العاصفة
أهدي هذه القصة إلى كل من يحمل عضوية الإنتماء لهذا المكان الجميل
[B]صحوتُ على حرارة الشمس تلسعني .. ولزوجة ٌ من الدم ِ والملح بينَ أصابعي وأنا منكفيءٌ على قطعةِ خشبية عائمةٍ في عرض البحر .. بصعوبة أستفيق وأحاولُ أن ألملمَ أفكاري .. مالذي حدث ؟ .. لا أكادُ أذكر .. لقد كنتُ مع بعض أصدقائي في قاربٍ صغير .. حينما داهمتنا عاصفة ٌ هوجاء وتلاطمت الأمواج .. لقد كان أحدنا يتشبثُ بالآخر إذا أيقنَ بالسقوط وكأنه يريد أن يسقطهُ معه .. مالذي حدثَ بعد ذلك ؟ .. لا أدري ...
لقد حذرني جدي ذلكَ الشيخ ُ العجوز .. كانت الدموعُ تترقرق في عينيه وهو يتوسلُ إليَّ بأن لا أخوضَ هذه المغامرة .. صورته ماثلة ٌ أمامَ عينيَّ ببصماتِ الزمن تلك التجاعيدُ على جبينه .. حركة يديهِ النحيلتين ِ المترهلتين كالمدبوغتين يحركهما بغضب : لا تذهب كما ذهب أبوك وذهبَ الكثيرون ولم يرجع منهم أحد .. البحر قديمُ الغدر لا تأمنه أمواجهُ لا ترحم ياولدي ..
لم أكن مقتنعاً أبداً كانَ البحر يبدو لي هادئاً وديعاً .. ثمَ أنني مللت العيشَ في هذه القرية القاحلة .. مللتُ وجوهاً مكرورة وعاداتٍ قديمة .. لن أكونَ كأبي وجدي والأخرين .. لن أعيشَ وأموتَ هنا .. أكره رتابة العيش ِ في هذا المكان .. مللتُ ملوحة الأرض وطعم السمك .. لن أبقى لآكلُ السمك ويأكلني السمكُ في النهاية كما يحدثُ للجميع هنا .. أريدُ أن أعيش ..
أصدقائي مثلي تماماً .. كانوا يحلمونَ .. ويمنُّونَ أنفسهم بالجنائن الخضراء .. بالورود والفواكه .. والأسرار التي سمعنا عنها الكثير ولم نرها .. لن يمضي بنا العمرُ دونَ أن نستمتعَ بحياتنا .. أعددنا قاربنا الصغير وأبحرنا .. كان جدي ينادي ويتوسل : يا أولادي هذا القارب ضعيفٌ مهتريء لا يقوى على مقاومةِ أمواج ٍ قاهرةٍ أمامكم .. أتذكَّرُ كلَ هذا والألمُ يفتُّ قلبي .
ها أنا الآن على هذه الخشبة الصغيرة .. زُرقة البحر المخيفة تغمر المكان .. لا أرى أينما قذفتُ ببصري إلا الزُّرقة .. لا أعرف ماذا حلَّ بالبقيـَّـة .. وحدي يحاصرني الماءُ والموتُ من كل ِ مكان .. أريدُ أن أعود إلى البيت .. إلى جدي .. إلى القرية .. أقبلُ بما كرهته من قبل .. لكن .. لكن .. لا أريدُ أن أموت ...
بحرٌ لا ساحلَ له يمتدُّ على مدى بصري ويبعثُ اليأسَ في أعماقي .. ظمأ يقتلني وهذا الماءُ الغزير لا يزيدني إلا عطشاً على عطش بملوحته الممجوجة .. يَثقلُ جفناي .. ويَغيبُ وعيي .. لا أعرف كم مضى من الوقت ...
أستيقظ ُ على لغطٍ كثير .. وأصواتِ أناس .. وأيدٍ تـَرْبـِتُ على خدَّيَّ توقظني .. وماءٍ باردٍ زلال ينهمرُ على وجهي .. { الحمد لله على السلامة .. انكتب لك عمر جديد .. قل لا إلهَ إلا الله .. قل الحمد لله } .. كانوا يتجمهرونَ حولي يسقونني الماءَ جُرَعاتٍ ويضمِّدونَ جراحي وأنا أحاولُ إدراكَ الأمر .. أحاولُ أن أعرفَ أينَ أنا .. إنها سفينة .. لابد أنهم رأوني وانتشلوني ..
بعدَ أن تناولتُ الطعامَ واغتسلتُ وارتديتُ ملابسَ أخرى .. ذهب جوعي وظمئي وخوفي ووجلي واستجمعتُ قواي وهدأت نفسي .. وقفتُ في مقدمة السفينة .. كنتُ متلهفاً للعودة إلى قريتي وإلى جدي .. لم أكن مخطيءً ياجدي .. ربما أكونُ قد تعجّـلتُ الأمر .. أخطأتُ في الوسيلة .. لكنَّ غايتي كانت حقاً مباحاً .. وهدفاً مشروعا .. ومنذ ُ اللحظة الأولى التي تحط ُ فيها قدميْ على أرض ِ قريتي .. سأجمعُ الأخشابَ لبناءِ سفينةٍ تستطيعُ .. يوماً ما .. أن تهزمَ الأمواجَ .. وأبلغ ُ بها شاطيءَ حلميَ الكبير بإذن ِ الله .[/B]
[B]عبدالله بن عبدالكريم الخميس[/B]