئيسي, حتى قال لي مشيرا: هذه الادارة, أقرع الباب, واعطِ المدير هويتك... ففعلت ما قال, وسألني المدير: "هل تعرف أن تقرأ قراءة عربية"؟ فقلت له: "نعم"... فقال: "خذوه إلى الصف الثاني" , وكان المعلم غائبا ذلك النهار, فدخلت إلى الصف, ولأول مرة, رأيت اللوح الأسود, والطبقة والطبشورة, التي كان يحدثنا عنها أخي... وكان الدوام قبل الظهر وبعده, وبعد الظهر, حضر المعلم , فوقفت له التلاميذ, ووقفت معهم... وقال لهم: "شو معنا اليوم؟" فقالوا له: "قراءة عربي" ... فقال: "إبدأ للتلميذ الأول" ,وكانت الجمل في الدرس طويلة, لم تكن كما كان يعلمنا أخي: "درس, درج, عرج, خرج..." وهذه القراءة, لم أعرفها من قبل, وكان اسم الكتاب: "سعاد وأخوها الصغير" ... وما أن بدأ أول تلميذ, حتى أخرج المعلم من جيبه الجريدة, وبدأ يقرأ ما فيها, إلى أن حان دوري, فلم يسمع من يقرأ!!!... فقال: "وين صار الدور؟" , فقالوا له: عند هذا... أي أنا, فقال: "إقرأ" فقلت "لا أعرف" فقال: ما إسمك؟ فقلت له: أنا فلان, فقال: "غدا اذا حضرت ولم تحفظ الدرس, سأنزلك إلى الصف الأول... وكان أستاذ الصف الأول مكروها من التلاميذ, لأنه شبه أمي, ويضرب التلاميذ ضربا عنيفا... ويكتب على اللوح ويقول بصوت عال: "أوصتني زوجتي أن أحضّر لها لحما وخضرة"... وكان ذلك في تشرين الثاني, والمكتبات قد أغلقت أبوابها, فاستعرت كتابا من جاري وقريبي, كي أحاول حفظ الدرس, وسهرت حتى حفظته عن ظهر قلب, وفي اليوم الثاني, دخلت الى الصف, وكعادته, أخرج الأستاذ الجريدة من جيبه وقال للتلميذ الأول: "إبدأ" إلى أن حان دوري, فقرأت الدرس وآخر سطرين, قلتهما عن ظهر قلب, فقال له التلاميذ: "أستاذ, إنه يقرأ عن الغايب" فقال من؟ فقالوا "فلان"... فسألني: "حافظ الدرس؟" فأجبته: نعم... وبقيت في الصف الثاني, وفي المدرسة الرشدية كانت في زمن الفرنسيين, وفوق عتبة الباب, كتبت عبارة فرنسية "ecole official " ويوم الاستقلال حمل التلاميذ واحد منهم وكسرها بالمطرقة والازميل...


السؤال الثاني:
ماذا تذكرك شجرة المشمش وأزهار الياسمينة والزنبقة والقرنفلة والورود الجورية؟... وماذا تمثل لك شجرة السرو الباسقة التي كانت لا مثيل لها في مدينة الشمس بعلبك؟...

الجواب الثاني:
بيتنا كان محاطا بحديقة واسعة, فيها شتى أنواع الزهور والأشجار, وكنا نجني منها أثمارا لذيذة, ونضع في مزهرياتنا زهور مختلفة, وخاصة النعنع والأضاليا والقرنفل والياسمين... وكان يقصد الناس بيتنا للتمتع بأزهاره وأثماره, وبحديث العائلة... وكان الناس يعجبون بقصائد أبي والعتابا والميجانا وأبو الزلف والشروقي, وكان يحفظ الكثيرون من معاصريه, الشعر الشعبي, وكان محبا للعلم... ولما دخلت الحرب العالمية الثانية, ولم يكن في الحي مذياع, فكان يصحبني أبي الى بيت جدي, ويعبر بي في الطرقات الضيقة, لنستمع الى نشرة الأخبار من اذاعة الشرق الأدنى... وكان في بيت جدي لأمي, شجرة سرو باسقة, تتجمع فيها العصافير وتؤنسنا بزقزقاتها, ولم يكن لها مثيل الا في منتصف شارع الشيخ بشارة الخوري, ولا تزال قائمة قرب منزل آل الرفاعي بساحة القنايا...


