من يوميات رجل
يومٌ قبل الرحيل:
كانت الساعة قد قاربتِ الرابعة صباحا, نهظتُ منَ الفراشِ أتحسسُ بيديّ باحثا عن الكتابِ الذي كنت أقرأ فيه قبلَ أن يغشاني النومْ, تُرى أينَ أوقعتُه, حسنا لا بأس, سأجدُهُ حتما, ولكن بعدَ حين. صوتُ المؤذّنِ أفزَعَني, يا له مِنْ صوتٍ مزعجْ, ما أسوأ أن تدعونا أصواتٌ مثلُها إلى الخشوعِ والتأمُلْ.. حي على الصلاة.. حي على الصلاة.. وكأنه يركلني بصوته.. لكن لا بأس , لا بأس. نهظتُ متكأً على ذِراعِ السرير لأجِدَ المصباحْ.. حسنا حي على الصلاة.. أنرتُ طريقي كي اذهبَ لأتوظأ.. أحسَسْتُ ببرودةِ الماء تلسعُ وجهي.. وتذكرتُ زوجتي التي كانت تهيئ لي حتى الماءَ الدافيء.. ما أكثرَ النِعمْ التي لا نحسُ بوجودِها حتى نَفقِدُها فنتحسّرُ عليها ..
ألله أكبرْ.. ألله أكبرْ.
عبلة.. واقفة تنتظر كعادتها, حسنا قطتي الصغيرة سأجِدُ ما يسدُ جوعَكِ. توجهتُ إلى المطبخ باحثا عما يريحُ رفيقتي كل صباح, عندما عُدتُ كانت عبلة قد إختفتْ.. أينَ هي يا ترى, إنها لا تتركني إطلاقا في مثل هذه اللحظات.. وجهتُ نورَ المصباحِ إلى الممرِّ المؤدي للباحةِ الخلفية.. أينَ أنتِ يا صغيرتي.. إنها تعرفني من صوتي ولن تتركني وهي على يقين بأنني سأُطعِمُها كل صباح بعد أذانِ الفجر. ولكنْ مهلا ,, ما هذا؟ تسمرتُ في مكاني وكأنني أرى شيئا ما أمامي في نهاية الباحة.. ليس معي شيءُ لادافِعَ به عن نفسي في هذا الظلام .. حاولتُ أنْ أستجمعَ قواي ..ركزتُ نورَ المصباحِ إلى الشيء الذي أراهُ أمامي .. ما هذا .. إنّه يُطعمُ عبلة بيده .. رفع رأسه باتجاهي .. يا إلهي .. إنه هو .. هو وليس غيرُه .. هو وكيف أتوهُ عنه.. لا .. لا .. مستحيل .. تجمدتْ أوصالي وأنا أنظرُ إليه , وجهُه , لحيتُه التي لم أرها قط من قبلُ .. أيكون هو فعلا , أم أنني أحلُمْ .. لا إنه ليس بِحُلم .. أنا على يقين ولمْ اُجَنْ .. رأيته أمامي .. نهضَ وانتصبتْ قامتُه.. قال بصوته التي طالما سمعته.. لا تخف.
يوم الرحيل :
- أي بني.. قد أثقلتُ عليك .. وحمّلتُكَ ما لا تُطيقْ .. جزاكَ اللهُ خيرا على ما صنعتْ .. خُذْ هذا.
ناولني مبلغا من المال لَمْ أرَ له مثيلا من قبلُ ..
- لَمْ أفعلْ ذلكَ مقابلَ اموالٍ تقدمُها لي.
- لقد تعرضتَ لِخطرٍ كبير وربَما للموت .
- ليس أكثر مما تعرض له الكثيرون . رأيتُكَ بِحاجَةٍ للمساعدةَ فقدمتُها لكْ .
- لقد إشتريتَ الكثيرَ من الأدوية لتعالجني مِنْ جُرحي .. وهذا الذي قدمته لك جزءٌ مما تستحقْ.
لم أستطِعْ ألتلفظَ بكلمةٍ واحدة .. لِمَ تُراني فعلتُ ذلك .. لا أدري , ولكن كلَ الذي أعلمه أني كنتُ أتمنى أنْ اُساعدَهُ أكثر مما فعلتْ.. وَضَعَ يَدَهُ على كتفي.
- إنك رجلٌ شهم وطيبَ القلب . إياكَ أنْ تتحدث عما رأيتَ ما دُمتُ حيا.. ولكنكَ حُرٌ بالحديث عما جرى في بيتِكَ بَعدَ أن أرحلْ , ليسَ مِنْ دارِكَ فحسبْ .. بلْ مِنَ الدنيا.
- سيدي , أليس من الأفضل أنْ تُغادِرَ البلاد بَعدَ أنْ كَثُرَ فيها الغوغاءُ وسادَ فيها قومٌ لا يرحمون..
- بلى.. لكنها الاقدار .. وأنا لست مِنَ الرِجالِ الذينَ يتركونَ ساحات الوغى . عِشتُ هنا وسأموت هنا ..
- وأهلك الذين سيفتقدونَك .. ألا تشتاقُ لهم .
إبتسم ونظرَ الي نظرةَ الواثقِ الذي لا تهزُهُ الدنيا إن أدبَرَتْ ..
- لا عليك .. كل شيءٍ سيكون على ما يرام..
خطواته وهو يبتعد عني أشعرتني بالاسى .. ما كان ينبغي أنْ أترُكَهُ يَرحلْ.. ولكنها الاقدار كما قال.
يوم بعد الرحيل
لن أكتُبَ شيئا عَنْ أيامي بَعدَ رَحيله.. فكلها سواء..وليس فيها ما يُثلجُ الصدور.. كل الايامِ سواسية .. بليدة .. أم تُراني أنا الذي فَقَدْتُ الاحساس بغدي.. ليتَكَ تعودُ يا سيدي .. ليتَكَ تعودْ.