الحرب حالة بدوية لا حضارية
الحروب القبلية ،الحروب الأهلية ، الحروب الطائفية ، الحروب الإثنية ، حروب الإخوة، إنها نهاية أعمال التاريخ في مشاعرنا ووجودنا. وإذا تحارب المتحضرون فإنما يعبرون عما بقي فيهم من بداوة، لا عما وصلوا إليه من حضارة.
كانت تقاليد الإنسان وعقائده وكل أفكاره تمجد الحرب وتراها عملا إنسانيا نبيلا ومقياسا صحيحا لفضيلته وبطولته. وكانت آدابه وفنونه وأديانه هتافا حربيا ضاجا.. كانت صلوات متواصلة لإله الحرب، البطل الشرير.
كانت الحياة طريقا طويلا من الدماء سار فيه الإنسان العربي والإنسان عموما ثملا، ومن حوله الحداة والطبول والشعراء والأنبياء، يتغنون بمجد الدم ومجد السيوف.
كانت تعاليمهم قصيدة طويلة في تمجيد القتل والقتال... حتى الإله.. لقد كان مقاتلا " اله الجنود" ، لقد صوره احد دعاة الحروب الكبار. لقد كان يغفر كل ذنوب من يقاتلون، ولا يغفر لمن لا يقاتل ذنبا.. لقد كانت اكبر الذنوب عنده ألا يكون الإنسان مقاتلا.. حتى الإله.. كان مقتلا ومن دعاة الحرب..لقد تصوروه إلها حربيا .. اله حرب.
كان الإنسان كلما عجز عن حل مشاكله مع الطبيعة، ذهب يقاتل بعضه بعضا، وذهب يعاقب نفسه. وكان كلما حل مشكلة من مشاكله استغنى بقدر ذلك عن الحرب، وعن أفكارها. ولو أن الإنسان العربي استطاع أن ينتصر انتصارا كاملا على الطبيعة الصحراوية لما احتاج إلى أن يصنع حربا، إن جميع أحقاد الإنسان على الإنسان واختلافه معه، واعتدائه عليه وبغضه له إنما هو نوع من العجز عن الطبيعة ومن الغضب عليها والاحتجاج على ما تصنع به، كأن الإنسان يعتدي على نفسه ليعاقب الطبيعة.
كان عدوان الإنسان على نفسه في أساليبه المختلفة إنما يعني أن الطبيعة تناقضه وتصدمه، وتوقع به الآلام، وانه يحاول أن يقاوم ذلك، ويرفضه ويعلن سخطه عليه، إن حزن الإنسان العربي .. غضبه..حقده.. حسده.. تخاصمه.. وتشاؤمه.. تنافسه وتعاديه.. حروبه.. كل ذلك ليس إلا تعبيرات مختلفة عن محاولاته عقاب الطبيعة، ورفضه لما تصنع به، وعن احتجاجه عليها ومقاومته العاجزة الخاطئة لها. انه بذلك إنما يحاول أن يطلق أسلحته على عدوه الطبيعة، فتنفجر داخل ذاته وترتد إليها.
كان العجز يصنع توترا عصبيا، وكان التوتر العصبي يتحول إلى غضب وأحزان وحقد وخصومة وسباب وحرب..
إن العجز عن الانتصار على الأمراض والمجاعات والفقر والقحط وأحيانا الفيضانات وعن معرفة أسرار المنطقة الجغرافية التي يعيش وكيفية إخضاع قوانينها ليصنع منها رغبة في الشقاق والعدوان وإلقاء السخط على الآخرين، كما يحولنا إلى أعداء لأنفسنا، والى معاقبين لها بالعديد من أساليب العقاب. والانفعالات الأليمة هي أقسى هذه الأساليب المعاقبة للنفس.
إن الإنسان إذا عجز عن أن يكون كما يريد، راح يفعل مالا يريد . انه إذا عجز عن الانتصار ذهب يصنع الهزيمة.
إن البغض بديل رديء عن المحبة.
إن الحرب بديل رديء عن الانتصار في الحياة.
وان الحرب بكل صورها وظروفها ليست إلا تفسيرا لانتصار الطبيعة على البشر.
إن السلام هو التفسير المقابل لانتصار الإنسان على الطبيعة.
إن المجتمعات التي تنتصر في محاولاتها للتعايش والتكيف لأبعد ما تكون عن مخاصمة النفس ومخاصمة الآخرين من المجتمعات الأخرى.
إن التعايش هو أحسن مستهلك لانفعالات البشر ولطاقاتهم، ولو أن مجتمعاتنا استطاعت أن تسير في انتصاراتها التعايشية على مستوى ترضاه هي ، لكان ذلك أفضل صارف لها عن البغض والعداوة والحروب.
إن الانتصارات على الأحقاد، هي البديل الوحيد للإنسان العربي عن مخاصمته ومحاربته ومشاتمته لنفسه وهي البديل الوحيد عن مخاصمته ومقاتلته وكراهيته للمكونات المجتمعية الأخرى أو لأي كائن آخر ولو كان يعيش بقيم مختلفة.