السؤال الثالث:
تتماهى أشجار الصفصاف والدلب الباسقة حول مرجة رأس العين في مدينة الشمس بعلبك والتي تتموسق على أفنانها العصافير على وقع سقسقات مياه النبع في مجرى ساقية النهر... كم حري بك أن تغدق علينا الوصف لذكرياتك المنسية على مساحة المرجة؟...

الجواب الثالث:
حتى سن الثامنة لم أكن أذهب الى المرجة في رأس العين منفردا, ولكن برفقة أهلي وجيراني, أيام الجمعة فقط... وكانت المرجة تقسم الى قسمين: مرجة للنساء وأخرى للرجال... ففي مرجة الرجال, كانت تقام حلقات الدبكة والرقص الشعبي نهار الجمعة... وفي سائر الأيام كانت مختلطة, والنساء كنّ يصنعن الشاي والقهوة... وتمر بين المرجتين, الساقية وعلى جوانبها أشجار الدلب, وعلى نهر رأس العين أشجار الصفصاف والحور... وما زلت أحمل لنبع رأس العين ولساقية النهر شغفا للمياه الصافية النقية والمنعشة...


السؤال الرابع:
أسرّت لنا لطائف الأنسام البعلبكية ووشوشتنا عن اللون الأحمر الذي كان يتماهى بك... وعن الرّعب الأول الذي أودى بك للقفز عن علوّ دون أن تصاب بأذى... إروِ لنا حكاية البقرة التي أرعبتك؟...

الجواب الرابع:
ذات يوم, كان يشرح لنا الأستاذ درس "بقرتي صفحاء", وكنت مع رفاقي نسير حول طريق رأس العين, فشاهدت بقرة, وتقدّمت منها, وقلت: "بقرتي صفحاء" تطبيقا للدرس, فحاولت أن تنطحني, فهربت منها, فتبعتني, وعدوت وهي تعدو خلفي, وخفت منها كثيرا... وقلت: ماذا ستفعل بي قرونها إذا نطحتني؟!... وكان في المرجة ناطور المرجة, فقال لي: إقفز, إقفز, وكان الجدار عاليا, فآثرت أن أقفز على أن تنطحني البقرة... فأنقذني السّيد نزار من البقرة, وكان كل ما ألتقي به, يقول لي: "ما خلّصتك من بقرة أبو أنيس؟!"...


السؤال الخامس:
مرجة رأس العين تاريخ حافل بالذكريات دخل إليها الكثير سياحة, ليكحّلوا مآقيهم بالجمال... ما هو الواقع والمرتجى بيم مرجة الطفولة ومرجة الكهولة لكم؟...

