كتبت ردي أختي المبدعة الرائعة نادية هناك في قسم النقد وهنا أكرر شكري وتقديري بلاحدودقرأت قصصا كثيرة تحكي عن يوميات الثورة ، آلامها آمالها ، دموعها ، دمها ،،،
لكنها برغم ما فيها من روعة ، لم تعلق بالذاكرة مثلما سكنتها قصة :
" مدفع الإفطار "
يوحي العنوان بأننا أمام قصة عن رمضان ، و لا يحمل خصوصية ويتلقاه القارئ مباشرا لا يحتاج لإعمال فكر أو تأمل .
هل الأمر كذلك ؟؟
فلنقرأ لنكتشف ...
"كانَ كلَّما سمع صوتَ انفجارِ قذيفةِ مدفعٍ يتذكرُ لحظةَ الإفطار"
مشهد متكرر في الزمان ( كلما سمع ) يوحي بأننا في خضم الحدث ، كما يشير إلى أننا في زمن رمضان
بذكر المدفع و الصيام ، لكن ، هل المدفع هنا يؤثث المشهد الرمضاني الإيماني المعتاد ؟
ربما نقول نعم لو لم يستخدم الكاتب كلمة " قذيفة "
لأنها أوحت لنا أن المدفع قاتل ، آلة مجرمة يُحركها الظُلاّم .
وهذه البداية جعلت القارئ يشرع مبكرا في طرح الأسئلة : ترى من هو بطل القصة ؟؟
من ذاك الذي نسي أنه صائم و تذكر عند سماع طلقة المدفع ؟؟
ما الذي كان يشغله ؟؟
فتأتي الصدمة قوية تلغي تأويلات عدة لاحت في أفق مطلع القصة ، يقول الكاتب :
" يتحركُ بفعلٍ لا إراديٍّ باتِّجاه طاولةٍ كان من المفترضِ أن تكون عامرةً كما جرتْ عليه العادةُ
بأصنافَ شهيةٍ من الأطعمةِ والمشروبات .."
فالطاولة إذن فارغة من طيبات الأكل ، هي ليست مائدة إفطار و كان من المفترض أن تكون ،لكنه حُرم مما ينعم به كثير من المسلمين ،
ومنهم للأسف من لا يشعر بمأساة الآخرين .
"يتحركُ بفعلٍ لا إراديٍّ باتِّجاه طاولةٍ "
لماذا كان الفعل لا إراديا ؟؟
لعل الكاتب يريدنا أن نعي و نفهم جيدا أننا أمام طفرة حياتية ، وحالة مختلفة ،ويوم خاص من أيام رمضان .
نظن أن البطل يتوجه إلى الطاولة ليتناول إفطاره كما يفعل كل الصائمين ، و كأننا نريد أن نبتعد عن مشهد مخيف
نشعر أن النص سيكشفه لاحقا ، هروب لن نمكث فيه طويلا ...
في ظل أوضاع مختلفة تفقد بعض الأشياء طبيعتها ، وبعض التفاصيل خصوصيتها ،فالصائم هنا تحيط به أجواء حرب و عنف و هلع ،
وكثيرا ما تكون الدوافع لا إرادية ،وسط زخم من الفوضى والقلق والمهام .
" تغلَّب على شعوره بالعطش والجوع اللذين هيَّجتْهُما أصواتُ المدافع، "
لم يكن الأمر يتعلق بطلقة واحدة مسالمة ، بل بطلقات تأمر بها عنجهية الظلم ،
ويطلقها مركزة مضغوطة الجورالمتمكن والطغيان المسيطر .
أية موائد مهما بلغت زينتها تغري في مثل هذا الموقف ؟؟
فصوت المدافع يقبر الشعور بالجوع و العطش و يحيي الشعور بالواجب ،فتتغير معالم الطاولة ،
لتتحول من مائدة طعام لشيء آخر استأثر بكل تركيز البطل ،الطاولة هي هي لكن بساط لما لا يمت للطعام بصلة .
يقول الكاتب :
" واستحضرَ جميعَ تركيزِه فوق تلك الطاولةِ، "
مازات الحيرة تأخذ بنا ، و مازال الفكر يسرح بفهمنا ،
إن لم تكن مائدة طعام الإفطار ، فما الذي يمكن وضعه عليها ؟؟
" وحاول بما حباهُ اللهُ من رغبةٍ في النَّجدةِ، وأخذ يبحثُ عن الرَّصاصةِ الغائرةِ في أحشاءِ هذا الصَّبي "
هو ذا ،،، بطلنا طبيب ...
أخذ بنا القاص للحظات في جولة سريعة في ضمير البطل ، " رغبته في النجدة "
هي رسالة الأطباء و برّ بقسمهم المهني ، بل إن بطلنا يمثل أعلى حالات الإخلاص ، حيث يصرف النظر عن تلبية حاجاته ،
ويواصل صومه لينقذ حياة الآخرين ، ناكرا ذاته و حاجياته و حقوقه .
نعم ، إنه يحاول فقط ،والله تعالى هو المنجي وهو الحافظ ، وأيضا يحاول لأن الجرح غائر والإصابة بليغة ..
الضحية طفل !!!
إنهم يقتلون البراءة ، ويجرحون الزهور ، ويبيدون الجمال ،حتى في رمضان والناس صيام .
كون الضحية من عالم الطفولة يزيد من فداحة الجرم ، ويرفع درجة السخط والاستنكار إلى أعلى النسب .
ويبقى السؤال في الأخير غصة تخنق فينا الأنفاس، ورجفة قلب يرتعش فرقا ،
هل نجا ؟؟ هل أفلح الطبيب في إنقاذ الطفل المصاب ؟؟
متى ستتوقف قذائف المدافع الآثمة لتفسح الفضاء لطلقات الحرية ، وأصوات تكبيرات الصائمين فرحا بيوم عيدهم ،
عيد النصر ؟؟
لا ريب أن ما قرأناه يستحق أفضل وأعمق من قراءةِ متذوقة، كل ما قامت به هو تحويل مشاعرها
و إحساسها بالقصة إلى كلمات ،فاقبلوا مني راجية الصفح عن أي سهو أو خطأ .
=======
الأديب المتألق وليد عارف الرشيد ،
إن مضمون بعض القصص نراه متمثلا أمام العين ، بارز الفكرة قريب الشخوص ،
نعيش معه الأحداث لحظة لحظة ، ننسجم مع ماهيته وكينونته ، نتوحد مع جزيئات مشاهده كلها .
هي قصة شعرنا بثقل أحزانها ، وأتبعنا آخر كلمة فيها زفرة لم تزد جوفنا إلا التهابا .
أحييك على نصك الثائر بامتياز ، و من خلال ومضتك الإنسانية الرائعة ، أحيي الصابرين المرابطين المجاهدين ،
وأحيي كل من سخر علمه وجهده لإسعاف ضحايا الظلم ، ورحم الله من استشهد منهم في سبيل ذلك .
بوركت ونبضك .
دمت والألق