الجواب الخامس:
أحببت مدينتي كثيرا, ليس فقط لأنها مدينتي بل للجمالات التي كانت فيها المرجة الخضراء, مرجة رحبة, والنهر الذي يجري فيها, وعلى الطريق بعدها, كان مؤنسا وجميلا, وأشجار البساتين في رأس العين, كانت جميلة وقد أوحت لي كثيرا, وأول قصيدة في حياتي كتبتها مع عدم علمي بالعروض, وكانت موزونة هي:
علق القلب وسام ذهبت عنه فنام
كان ثغري ساكتا لم أعوده الكلام
قد تعلقت بها واستدام الحال عام
إنها أولى فتاة منذ هاجرت الفطام
وذات يوم في تشرين الثاني كنت أسير على طريق رأس العين والأوراق تتساقط بألوان مختلفة من اليابس الأصفر والأخضر والأحمر فكتبت:
لوّن تشرين على مهل لون تشرين
ألوانك علم أحزان والقلب حزين
وأوحت لي قصائد أخرى... "بيتنا في الرّابية"
بيتنا ذاك الذي في الرابية عطّرته زنبقات غاوية
مرجة الشباب كما أحببتها كانت طبيعية, والمرج من طبيعتنا, تنبت في أيام الربيع عاليا, ولم تكن مسوّرة بالحديد كما هي اليوم, وكانت ملتقى للوافدين من شتّى أنحاء لبنان ومن سوريا والعراق, وكانت مصيفا لأهالي العراق, وكان في أيامنا, أغنية سهام رفقى: "يا أم العباية" جاءت الحرب اللبنانية ودخلت السيارات والدرجات النارية والهوائية إلى المرجة وأفسدتها... فطلبت من ناطور المرجة أن يحضر المولّد والنباريش لكي يسقي المرجة وأنقذناها... وأعيد تأهيلها, تحت رعاية وزير الزراعة شوقي الفاخوري, وأقيمت في وسطها بركة ولها نافورة, ولكن البلديات المتعاقبة, لم تقم بجر المياه في هذه النافورة التزينية... كما أن الجمعيات المانحة أدخلت إليها الألعاب للأطفال, وأدخلت أدوات التسلية الرياضية, وأصبح فيها قصّاصة مرج ولها مولّد خاص بها... ولا تزال المرجة متعة للناظر الصغير والكبير مرغوبة بما في داخلها, على طرقاتها مكانا للمشي والركض والرياضة... ولا زلت حتّى اليوم أطوف برأس العين منذ حداثتي, فأكتشف الأسرار فيها...
كانت تصدر في بعلبك دورية: "صوت بعلبك" وكتبت فيها:
وأطلّ صوتك يا بعلبك داويا
بعد السكوت وصار صوتا عاليا
وأول قصيدة نشرتها في بيروت في مجلة "الزهور" بعنوان: "إلى العرزال" كما نشرت عدة قصائد في جريدة "لسان الحال", هذا ولي قصيدة بعنوان: "المرجة الخضراء"...


السؤال السادس:
نلت الشهادة المتوسطة وانقطعت عن الدراسة لسنوات ست ثم عدت فتابعت... ماذا كان خلف الكواليس من موانع وعقبات حالت دون المتابعة؟...

الجواب السادس:
تعينت في التعليم سنة 1955 في قرية: "يونين" وكان لي فيها أصدقاء, وكتبت فيها قصيدة:
سنتان كالحلم الموشّى مرّتا
يا حبّذا لو ترجع السنتان
وانتقلت إلى بعلبك سنة 1957 , وكنت لا يهمني الدرس كثيرا, لأنني معلّم وصاحب مردود... وبعد ثمان سنوات قررت أن أتابع الدراسة فنلت شهادة الإجازة في تعليم اللغة العربية وآدابها سنة 1966, وتعينت أستاذا في سنة 1970 في ثانوية زحلة...

السؤال السابع:
أضئت شمعتك منذ البدء لتنير دروب الأجيال وما زلت... مذاذ حصدت في تجربتك التربويّة المديدة؟ وهل حققت رسالتك التي حملتها تكليفا وقناعة؟...

الجواب السابع:
التعليم شيء مهم في حياتي, فيه ثقافة وتربية وحسن معاملة... لا أعرف أنني ضربت أو وبّخت تلميذا بكلمات نابية, فكنت أحترمهم ويحترمونني, وما زالوا حتى اليوم على نفس الإحترام... فكنت مرحا وحاضر البديهة في الصف وفي آخر السّاعة, نقول: بعض النكات حتى نخفف عنهم عناء الدرس... ولقد علّمت تلاميذا أصبحوا اليوم دكاترة في الجامعات وعمداء في الجيش والدرك ومحامين ومهندسين ومعلمين وأطباء... وكما قلت في قصيدة: "السبعون"... إذا عدت إلى أول العمر وخيّرت ماذا أفعل في حياتي؟ أجيب أنني: سأكون معلّما...